إسلامالحياة والمجتمع

الحركة السنوسية وأفكار الصوفية مع الجهاد


طارق سويدان- الحركة السنوسية مع الصوفية والجهاد

الصوفية هي حركة، اشتق اسمها من الصوف، فقد كانوا يلبسونه، علامة على الزهد، والتنزه عن الدنيا، واليوم تنوعت الصوفية وتغيرت أفكارها.

 هناك صوفية تظهر الزهد في الدنيا، وكثرة العبادة، وعشق المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنها تحمل عقائد مشوشة، تؤدي إلى أن تداهن الحاكم الظالم، وتنساق خلفه، بلا وعي ولا تفكير ولا تقوى.

وهناك صوفية، لديها روحانية عالية، وعشق للمصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنها تحمل عقيدة سليمة، وترفع راية الحق عالياً فوق كل راية.

وتختار الجهاد طريقاً لمواجهة الظلم والاستعمار، يقدمون علمهم لنشر الدعوة إلى الله تعالى، ويقدمون خيرة شبابهم، في سبيل تحرير الأرض، من عدو مستعمر، لا يبقي ولا يذر.

قصتنا لهذا اليوم، مع الصوفية الجهادية، ونبدأها مع قصة الشيخ المجاهد، محمد بن علي السنوسي، من ليبيا، مؤسس الحركة السنوسية.

ما هي الحركة السنوسية الصوفية؟

هي دعوة إسلامية، ظهرت في ليبيا، وعمت مراكزها الدينية، شمال أفريقيا والسودان، والصومال ومكة المكرمة، وبعض بلاد الإسلام الأخرى.

تأسست دعوة السنوسية، في القرن الثالث عشر الهجري، والتاسع عشر الميلادي، عندما شعر مؤسسها، بضعف المسلمين، وتأخرهم دينياً وسياسياً واجتماعياً.

في وقت انتشرت فيه الكثير من حركات الصوفية، المبتدعة الخارجة عن جادة الصواب، وخدرت الأمة، وخدرت الدين.

فأراد أن يعدل كل هذا، بطرح جديد ووعي فريد، وهو الشيخ محمد بن علي السنوسي، الذي ولد في عام 1202 للهجرة، الموافق 1787 الميلادي.

حياة محمد بن علي السنوسي

ولد محمد بن علي السنوسي في الجزائر، ونشأ في بيت علم وتقى، وعرف منذ صغره، بالعلم وعرف بحبه للعلم، وبمخالطة الصالحين.

توفي والده وهو صغير، في عمر السنتين، فتكفلت بتربيته عمته فاطمة، وكانت فاطمة من فضليات أهل الأرض في زمانها، في الصلاح والتقوى والعلم.

وربته على ذلك، وسارت به في طريق العلم، ومنذ أيامه الأولى، تتلمذ على يد عدد من شيوخ بلدته، حتى أتم حفظ كتاب الله تعالى، برواياته السبعة.

الرحلة في طلب العلم إلى المغرب وليبيا

وعندما بلغ سن الرشد، كان قد ختم كتاب الله تعالى، وتطلعت نفسه، إلى اكتساب المزيد من العلوم، فرحل إلى فاس في المغرب، وهي مركز العلماء آنذاك.

وهناك في فاس، تابع دراسته، في جامعة مسجد القرويين الشهير، وتلقى العلم، على يد مشايخ فاس، لمدة سبع سنوات، وتأسس العلم الأصلي لديه في فاس.

واتجه إلى التصوف الحق السني، بدون انحراف ولا شعوذات، ولكن التصوف، بمعنى الروحانية، وهناك مع الروحانية من جهة، وسلوكه المستقيم من جهة.

بدأ الناس يتعرفون عليه، وأعجبوا بمنهجه، وعلمه واستقامته، حتى صار مدرساً في الجامع الكبير في فاس، ومنها اتجه إلى جنوب الجزائر.

وعمل مدرساً وواعظاً، وطلب العلم على يد علماء الجزائر، ومنها انتقل إلى طرابلس، وأخذ العلم الشرعي فيها، ولكنه لم يطل المكوث فيها.

رحلة طلب العلم الشرعي إلى مصر ومكة

ارتحل محمد بن علي من جديد، قاصداً مصر، واتجه إلى الأزهر الشريف، معلماً ومتعلماً واستفاد منه الناس، ولجأ إلى  مركز العلم الشرعي في العالم كله، الأزهر الشريف.

وبعد إقامته وتعلمه العلم، توجه إلى بيت الله تعالى، لأداء مناسك الحج في عام 1240 للهجرة، 1825 للميلاد، وهذه الرحلة غيرت حياته.

التعلم من الشيوخ ودراسة المذاهب

استقر في مكة مدة من الزمن، فتتلمذ على يد كثير من كبار العلماء في مكة، سمع من أئمة العلم الكبار، فتعلم من علماء مكة، التواصل من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

وتلقى من علم ابن تيمية، وتربى على منهجية الشيخ، حجة الإسلام العظيم، أبو حامد الغزالي، وتلقى العلم الأصولي السلفي، من تلاميذ الإمام محمد بن عبد الوهاب.

فجمع بين صوفية المنهج، وأصولية أهل المغرب، وسلفية محمد بن عبد الوهاب، وأحمد بن حنبل، فوجد ضالته العلمية في مكة.

وكان مذهبه مالكياً، ولكنه لم يتردد في تعلم المذهب الحنبلي، صحيح أنه كان يسير على منهج الإمام مالك، ولكنه كان يخالفه، إذا جاء الحق مع غيره.

تأسيس أول زاوية في مكة للصوفية

وخلال مكوثه في الحجاز، وخلال موسم الحج، التقى بضيوف الرحمن، واضطلع من خلالهم على قضايا العالم الإسلامي، وصار فهمه أوسع، واهتم بشؤون المسلمين.

وأصبح يحث الناس على مقاومة الاستعمار، الذي عم الأمة، وبالذات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي كبت على قلب الجزائر، لمدة مائة وأربعين عاماً.

وفي مكة، بدأ المنهجية الخاصة به، فأسس ما سماه الزاوية، وهي مصطلح صوفي، ولكنه طورها، وهذه الزاوية، هي التي أسست فيما بعد، بما سمي بالحركة السنوسية.

وعمل على أن تكون الزاوية، مركز من مراكز العلم، وكان يعلم فيها، ويعمل ويعد أجيال المستقبل، على الجهاد في سبيل الله، واكتساب السلوك الإسلامي الصحيح.

بالإضافة إلى العقيدة السليمة، والتعلم من العلم الشرعي، بكل جوانبه، وعدم التكسب من العلم الديني، بل القيام بالعمل في جميع الأعمال المنتجة.

وقام بتدريب طلاب العلم، والمريدين الملتحقين في الزاوية، وانتشرت الزوايا في مكة، فكانت جميعها اشتغال بالتدريب على المهن والصناعات، إضافة إلى الروحانية والعلم والجهاد.

الارتحال للجهاد ضد الاستعمار الفرنسي

مكث محمد علي السنوسي في مكة خمسة عشر عاماً، وبعد كل هذه السنوات، ارتحل قاصداً الجزائر، للمشاركة في الجهاد ضد الفرنسيين.

ولكن وصلت الأخبار إلى استخبارات الاستعمار، فأغلقوا في وجهه الطريق، حينها غير وجهته، وأقام في طرابلس في ليبيا.

ومن طرابلس، أخذ يمد الشيخ عبد القادر الجزائري، قائد المجاهدين، بالعديد من المجاهدين والمال والسلاح، وهذه هي الصوفية الصحيحة.

وحث أتباعه الذين انتشروا في العالم الإسلامي، على المشاركة في القتال المسلح ضد الفرنسيين، دعماً لحركة الجهاد، ولدحر المستعمر، بإمرة عبد القادر الجزائري.

مراكز الحركة السنوسية الصوفية

بقي الشيخ السنوسي في ترحاله وتنقله بين المدن، حتى استقر في برقة، وأسس زوايا جديدة، تعلم  الناس الدين، وأصبح للدعوة السنوسية، مركزان رئيسيان.

مركز في الشرق في الحجاز، ومركز في الغرب في برقة، وكان السنوسي حريصاً، على بناء الزوايا، في الأماكن الاستراتيجية عند التقاء الطرق.

لتكون هذه المراكز الصوفية، حصن منيع ضد المحتل، وجمع التصوف والجهاد، في كل زاوية أنشأها هو، وأتباعه في ليبيا.

وزاوية البيضاء، كانت أول زاوية بنيت للسنوسية الصوفية، خارج الحجاز، ورأى الشيخ السنوسي، أن هذا هو الأسلوب الفعال، لدحر الاستعمار.

وفي نفس الوقت، حاول مناصرة الدولة العثمانية، دولة الخلافة آنذاك، ولكنه لم يناصر أي ظلم يفعله ولاتها، أو حتى بعض السلاطين.

أولاد محمد علي السنوسي

رزق الشيخ السنوسي بوليدين، هما محمد المهدي ومحمد الشريف، ورباهما على ما تربى عليه، فاجتهدا مثله بطلب العلم، ونشر الدعوة، والتربية على الجهاد.

ثم عاد السنوسي إلى الحجاز من جديد، ومكث بها ثماني سنوات، ينشر العلم لقبائل الحجاز، عبر الزوايا التي أسسها، وكان هناك بعض الناس ضد الجهاد والتصوف.

وبعض العلماء المغايرين، للمنهج الصوفي والجهادي، ولكنه لم يعبأ بذلك، ومرت الأيام والسنين، ليغادر السنوسي مرة أخرى الحجاز.

حيث ذهب ليحرك الجهاد، ولكنه عندما وصل إلى ليبيا، توفي فيها في عام 1859 الميلادي، فاجتمع كبار العلماء والشيوخ، من الصوفية المنتسبة للحركة السنوسية.

واتفقوا على مبايعة ابنه الأكبر محمد المهدي، الذي كان عالماً، وحافظاً لكتاب الله تعالى،

محمد المهدي السنوسي.

محمد المهدي السنوسي

اهتم بنشر الدعوة بين القبائل، ووحدهم لقتال الفرنسيين، واستمر منهج الصوفية، في ذريته وأولاده، والسنوسية استمرت في الجهاد، حتى استقلت الجزائر في عام 1962.

السنوسيون بشكل عام، ارتبطوا بفكرة الوحدة الإسلامية، والجامعة الإسلامية، التي دعا إليها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

ونشطت الحركة السنوسية في هذا الاتجاه، ونشطت في إعداد أتباعها للجهاد، واستمروا بالقتال، واتجه قائدهم محمد المهدي السنوسي.

إلى منطقة برقة في السودان الغربي، ومن هناك، بدأ يحرض على مواجهة الاستعمار الفرنسي، الذي توجه إلى بحيرة تشاد.

دارت هناك معركة حامية، بين المجاهدين السنوسيين والفرنسيين، واشتد المرض عند محمد المهدي، أثناء هذه المعركة حتى توفي في عام 1902 للميلاد.

وتولى قيادة الحركة السنوسية أحمد الشريف، ابن محمد الشريف، الذي توفي قبل أخيه، وهو كان أيضاً حافظ لكتاب الله، ورافق عمه محمد المهدي، في ترحاله وجهاده.

كان دور أحمد الشريف، حفيد الشيخ السنوسي، مع الشيخ البطل عمر المختار، رئيسي في قصة السنوسية، ورحلة الجهاد والصوفية.

المعارك بين السنوسيين والفرنسيين

في عام 1911 شارك السنوسيون، مع شرفاء ليبيا، بالدفاع عن شرف البلاد، وكانت إيطاليا قد بدأت حربها على ليبيا، ودكت البوارج المدن في ليبيا.

تطور الأمر، عندما جاءت الحرب العالمية الأولى، فاختار السنوسيون، الوقوف إلى جانب الحكومة العثمانية، وحلفائها الألمان في مواجهة الإنجليز.

بينما كانت المعارك ما زالت مشتعلة، بينهم وبين الإيطاليين، وأخذ الأتراك يدعمون الجهاد في ليبيا، وأحمد الشريف السنوسي، يخوض المعارك هنا وهناك.

حتى برز على الساحة اسم جديد، ادريس المهدي السنوسي، وهو ابن عم أحمد الشريف السنوسي، وكان قد تم الإتفاق بين الأتراك والإيطاليين، على معاهدة سلام.

وبناءً عليها، توقف دعم العثمانيين للجهاد في ليبيا، عندها نشب خلاف في المواقف، بين أحمد الشريف، وبين إدريس المهدي ابن عمه.

فقد رأى أن الإنجليز، لم يبادروا بالعداء، وأن معاهدة السلام، قد فرضت بدعم ليبيا، وكان واجب على العثمانيين أن يستمروا.

فكان يرى عدم دعمهم العثمانيين، وعدم الدخول في معركة مع الإنجليز، فتمت مبايعة إدريس السنوسي، أميراً على السنوسيين.

وأمام هذا التغير في المواقف، ارتحل أحمد الشريف إلى اسطنبول، ومنها إلى الحجاز، وتوفي في المدينة رحمه الله.

ادريس السنوسي

استمر الجهاد في ليبيا، بقيادة ادريس السنوسي، حتى تم توقيع هدنة، بين الإيطاليين والسنوسيين، وعندما استولى الفاشيون، على الحكم في إيطاليا عام 1922.

اشتدت وطأة الإحتلال في ليبيا مرة أخرى، فكسروا الهدنة، وعادت المذابح البشرية، واستولى المحتلون على الزوايا السنوسية، وأعلنوا إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة.

فكان نتيجة ذلك، أن اشتعل الجهاد مرى أخرى، وأمعن الإيطاليين في أساليب الإبادة والقتل، ومحاربة اللغة العربية، والإسلام نفسه.

استمرت حركة الجهاد، واستمر السنوسيون، يجمعون العقيدة السليمة والصوفية السنية، مع الجهاد ضد الطغاة، فكانت صوفية جهاد لا صوفية تخدير.

المجاهد الشهيد عمر المختار

وهنا خرج جمع كبير من المجاهدين الليبيين الأشداء، وبرز الشيخ الشهيد عمر المختار، أسد الصحراء، الذي ولد في عام 1858 في البطنان، في الجبل الأخضر في برقة.

اعتمد عمر المختار في جهاده ضد الإيطاليين، على الكر والفر، ولم يكن لديه جيش منظم، فكان قتاله يشبه حرب العصابات، التي أوجعت العدو.

ولأن المجاهدين، لم يستطيعوا مواجهة الجيش كله، ولهذا قام عمر المختار بمائتين وستين معركة، كلها بطريقة الكر والفر، في ثمانية عشر عاماً.

واستمر في ذلك في قصته المشهورة، إلى أن وقع أسيراً، وما عرف إلا ثابتاً صامتاً صامداً، كان يقسم جنوده إلى مجموعات، حسب قبائلهم.

وكان عمر المختار يضع جنود كل قبيلة، وراء قبيلتها، ويجعل أهلهم ورائهم، حتى تزداد همتهم في الدفاع، عن أهلهم وأرضهم.

استشهاد البطل عمر المختار

وظل المختار في الجبل الأخضر، يقاوم الإيطاليين، على الرغم من الصعوبات الجسيمة، فكان من عادته، أنه كان ينتقل في كل سنة، من مركز إقامته إلى مراكز أخوانه المجاهدين.

وفي السنة التي أسر بها، كان قد خرج كالعادة، وطلب أن يقلل عدد حراسه في السفر، حتى لا يعرفه الإيطاليون، وعن طريق الصدفة، أسر عمر المختار وتمت  محاكمته.

تم الحكم عليه بالإعدام شنقاً أمام الناس، وأحضر الناس إجباراً، ليشهدوا مصير من يقاوم الإيطاليين، فحضر أكثر من عشرين ألف من الناس.

وكان الشيخ عمر المختار، يسير نحو المشنقة، ويردد الشهادتين، حيث استشهد في عام 1931 في جنوب بنغازي.

لقد كان عمر المختار، من بيت علم وكرم، وكان صوفياً أيضاً، من أتباع الحركة السنوسية، القائمة على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الانتصار على المحتل وتحرير ليبيا

استمرت الأمور حتى اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فنشط إدريس السنوسي مرة أخرى، وعقد اجتماعاً في داره في الإسكندرية، من أربعين شيخ، من المهاجرين الليبيين في مصر.

وانتهى الحاضرون، إلى تفويض الأمير، بأن يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية والبريطانية، لتكوين جيش سنوسي، يشترك في استرجاع الوطن.

وبدأ الأمير إدريس، لإعداد الجيوش المساندة، لفتح ليبيا، وسانده الحلفاء في الحرب، وعند انتهاء الحرب بهزيمة ألمانيا وإيطاليا.

خرجت إيطاليا من ليبيا، وعاد السنوسي على الفور إلى ليبيا في عام 1944، واستقبله الشعب في برقة، استقبالاً حافلاً.

وفي عام 1946 اعترفت إيطاليا باستقلال ليبيا، وحكم الأمير إدريس السنوسي لها، وبات الأمير ملكاُ على ليبيا، التي استنشقت الحرية من جديد.

الصوفية عقيدة محقة

الصوفية الحقة، هي سليمة العقيدة، وسلامة المنهج، لا تعتزل الدنيا، ولا تتبع الأوهام والبدع، والقصص الخرافية، كما يفعل الصوفية اليوم.

الصوفية تعرف أن الآخرة، خير من الدنيا، ولا تتردد في الجهاد ضد المحتل، ولا في الوقوف ضد الطغاة، ولا تقف معهم.

الصوفية الحقة، هي مقبولة، لأنها احتوت هذه المعاني، وزادتها جمالاً، بالروحانية العالية، وعشق الرسول صلى الله عليه وسلم، بلا انحرافات ولا ضلالات.

الصوفية الحقة، هي تعبير عن الإسلام الحق، بالتوحيد والجهاد والعقل، وليس صوفية اليوم،

وانشروا قول المجاهد الشهيد الصوفي العظيم، عمر المختار، عندما تحدث مع الإيطاليين المحتلين فقال:

لإن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي.

 طارق سويدان

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى