الفن التجريدي : أثق أنك رأيت فى لحظة ما من حياتك فناً تجريديا، ولو أنك نظرت إلى هذه اللوحات لرأيت أنها تجريدية، أو هي فى الحقيقة مرسومة بأسلوب غالباً ما يشار إليه بـ”التعبيرية التجريدية”.
ومن هنا فإن الغرض من هذه المقالة هو أن أبيّن كيف تطور الفن التجريدي وازداد تجريدية، ومدى أهمية “هذا المنحى الذى نحاه الفن”. وإننى أعتزم أن أبين أهداف الفن التجريدي وأن أساعدك على الاستمتاع به.
تعريف الفن التجريدي
أود أن أعرفك ابتداء بفكرة عامة بعض الشىء عن نوعين من اللوحات في الفن التجريدي :
- التمثيلية
- التجريدية
نقول عن لوحة إنها “تمثيلية” لو أنها تصوّر أشياء واضحة معروفة محددة، وفي بعض الأحيان، تكون اللوحات التمثيلية صادقة مع الحياة لدرجة أن تبدو فى دقة الفوتغرافيا.
انظروا على سبيل المثال إلى اللوحة التالية لرامبرانت فان ريجن “هولندي، 1606 ـ 1669”. عنوانها “محاضرة دكتور نيكولاس تولب فى التشريح” التى رسمها سنة 1632.
حينما تنظر إلى تلك اللوحة يسهل عليك أن تعرف ما أنت ناظر إليه، هناك 8 رجال يلبسون ثيابا ظريفة “هى فى الحقيقة من طراز ثياب هولندا القرن الـ17” وأمامهم على المنضدة جثة رجل تحللت يده.
يسهل تماماً التعرف على كل شىء فى اللوحة، مثلما يسهل التعرف على معناها العام، “فما تراه أمامك درس فى التشريح”.
هل جيمع اللوحات واقعية في الفن التجريدي
ليست جميع اللوحات التمثيلية واقعية بهذه الدرجة. فقد أبدع بول سيزان “فرنسى، 1839 ـ 1906” على سبيل المثال:
بعض اللوحات الجميلة للفاكهة انظر إلى : ” تفاح وخوخ وكمثرى وعنب ” التى رسمها سيزان فى الفترة من 1879 إلى 1880.
واضح أن هذه اللوحة أكثر تجريدية من السابقة، ومع ذلك فإن ما تراه تمثيلى، إذ الأشياء فى لوحة سيزان ليست بواقعية الأشياء فى لوحة رامبرانت.
فلا يمكن أن تخلط بين لوحة لسيزان وصورة فوتغرافية ولكن يسهل عليك أن تعرف أنك تنظر إلى فواكه مختلفة فى إناء.
وأنت حينما تنظر إلى لوحة تمثيلية في الفن التجريدي ، تشعر على الفور هل تعجبك اللوحة أم لا تعجبك.
وانظر على سبيل المثال نظرة أخرى إلى اللوحتين السابقتين وقارن شعورك حين تنظر إلى درس التشريح بشعورك حين تنظر إلى إناء الفاكهة.
اللوحات في الفن التجريدي
اللوحات التجريدية أمرها مختلف، ففيها تصميمات أو أشكال أو ألوان لا تماثل أشياء معروفة معينة، ومن هنا يكون فهم اللوحات التجريدية أصعب كثيرا من فهم اللوحات التمثيلية.
فأنت فى واقع الأمر حينما تنظر إلى لوحةمن الفن التجريدي لا تعرف فى أغلب الحالات إلام أنت ناظر فعلا، ولنر الآن كيف نمنطق هذا كله.
أنواع اللوحات في الفن التجريدي
بصفة عامة هناك نوعان من اللوحات في الفن التجريدي
النوع الأول يصوّر أشياء تم “تجريدها” بعد أخذها من الطبيعة، فإذا بما تراه، وإن لم يبد واقعيا، قريب بما يكفى لأن تكوّن فكرة عما أنت ناظر إليه على أقل تقدير.
ولو أنك رأيت لوحة لكلود مونيه “فرنسى، 1840 ـ 1926” لعرفت ما الذى أتكلم عنه.
فى عام 1899، بدأ مونيه يرسم سلسلة لوحات بعنوان “زنابق مائية” تصوّر حديقة منزله فى جيفرنى بنورماندى “بفرنسا”.
وبرغم أن ما فى اللوحة لا يماثل فعليا الزنابق أو المياه أو السحاب إلا أنه قريب بحيث يسهل عليك أن تكوّن شعوراً إزاء ما تراه.
ولكي تدرك ما أرمى إليه، انظر إلى لوحة “زنابق مائية السحاب” التى رسمها مونيه سنة 1903.
النوع الثانى من الرسم التجريدى هو الذى يشار إليه فى بعض الأحيان بـ الفن التجريدي “المحض”، وهذا أشد صعوبة.
فهذه اللوحات لا تعكس أى نوع من الواقع المعهود، فكل ما تراه لا يعدو أشكالا وألوانا وخطوطا وأنماطا وما إلى ذلك، وهنا على سبيل المثال لوحة لى عنوانها ” أزرق “
كما ترى لا شيء فى اللوحة يمكن التعرف إليه لا بشر، ولا ثمار، ولا حتى زنابق.
وطبيعى حينما تنظر إلى مثل هذا الفن التجريدي أن تتساءل عما يجعل أحدا يبالى بإبداع لوحات كهذه من الأصل. ما الذى كان يجول فى خاطر الفنان؟
رؤية الفن التجريدي
فى بعض الحالات، قد يكون التصميم نفسه ساراً للعين، وقد ننظر إلى اللوحة بوصفها مجرد ديكور لا أكثر.
غير أن الأمر فى أغلب الحالات لا يكون كذلك. فقدر كبير من الفن التجريدي فى حقيقة الأمر لا يكون سارا للعين.
علاوة على أنه ما الذى يجعل فنانا ينفق الكثير من وقته فى إبداع مجرد ديكور؟ لا بد أن فى الأمر ما هو أكثر من ذلك.
الحقيقة أن فى الفن التجريدي أكثر بكثير مما تصادفه العين، ولكى نعرف سبب ذلك، علينا أن نتأمل فى الغرض الأساسى من الفن.
لكي تتذوق بصدق عملاً فنياً، أن تراه أكثر من مجرد إبداع فردي معزول: فلا بد من وجود سياق، هذا لأن الفن التجريدي ليس خارج الزمن.
فكل لوحة تنشأ فى بيئة معينة، وإذا لم تفهم تلك البيئة فلن يتسنى لك مطلقا أن تتذوق ما يقدمه لك الفنان، لذلك من المنطقي وأنت تدرس عمل فنان معين أن تعرف شيئا عن حياته والثقافة التى عاش فيها.
مزايا الفن التجريدي
برغم أن مزايا اللوحة تعتمد على مهارة الفنان ورغباته، إلا أن قدراً كبيراً مما تراه على التوالي يعكس البيئة التى ظهر فيها الفن، وكمثال على ذلك انظر إلى اللوحتين التاليتين:
اللوحة الأولى هى لوحة موناليزا الشهيرة تعد من الفن التجريدي ، ورسمها ليوناردو دافنشي “إيطالى، 1452 ـ 1519” فى ما بين 1503 و1506
أما الثانية فللأميرة ديانا ورسمها سنة 1982 آندى وورهول “أمريكى، 1927 ـ 1987. كل منهما بورتريه لسيدة، رسمه فنان رفيع الموهبة، وفى كل منهما الوضعية نفسها، ولكن لاحظ الفارق الصادم بين الأسلوبين.
لو درست حياتي دافينشي وورهول، لوجدت أن ثمة اختلافات بينة بين الرجلين، غير أن هذه الاختلافات ليست السبب فى التباين الفادح بين الأسلوبين.
فأنت حينما تقارن بين اللوحتين، ترى اختلافات ثقافية أكثر مما ترى أى شىء آخر. فالفنان حينما يبدع يخضع بقوة لتأثيرات الزمن الذى يعيش فيه، ومهما يكن خلَّاقا على المستوى الشخصى، لا يكون له مهرب من حدود ثقافته.
وأنت حينما تدرس تاريخ الفن، ترى فى كل مكان وزمان معينين، أن “مدرسة” ما هى المهيمنة فى الفن وهى التى تحدد الثقافة الفنية، التى يعمل فى سياق أعرافها أغلب الفنانين.
غير أن من الفنانين تجريبيين وأصحاب رؤى يمضون إلى أرض جديدة، وفيما يفعلون ذلك يواجهون مقاومة هائلة ممن لا يفهمون هذا الأسلوب “الجديد”. ولكن، من أعمال هؤلاء المبتكرين، يتخلق في الفن التجريدي .
ما علاقة هذا بالفن التجريدي
حتى نهاية القرن 19، كان الرسم كله تقريبا تمثيلياً، كان الرسام يرسم لوحات مباشرة، ينظر إليها الناس لهدف واحد هو أن يروا الصورة المعينة التى تم تصويرها.
فى البداية، تبدو هذه الفكرة واضحة بما لا يدعونا إلى عرضها من الأصل، فلأى سبب تنظر إلى الصورة إلا لترى ما هو مرسوم فيها؟
ولكن هناك كما سأبيّن أسبابا أخرى أكثر إقناعا للنظر إلى لوحة، بل إن من الممكن فى الحقيقة أن تختبر لوحة بطريقة تجعلك تتجاوز ما تراه إلى أن تكتشف ما قد تشعر به.
فى مطلع سبعينيات القرن الـ19، نشأت حركة فى فرنسا بدأت بإدخال التجريد إلى الفن التجريدي الجاد، هذه الحركة، المعروفة بالانطباعية، أنتجت أعمالا كانت للمرة الأولى تتألف بالكلية من صور واقعية.
كان الغرض الأساسى للانطباعيين بسيطا من وجهة النظر المفاهيمية، فقد أرادوا تصوير الطبيعة كما هى موجودة فعلا. فكدحوا كدحا خاصا من أجل قنص آثار الإضاءة دائمة التغير على مدار اليوم من فصل إلى فصل.
فمثلا، قضى الفرنسى مونيه الذى ذكرته فى ما سبق كثيراً من الوقت فى إبداع سلسلة من اللوحات التى كان يرسم فيها الشىء نفسه فى أوقات مختلفة من اليوم، قاصدا من ذلك تبيان تغير لون الشىء وشكله من ساعة إلى التى تليها.
ألق نظرة على هذه اللوحة لكومتي التبن التى أبدعها مونيه فى ما بين 1890 و1891.
لم يكن هدف مونيه أن يقدم صورة بسيطة لكومتى تبن، بل أن يبين لون كومتى التبن وشكلهما فى يوم معين قرب نهاية الصيف. من وجهة نظر مونيه “وأنا أتخيل هذا”، كانت اللوحة تدريبا أكثر مما كانت عملا فنيا.
التأثير الانطباعي
فى الوقت نفسه تقريبا، نشأت بتأثير من الانطباعية مدرسة فنية جديدة هى الانطباعية الجديدة، استعمل الانطباعيون الجدد كثيرا من النقاط الصغيرة المتجاورة لإقامة أشكال وألوان عديدة.
يمكنك أن ترى هذا التكنيك، المعروف بالتنقيط pointillism في اللوحة التالية وهي لوحة “عصر يوم أحد فى جزيرة جراند جاتيه” التى أبدعها فى ما بين 1884 و1886 جورج سيورات “فرنسى 1859 ـ 1891”.
وأخيراً حول الفن التجريدي في ثمانينيات القرن الـ19 وتسعينياته، سعت جماعة متباينة إلى تجاوز الانطباعية وهوسها بآثار الضوء المتغيرة.
أبدع هؤلاء الرسامون في الفن التجريدي المعرفون فى مجموعهم بما بعد الانطباعيين، نطاقا عريضا من اللوحات المبتكرة اللافتة.
كان من بين أهم ما بعد الانطباعيين بول سيزان “فرنسى، 1839 ـ 1906” الذى سبقت الإشارة إليه، وبول جوجان “فرنسى، 1848 ـ 1903” وفنسنت فان جوخ “هولندى، 1853 ـ 1890”.
المصادر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com