إسلامشخصيات

الشيخ عبد القادر الجيلاني


طارق سويدان - سلسلة المبدعون

اليوم حديثنا عن شخصية روحانية إيمانية وصلت إلى القمة في هذا المجال نحن نتحدث اليوم عن الإمام الجليل عبد القادر الجيلاني .

الطريقة القادرية الجيلانية الصوفية

عبد القادر الجيلاني هو مؤسس الطريقة القادرية الجيلانية الصوفية، وبعض الناس عندما يسمعون كلمة الصوفية يعتقدون أنها انحراف.

ليست كل الصوفية هي انحراف، الصوفية الحق والصوفية الصحيحة هي جزء من ديننا وجزء من أمتنا، تحدث عنها العلماء كما سنرى في حديثهم عن عبد القادر الجيلاني .

نسب الإمام عبد القادر الجيلاني

نحن نتحدث عن نسب في أعلى درجات النسب هو أبو صالح السيد محي الدين عبد القادر من ذرية سيدنا الإمام الحسن بن علي السبط .

ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه زوج السيدة البتول فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لهذا فإن عبد القادر الجيلاني هو من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم من ذرية الحسن وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدى عشر أباً.

هذا من جهة أبيه، أما من جهة أمه فيرجع النسب إلى سيدنا الحسين. فأمه هي أم الخير أمة الجبار فاطمة بنت السيد عبد الله الصومعي الزاهد.

من ذرية الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضى بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر.

ابن الإمام علي زين العابدين بن الإمام أبي عبد الله الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين

فهو من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين نذكرهم في كل صلاة الله صل على محمد وعلى آل محمد.

فيتصل النسب كذلك ليس فقط بأهل البيت، وإنما هو أيضاً من ذرية سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

ذلك أن والده السيد أبو صالح موسى هو ابن السيدة أم سلمة وهي كريمة الإمام محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.

وأهل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم هم الذين يحيون الأمة باستمرار إذا صلحوا.

ولادة ونشأة عبد القادر الجيلاني في جيلان

ولد الإمام عبد القادر الجيلاني في جيلان شمال غرب بلاد قارس قرب بحر قزوين، في التاسع من شهر ربيع الثاني 460 للهجرة.

نشأ عبد القادر الجيلاني يتيماً، حيث توفي والده بعد ولادته، ومنذ صغر سنه كان زاهداً في الدنيا ومقبلاً على الآخرة وطموحاً إلى العلم والشريعة ومداخلها ومخارجها.

وظهرت عليه علامة أنه ولي من أولياء الله منذ صغره، وكان عبد القادر الجيلاني نحيف البدن ليس بالطويل ولا بالقصير مربوع القامة عريض الصدر.

وطويل اللحية أسمر اللون ومقرون الحاجبين له صوت جهوري وسمت بهي وقدر علي وعلم وفير ونسب عظيم رحمه الله.

أخلاقه وعلمه

ومن أخلاقه أنه يقف مع الصغير والجواري، ويجالس الفقراء، وقوة الصدق وعزة بنفس الوقت فبينما كان يلاطف الصغار لا يقوم إلى أعيان الدولة.

ولا يذهب إلى باب وزير أو سلطان يطلب منه شيئاً أو يسأله أي مسألة، واتفقت الألسنة وشهادات كل المعاصرين على حسن خلقه وعلو همته وتواضعه لله عز وجل. وعلى سخائه وإيثاره لغيره.

يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : فتشت الأعمال كلها، فما وجدت أفضل من إطعام الطعام ولا أشرف من الخلق الحسن، أود لو كانت الدنيا بيدي لأطعمتها الجائع.

ويقول لأحد تلاميذه لما عاتبه بفقره وأنه يعطي الطعام دائماً قال: ماذا أفعل كفي مثقوبة لو جائني ألف دينار من الذهب لم تبت عندي.

فتميز عبد القادر الجيلاني بالإيمانيات والروحانيات والأخلاق العظيمة، العلم بالنسبة له عظيم ولكنه كان شيء ثانوي مقابل هذا الخلق العظيم الذي تقلده عبد القادر الجيلاني .

عاش في طفولته في جيلان لكنه لم يجد فيها ما يروي طموحه ولا ظمأه من العلم، فحدثته نفسه بالسفر إلى بغداد، حاضرة العلم والدنيا في ذلك الوقت.

الهجرة إلى بغداد

وحرص أن يهاجر إليها من أجل أن معظم كبار علماء الأمة موجودون في بغداد، ولما رأت أمه اصرار ابنها الشاب على السفر شجعته لأنها رأت فيه الذكاء والقوة.

وأخت تجهز عبد القادر الجيلاني وهي تكفكف دموعها لأنها تعلم أنها لن تراه، وكانت في ذلك الوقت في عمر السبعين، ولكنها كانت تأمل أن تجتمع معه تحت لواء جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأعطته والدته أربعين ديناراً من الذهب وخبأتها في ثياب عبد القادر الجيلاني في مكان خاص وأوصته قالئة: يا بني إياك أن تكذب إن المؤمن لا يكذب.

توبة اللصوص على يد عبد القادر الجيلاني

وهاجر عبد القادر الجيلاني إلى بغداد وفي الطريق هجمت على القافلة مجموعة من اللصوص وأخذوا الأموال من الجميع.

وجاءوا إليه وفتشوه فلم يجدوا شيئاً، فقالوا له هل معك شيء؟ قال: نعم. قالوا: ما معك؟ قال: معي أربعين دينار ذهب. فلم يصدقوه.

فقالوا: أين هي؟ قال: معي في ثيابي. فقالوا: أخرجها. فنادوا رئيس العصابة وقالوا له: أن هذا مجنون. فسأله عن القصة. فقال: عاهدت أمي وعاهدت الله من قبلها أن لا أكذب.

فقال له: ولو كان في ذلك أخذ أموالك؟ وقد يكون ذهاب حياتك؟ قال: نعم، لا أكذب. فاهتز رئيس العصابة، وقال له: سامحني واقبل عذري ودعني أتوب على يديك.

الوصول إلى بغداد

وصل عبد القادر الجيلاني إلى بغداد في سنة 488 للهجرة، في قصد طلب العلم وكان عمره أنذاك ثمانية عشرة عاماً.

كانت بغداد في ذلك في أوج عظمتها وغناها، ورغم ذلك لم يكن لديه إلا مبلغ بسيط فصرفه وبقي بدون مال، فابتلي الشيخ رحمه الله تعالى في أول حياته بالكثير من الجوع والفتن.

ولكن لم يطلب من الناس شيئاً، وتحدث الإمام عبد القادر عن نفسه: كنت آكل من حواشي النهر وكنت أمشي على الشوك حافياً وكنت أنام في البراري والخرب.

وكنت ألبس المرقع والرخيص من الثياب، حتى ظن الناس أني مجنون. وقد لقبوه كذلك وهذه من صفات العظماء والعلماء.

حدثته نفسه بترك بغداد والرجوع إلى أهله، لكن الله ثبته من أجل أن يستمر في طلب العلم، وتابع طريقه الصعب وكانت عزيمته وهمته قد ساعدتاه على بلوغ المراتب العليا.

وبرع عبد القادر الجيلاني في جميع العلوم، حتى أنه كان يناظر أكبر العلماء في ثلاثة عشر علماً من العلوم.

ومن الذين تأثر بهم الإمام الجيلاني هو حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، وسار على منهجه وزاد عليه. وبالإضافة إلى تعلمه من الغزالي.

صحح بعض أخطاء الغزالي في قضايا الأحاديث النبوية، وسمع الأحاديث على أيدي الكثير من الحفظة ودرس الفقه والأدب واللغة وألم بعلوم الشريعة.

وبقي لمدة ثلاثين عاماً وهو يتلقى ويتعلم، يسمع ويربي نفسه، فلما استقر لديه العلم فاق عبد القادر الجيلاني جميع علماء عصره، وصار المفتي في بغداد وخضع له العلماء الذين كانوا حوله في عصره.

توجهه إلى الروحانيات والتصوف

بعد ذلك صحب جماعة من أرباب القلوب وأكابر أهل الحقيقة الإيمانية، فأخذ عنهم علم التصوف الحق فصار من أهل الروحانيات والإيمانيات.

لكنه تأسس في العلم بالفقه والحديث والعقيدة الصحيحة وعلوم الشريعة ثم أصبح من أهل التصوف الذي ليس فيه انحراف.

ولذلك بجمعه بين هذا العلم الشرعي المتين والإيمانيات والروحانيات بأعلى درجاتها، تصدر إلى الوعظ والإرشاد مع تضلعه بالكتاب والسنة.

يقولون جلس عبد القادر الجيلاني ليقوم في الوعظ في سنة 521 للهجرة في مدرسة المخرمي قاضي القضاة وكان الوعظ مؤثر جداً.

كان روحانياً مع علم شرعي ليس فيه انحراف، فصار له صيت كبير في الزهد، وأخذ يدرس في هذه المدرسة ويعظ الناس حتى ضاقت بالناس الذين وصل عدد الحاضرين في المدرسة 70 ألفاً.

حتى تبرع بعض التجار بتوسعة المدرسة عدة مرات، وكانوا لكثرتهم لا يسمعونه فيقول الجملة فيرددها الأول إلى مجموعة التي خلفه والثاني يبلغ الذي خلفه وهكذا كان يبلغ.

بالعلم المتين والإيمان العميق أظهر الله تعالى الحكمة من قلبه على لسانه، حتى صار من أشهر الأولياء الذين وقع عليهم الإجماع في ولايتهم.

وتتلمذ على يديه عدد كبير من الفقهاء والعلماء والمحدثين، وصارت إليه قضية الوعظ وكان أيضاً هو المفتي في بغداد.

وكانت الفتاوى تأتي الشيخ عبد القادر ولم تكن تبيت عنده فتوى يفكر فيها، بل يكتب فوراً عقب قراءتها. وهذا يدل على تمكنه في العلم.

وكان يفتي على مذهب الإمام أحمد وعلى مذهب الإمام الشافعي، وذلك من تمكنه من المذهبين بكل تفاصيلهما.

وكانت تعرض فتواه على علماء العراق فكانوا يتعجبون من صوابها وسرعتها.

وصف الإمام النووي للشيخ الجيلاني

يقول شيخ الإسلام محي الدين النووي رحمه الله: كان الشيخ عبد القادر الجيلاني شيخ السادة الشافعية والحنابلة ببغداد .

وانتهت إليه رئاسة العلم في وقته وتخرج من مدرسته عدد كبير من الأكابر وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق.

وتتلمذ له خلق لا يحصون من أرباب المقامات الرفيعة، وانعقد عليه اجماع العلماء بالإعظام والرجوع إلى حكمه.

ويهرع إليه أهل التصوف والإيمانيات من كل فج، وكان جميل الصفات شريف الأخلاق امل الأدب والمروءة كثير التواضع وافر العلم شديد الاقتفاء للشرع وأحاكمه معظماً لأهل العلم.

مكرماً لأرباب الدين والسنة مبغضاً لأهل البدع والأهواء ومحباً لمريدي الحق مع دوام المجاهدة للنفس ومراقبة الموت.

وكان له كلام عالي في علوم المعارف، وكان شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله شبحانه وتعالى، وكان سخي الكف كريم النفس. ولم يكن في زمنه مثله رضي الله عنه.

ذكره في كتاب رجال الفكر والدعوة

وذكره الشيخ أبو الحسن الندوي بكتابه العظيم اسمه رجال الفكر والدعوة، فقال: ولم يمنعه اشتغاله بالوعظ والإرشاد وتربيةالنفوس من الاشتغال بالتدريس ونشر العلم ونصر السنة والعقيدة.

ومحاربة البدع وقد كان في العقيدة والفروع متبعاً للإمام أحمد والمحدثين السلف.

وصف الإمام ابن تيمية

ومدحه كذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال عنه وعن الجنيد رحمهما الله أئمة الصوفية العظام، قال عنهما: هذا هو التصوف الحق.

وكلام العلماء فيه شيء عظيم.

خاتمة

أحببت أن أضرب نموذجاً، أن ليس فقط الفقهاء والعلماء، أيضاً أهل الإيمانيات وأهل التصوف يمكن أن يكونوا من هؤلاء المبدعين الكبار والعظماء والقدوات.

وعبد القادر الجيلاني بنسبه العظيم وعلمه العميق وروحانيته العالية وخشوعه لله عز وجل، هو النموذج الأعظم بعد الأوائل من الصحابة والتابعين الكرام.

هو النموذج في الوصول إلى هذا التوازن بين العلم والإيمان.

أتمنى من أهل العلم أن يرطبوا قلوبهم بشيء من الإيمانيات والتصوف الحق، وأتمنى من أهل التصوف أن يبنوا تصوفهم على الدليل الصحيح والعلم المتين والابتعاد عن البدع.

فنتوازن كما توازن هذا الإمام العظيم عبد القادر الجيلاني رمز التوازن بين العلم والإيمان لعلنا نقتدي به إن شاء الله.

إلى لقاء آخر وشخصية أخرى عظيمة إن شاء الله استودعكم اله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 الدكتور طارق السويدان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى