كنا في المرة الماضية قد تحدثنا عن الإيلاف ، وسورة قريش في القرآن الكريم (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف).
وقلنا أن الإيلاف يحمل قصة مهمة، فيما يتعلق بتوازنات القوى في العالم القديم، في القرن الخامس، حيث كان هاشم بن عبد مناف الجد الأكبر للنبي الكريم.
في بعض الروايات تقول أنه توفي في عام 480 أو497 هجرياً، لقد شهد القرن الرابع وجود الدولة الرومانية.
الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية
وفي نفس الوقت شهد انبعاث الدولة البيزنطية، التي عاصمتها القسطنطينية، لأن الدولة الرومانية انقسمت قبل ذلك بقرن من الزمن.
الدولة الرومانية
لكن الانقسام الرسمي، كان بعد أن تم احتلال روما من قبل قبائل الشمال الأوروبية، والغاء الامبراطورية بشكل رسمي.
فبرزت القسطنطينية كوريث للدولة الرومانية، لذلك العرب نسمي الجميع باسم الروم، كما في سورة الروم.
ففي سورة الروم لم يذكر الروم بمعنى الذين يعيشون في روما، فروما في ذلك الوقت قد انتهت، ولكن نتكلم عن الروم البيزنطيين.
هذا ما يعرفه المؤرخون بالروم الشرقيين، أي الدولة التي عاصمتها القسطنطينية، والدولة التي عاصمتها الروم.
العصور المظلمة
والذي حدث صعد نجم القسطنطينية، ولكن أوروبا التي كانت تخضع إلى الدولة الغربية، دخلت بالعصور المظلمة.
العصور المظلمة هي حالة من الفوضى التامة، كل بلدة لها أمير حربها، لها عصابتها، لها خرافاتها، وأديانها وسحرتها ومشعوذيها.
أي كانت أوروبا قد أقلعت باتجاه الظلام الدامس، والقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الغربية، باتجاه التألق.
امبراطورية الفرس في القرن الرابع
وكانت امبراطورية الفرس قوية، وكانت أعمق بعداً وأكثر تأثيرا، لا سيما بعد انهيار الامبراطورية البيزنطية.
وفقدان مجموعة من الأراضي التي قد احتلتها القبائل، من بينها قرطاج، الذي حدث أن الفرس كانت لديهم مشاكلهم، وخلافاتهم مع القبائل التي تعيش وسط آسيا، أي التركية.
وهذه القبائل هي قبائل رحل، ولديها عزيمة قوية، فكانت تحارب الامبراطوريات، وهذه الحروب التي بدأت في نهاية القرن الخامس، أدت إلى انهيار طريق الحرير الشمالي.
طريق الحرير الشمالي الذي يربط الصين وآسيا، ببقية العالم، كان يمر عبر أراضي آسيا الوسطى، وأصبحت تكلفة النقل عبره مذهلة.
وبالتالي لم تعد التجارة العالمية جيدة في ذلك الوقت في عام 480 ميلادي، وكان هاشم قد ساد مكة في تلك المرحلة.
وضع مكة في مرحلة سقوط الإمبراطوريات وطريق الحرير
والشيء المهم في قصة الإيلاف، هو نص يرويه بعض المؤرخين، والنص فيه ايحاءات مهمة، فكانت مكة تعيش حالة من الفقر والمجاعة.
وقد أثر ذلك على الناس، فقد جاعوا جوعاً شديداً، فكان أهل البيت الواحد، إذا لم يجدوا ما يأكلونه، يخرجون خارج مكة ويجلسون في خباء، وينتظرون الموت حتى يموتون.
وكانوا يسمون هذا بالاعتفار، لأن العرب كانت تأنف من السؤال، وهاشم غضب من هذا الوضع، وجمع قومه، وقال لهم:
يا معشر قريش إنكم أهل بيت الله الحرام، والناس لكم تبع، فالبدعة هذه في الاعتفار، إنما تجعلكم تنقصون ويزيد الناس، وتذلون ويعز الناس، فتعالوا على أمر جديد.
فقالوا له: ماذا نفعل؟ قال: نسير التجارة، فكل أبناء أب يجتمع والغني فيهم يسير تجارة ما، وعوائد هذه التجارة، تنفق على الأغنياء والفقراء من أبناء عمومتهم.
تحديث نظام التجارة في مكة وقريش
وهكذا أنقذ هاشم بهذا النظام، قريش ومكة من مأساة كبرى، وكان السبب بهذه الحالة، لأن تجارة قريش هي قديمة وليست حديثة.
الطرق التجارية وانهيارها مع انهيار الإمبراطوريات
والطرق التجارية العابرة من اليمن إلى مكة، بإتجاه يثرب ثم تبوك، أو عبر الساحل إلى الشام، فكانت التجارة قائمة على البخور.
وقصة البخور، كان الناس يحملونه ويذهبون به إلى غزة، ومن غزة إلى أوروبا، وكان يستخدم في كنائس أوروبا، للتعبد والطقوس.
فإن إنهيار الامبراطورية الرومانية كما قلنا، ألغت كل تجارة البخور هذه، وإنهار معها طريق التجارة في وسط آسيا كما قلنا أيضاً طريق الحرير.
مكة منطقة عبور البضائع
فأصبح هناك كساد في العالم، فقد كانت مكة منطقة عبور، هي ليست منتجة، ولكن كانت تأتي البضائع من اليمن والحبشة، بقوافل محدودة، ولهذا تأثرت مكة بشكل كبير.
ولكن كان هاشم ذكياً، ففي الفترة البسيطة التي عاشها، استطاع تنظيم الجزيرة العربية، فلما كان يذهب برحلاته التجارية من مكة إلى غزة.
كان يلاحظ أن البضائع في الشام، كان ثمنها أغلى من البضائع في اليمن، وبسبب انقطاع طرق التجارة، ارتفعت البضائع بشكل كبيرة.
والشام في ذلك الوقت، كانت أحياناً تكون تحت السيطرة الفارسية، وأحياناً البيزنطية، بسبب الحروب المتتالية.
قصة الإيلاف
فذهب هاشم إلى حاكم تلك المنطقة، وقال له: أنا آتيك بأسعار أرخص من التي لديك، لكن بشرط أن تعطيني الإيلاف.
والإيلاف تعني العهد أو الاتفاقية، فوقع اتفاقية تجارة حرة، تسمح له بنقل هذه البضائع، فكلما عبر من منطقة إلى منطقة.
فكان يبرز ورقة الإيلاف، للجنود الرومان ليسمحوا له بالعبور، وفعلاً الروم وقعوا الإيلاف، وعند عودته، وقع مع كل القبائل الموجودة على طريقه الإيلاف.
وهذا الإيلاف جعل من قريش مركزاً للتصدير نحو الشام، ووقع الإيلاف مع اليمن أيضاً، هو وإخوانه من بعده.
الإيلاف ورحلة الشتاء والصيف
وبعد توقيع الإيلاف مع اليمن والشام، أصبحت التجارة العابرة، تجارة أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق.
وبتوقيع الإيلاف مع الجميع، اقتضى الأمر تنظيم رحلة في الشتاء والصيف من مكة، فرحلة الشتاء كانت باتجاه اليمن، لشراء البضائع من اليمن، مثل البخور والبهارات، والبضائع التي تأتي من الصين.
ثم رحلة الصيف بنقل البضائع إلى الشام، وشراء البضائع منها، وكانت مثل الزيت والدقيق وبعض الثياب، وحتى السلاح، بعد إبراز الإيلاف.
سبب كون مكة مركز عبور التجارة المهم بعد التوقيع على الإيلاف
وهكذا نظمها هاشم بعقد الإيلاف مع الروم والحميريين في اليمن، ومع الفرس والشام، والإيلاف مع الحبشة، فصارت مكة مركز لأربع جهات أساسية.
ومكة أصبحت المركز الرئيسي لتنقل البضائع، بعد توقيع الإيلاف مع الجميع، لأن طريق البحر الأحمر قد أقفل في ذلك الوقت، بسبب الصراع الفارسي الرومي، الذي اندلع على اليمن.
الصراع على طريق التجارة من اليمن
وكان هذا الصراع قديم، قبل فترة هاشم بن عبد المطلب، ويعود المؤرخون فيه إلى بدايات الامبراطورية الرومانية 820 قبل الميلاد.
فكان الإمبراطور الأول أوغستوس، حسب المؤرخين، مثل سترابو الذين كان مبعوثاً مع الجيش لكتابة مذكرات الامبراطور.
وخرج مع بعثة عسكرية من شواطئ البحر الأحمر من مصر، وذهب إلى ميناء الشعيبة، وكانت أول زيارة إلى هذه البعثة العسكرية كانت إلى يثرب.
وصالحوا أهل يثرب، ثم ذهب إلى الطائف ثم إلى نجران، واستقروا في نجران لكي يهددوا مأرب عاصمة سبأ في ذلك الوقت.
السبب الرئيسي لذهاب البعثات الرومانية إلى اليمن
وكان سبب كل هذا العمل للروم، بذهابهم إلى الصحراء القاسية، هو السيطرة على طريق التجارة البري، بين اليمن والشام، واليمن وبلاد فارس.
لأن اليمن في ذلك الوقت كانت تحت النفوذ الفارسي، وكان لا بد من مواجهتهم بطريق آخر عبر الحدود.
فرأوا أن تأسيس قاعدة عسكرية اقتصادية لهم في نجران، قد تمكنهم من وضع يدهم على التجارة في اليمن، وكان لهم حليف قوي، ومرتبط تاريخياً باليمن، وهي الحبشة.