إسلامشخصيات

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق


القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق إنه أباك خير هذا التابعي الجليل، إنه فتى جمع المجد من أطرافه كلها، حتى لم يفته منه شيء، فأبوه محمد بن أبي بكر الصديق، وأمه بنت كسرى يزدجرد آخر ملوك الفرس.

وعمته عائشة أم المؤمنين، وهو فوق ذلك كله، قد توج هامته بتاج التقى والعلم، أفتحسب أن فوق هذا المجد مجداً، يتنافس فيه المتنافسون.

ذلك هو القاسم بن محمد بن أبي بكر، أحد فقهاء المدينة السبعة، وأفضل أهل زمانه علماً، وأحدّهم ذهناً وأشدّهم ورعاً، فتعالوا نبدأ قصة حياته من أولها.

طفولة القاسم بن محمد بن أبي بكر

ولد القاسم بن محمد بن أبي بكر في أواخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن الطفل الصغير ما كاد يدرج في عشه، حتى عصفت في ديار المسلمين ريح الفتنة الهوجاء.

فاستشهد الخليفة العباد الزاهد ذو النورين، وهو منحنِ بصلبه على أجزاء القرآن، ونشب الخلاف الكبير بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان أمير بلاد الشام.

وفي سلسلة مفزعة مذهلة من الأحداث المتلاحقة، وجد الطفل الصغير القاسم بن محمد نفسه، يحمل مع أخته من المدينة إلى مصر.

فقد كان عليهما أن يلحقا بأبيهما، بعد أن غدا والياً على عليها، من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم رأى أظافر الفتنة الحمر تمتد إلى أبيه، وتقتله شر قتلة.

ثم ألفا نفسه ينقل مرة أخرى من مصر إلى المدينة، بعد أن استولى عليها أنصار معاوية، وقد أصبح يتيماً لطيما.

العيش يتيماً في كنف عمته عائشة رضي الله عنها

حدث القاسم بن محمد عن رحلة العذاب هذه، وما تلاها فقال: لما قتل أبي بمصر، جاء عمي عبد الرحمن بن بكر، فاحتملني أنا وأختي الصغيرة ومضى بنا إلى المدينة.

فما أن بلغناها، حتى بعثت إلينا عمتي عائشة رضي الله عنها، فحملتنا من منزل عمي إلى بيتها، وربتنا في حجرها.

فما رأيت والدة قط ولا والداً أكثر منها براً، ولا أوفر شفقة، كانت تطعمنا بيديها ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيء أكلته، وكانت تحنو علينا حنو المرضعات على الفطيم.

فتغسل أجسادنا وتمشط شعورنا، وتلبسنا الأبيض الناصع من الثياب، وكانت لا تفتأ تحضنا على الخير وتمرسنا بفعله، وتنهانا عن الشر وتحملنا على تركه.

وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تزيدنا براً واتحافاً في العيدين.

فإذا كانت عشية عرفة، حلقت لي شعري وغسلتني أنا وأختي، فإذا أصبحنا، ألبستنا الجديد وبعثت بنا إلى المسجد، لنؤدي صلاة العيد، فإذا عدنا منه جمعتني أنا وأختي، وضحت بين أيدينا.

مرحلة الشباب في كنف عمه عبد الرحمن

وفي ذات يوم ألبستنا ثياباً بيضاً، ثم أجلستني على إحدى ركبتيها وأجلست أختي على ركبتها الأخرى، وكانت قد دعت عمي عبد الرحمن.

فلما دخل عليها حيته ثم تكلمت، فحمدت الله جل وعز وأثنت عليه، بما هو أهله، فما رأيت متكلماً قط من رجل أو من امرأة قبلها ولا بعدها، أفصح منها لساناً ولا أعذب منها بياناً.

ثم قالت: أي أخي، إني لم أزل أراك معرضاً عني، منذ أخذت هذين الصبيين منك وضممتهما إلي، ووالله ما فعلت ذلك تطاولاً عليك، ولا سوء ظن بك.

ولا اتهاماً لك بالتقصير في حقهما، ولكنك رجل ذو نساء، وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما، فخشيت أن يرى نسائك منهما ما يتقذرنه فلا يطبن به نفسا.

ووجدت أني أحق منهنّ بالقيام على أمرهما في هذه الحال، وها هما الآن قد شبا، وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما، فخذهما وضمهما إليك، فأخذنا عمي عبد الرحمن وضمنا إلى بيته.

حنين القاسم بن محمد إلى منزل عمته عائشة رضي الله عنها

بيد أن الغلام البكري القاسم بن محمد ظل معلق القلب ببيت عمته، أم المؤمنين رضوان الله عليها، فصار يوزع وقته بين بيتها وبيت عمه.

وقد ظلت ذكريات منزل عمته الشذية الندية، تحيا في خاطره ما امتدت به الحياة، فاستمع إلى بعض حديثه عن تلك الذكريات، حيث يقول:

قلت ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها: يا أمتا، اكشفي لي عن قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وقبري صاحبيه، فإني أريد أراها.

وكانت القبور الثلاثة مازالت داخل بيتها، وقد غطتها بما يسترها عن العين، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا واطئة.

قد مهدت بصغار الحصى الحمر، مما كان في باحة المسجد، فقلت: أين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشارت بيدها وقالت: هذا.

ثم تحدرت على خديها دمعتان كبيرتان، فبادرت فمسحتهما حتى لا أراهما، وكان قبر النبي عليه الصلاة والسلام مقدماً على قبر صاحبيه.

فقلت: وأين قبر جدي أبي بكر؟ فقالت: ها هو ذا، وكان مدفوناً عند رأس النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقلت: وهذا قبر عمر؟ فقالت: نعم.، وكان رأس عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي، قريباً من رجل النبي عليه الصلاة والسلام.

طلب العلم وحفظ القرآن

ولما شب الفتى البكري كان قد حفظ كتاب الله عز وجل، وأخذ عن عمته عائشة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شاء الله أن يأخذ.

ثم أقبل على الحرم النبوي الشريف، وانقطع إلى حلقات العلم، التي كانت تنتثر في كل ركن من أركانه، كما تنتثر النجوم الزهر على صفحة السماء.

فروى عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن خباب ورافع بن خديج، وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب وغيرهم.

حتى غدا إماماً مجتهداً، وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة، وكان الرجل لا يعد رجلاً عندهم حتى يتقن السنة.

الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر

ولما اكتملت للشاب القاسم بن محمد أدوات المعرفة، أقبل الناس عليه يلتمسون عنده العلم بشغف، وأقبل هو  عليهم يبذله لهم بسخاء.

فكان يأتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة كل يوم في موعد لا يخلفه، فيصلي ركعتين يحي بهما المسجد.

ثم يأخذ مكانه أمام خوخة عمر، في الروضة الغراء، بين قبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبين منبره، فيجتمع عليه طلاب العلم من كل مكان، ينهلون من موارده ما يملأ النفوس العطشى.

ولم يمضي طويل وقت، حتى أصبح القاسم بن محمد، وابن خالته سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إمامي المدينة الموثوقين.

وسيديها المطاعين ورجليها النافذين، على الرغم من أنه لم تكن في أيديهما ولاية ولا سلطان، فقد جعلهما الناس أسياداً عليهم، لما كانا يتحليان به من التقى والورع.

وما يحملانه في صدريهما من العلم والفقه، وما يزدانان به من الزهادة، بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله عز وجل.

توسعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقد بلغ من مكانتهما في النفوس، أن خلفاء بني أمية وولاتهم، كانوا لا يقطعون أمراً في شأن من شؤون المدينة، إلا برأيهما.

ومن ذلك، أن الوليد بن عبد الملك قد عقد العزم على توسعة الحرم النبوي الشريف، ولم يكن في وسعه أي أن يحقق هذه الأمنية الغالية، إلا إذا هدم المسجد القديم من الجهات الأربع.

وإزالة بيوت زوجات النبي صلوات الله وسلامه عليه، وضمها إلى المسجد، وهي أمور تشق على الناس ولا تطيب نفوسهم بها.

فكتب إلى عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة، يقول: لقد رأيت أن أوسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يصبح مئتي ذراع في مئتي ذراع.

فاهدم جدرانه الأربعة، وأدخل فيه حجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، واشتري ما في نواحيه من البيوت، وقدم القبلة إن قدرت.

وإنك تستطيع ذلك، لمكان أخوالك آل الخطاب ومنزلتهم في قلوب الناس، فإذا أبى عليك أهل المدينة ذلك، فاستعن بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، وأشركهما معك في الأمر.

وادفع إلى الناس أثمان بيتهم بسخاء، وإن لك في ذلك سلفي صدق، هما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان.

فدعا عمر بن عبد العزيز، القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم بن عبد الله، وطائفة من وجوه أهل المدينة، وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فسروا بما عزم عليه الخليفة وهبوا لتنفيذه.

فلما رأى الناس عالمي المدينة وإماميها الكبيرين، يباشران هدم المسجد بأيدهما، قاموا معهما قومة رجل واحد، ونفذوا ما جاء في كتاب أمير المؤمنين.

الروم يقدمون المساعدة في توسعة المسجد النبوي

كانت جيوش المسلمين المظفرة، تدق حينها أبواب الحصون إلى مدينة القسطنطينية، وتستولي عليها واحداً بعد آخر، بقيادة الأمير مسلمة بن عبد الملك بن مروان، تمهيداً لفتح القسطنطينية.

فلما علم ملك الروم، بعزم أمير المؤمنين على توسعة المسجد النبوي الشريف، أحب أن يصانعه ويتقرب إليه بما يسره.

فبعث إليه بمائة ألف مثقال من الذهب، وأرسل معها مائة عامل من أمهر البنائين في بلاد الروم، وزود العمال بأربعين حملاً من الفسيفساء.

وأرسل الوليد هذا كله إلى عمر بن عبد العزيز، ليستعين به على بناء المسجد، فأنفقه عمر بمشورة القاسم بن محمد وصاحبه.

تشبه القاسم بن محمد بجده أبو بكر الصديق

لقد كان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أشد الناس تأسياً بجده الصديق رضوان الله عليه، حتى قال الناس: لم يلد أبو بكر ولداً أشبه به من هذا الفتى.

فلقد أشبهه في كرم شمائله، ونبل خصائله وصلابة إيمانه، وشدة ورعه وسماحة نفسه، وسخاء يده، وقد أثر عنه كثير من الأقوال والأفعال، تشهد له بهذا.

من ذلك، أن أعرابي جاءه إلى المسجد فقال: أيما أعلم، أنت أم سالم بن عبد الله؟ فتشاغل عنه، فأعادها عليه، فقال: سبحان الله، فأعادها كرة ثالثة.

فقال له: ذاك سالم يا ابن أخي يجلس هناك، فقال من في المجلس: لله أبوه، لقد كره أن يقول أنا أعلم منه، فيزكي نفسه، وكره أن يقول هو أعلم مني فيكذب، وكان أعلم من سالم.

وقد شوهد ذات مرة في منه، وأهل الأنصار من حجاج بيت الله يطبقون عليه، من كل جانب وهم يسألونه، فكان يجيبهم بما يعلم، ويقول لهم فيما لا يعلمه: لا أدري ولا أعلم.

فأخذهم منه العجب، فقال لهم: ما نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمناه ما كتمناه، ولا يحل لنا أن نكتمه، ولا أن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله عليه، خير له من أن يقول ما لا يعلم.

الأمانة في دفع الصدقات

وفي ذات مرة عهد إليه بقسمة الصدقات بين مستحقيها، فاجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد، وأعطى كل ذي حق حقه، غير أن أحدهم لم يرضى عن نصيبه الذي أعطي له.

فأتاه إلى المسجد وهو قائم يصلي، وجعل يتكلم في أمر الصدقة، فقال له ابن القاسم بن محمد: والله إنك لتتكلم في رجل، ما نال من صدقتكم درهماً ولا دانقاً، ولا أصاب منها تمرة واحدة.

فأوجز القاسم صلاته، والتفت إلى ابنه وقال: يا بني، لا تتكلم بعد اليوم فيما لا تعلم، فقال الناس: صدق ابنه، ولكنه أراد أن يربيه، وأن يحفظ لسانه من التوسع في الكلام.

وفاة القاسم بن محمد بن أبي بكر

وقد عمر القاسم بن محمد حتى قارب على الثانية والسبعين، ولكنه قد كف بصره وهو شيخ كبير، وفي آخر سنة من حياته، قصد مكة يريد الحج، وفيما هو في بعض طريقه أتاه اليقين.

فلما أحس بالأجل، التفت إلى ابنه وقال: إذا أنا مت، فكفني بثيابي التي كنت أصلي فيها، قميصي وإزاري وردائي، فذلك كان كفن جدك أبي بكر، ثم سوي علي لحدي، والحق بأهلك، وإياكم أن تقفوا على قبري وتقولوا: كان وكان، فما كنت شيئاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى