الآداب

دراسة لكتاب البخلاء رائعة الجاحظ


أسمار وأفكار- ثقافة المجتمع والأدب العربي في زمن الجاحظ

سيعرض علينا اليوم الأستاذ أحمد فال ولد الدين، كتاب الجاحظ / البخلاء ، يقول الأستاذ أحمد فال الدين:

حديثنا الليلة سيكون حديث عن كتاب، من كتب إمام من أئمة البيان العربي، هو الشيخ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ.

الحديث سيكون عن كتابه كتاب البخلاء، وهذا الكتاب من أحب كتب الجاحظ إلى قلبه، لأن كل ما بين دفتيه من كلام الجاحظ، بخلاف كتاب البيان والتبيين مثلاً.

وكتاب البخلاء يمكن أن تقول أن كل جملة فيه، خرجت من رأس الجاحظ، ولذلك هو معبر عن نثره وعن قلمه، ونمط تفكيره، فهذا مما يحببه إلى نفسه.

إذا كان الكاتب المستشرق الفرنسي، المتخصص في الجاحظ، وهو شارل بيلا، يرى أن كتاب التربيع والتدوير، هو أعظم نص فني للجاحظ.

فإن الأستاذ محمد طه الحاجري، محقق كتاب البخلاء، يرى بأن البخلاء هو أفضل الكتب الفنية، لأبي عثمان.

أما أنا فمع حبي للبخلاء، فالأحب إلى قلبي والأقرب إلي، هو الكتاب الذي بين يدينا الآن، وكل كتبه رائعة.

كتاب البخلاء ليس كتاباً كبيراً، فهو يقع في نحو مائتي صفحة تقريباً، وتوجد منه عدة طبعات كثيرة، ولكن أمثل الطبعات، هي الطبعة التي حققها طه الحاجري بدون نزاع.

لماذا كتاب البخلاء

كتاب البخلاء كتاب عميق، يجمع بين علم النفس والتاريخ الثقافي، وعلم الاجتماع وتاريخ الأطعمة، والملابس والأسواق، فهو موسوعة تعطي صورة جميلة عن العصر، الذي كان يعيش فيه أبو عثمان.

كتاب البخلاء هو كتاب وليد الثقافة العربية، لأنه يتناول الجود والكرم، ومادام كتاباً عن البخل، فهذا يعني أنه سيتحدث عن الكرم.

والجود والكرم وحتى الصدق، من أكثر القيم العربية رسوخاً، في ثقافة العرب قديماً، فهو كتاب عربي أصيل من هذا الباب، وبالتالي فإن كتاب الجاحظ عن البخلاء، هو كتاب في صميم الثقافة العربية.

لماذا كتب الجاحظ عن البخل؟

نفسية الجاحظ الباحثة المتأملة، كانت عنصر أساسي، فهو مولع برصد خبايا النفوس، وخبايا المجتمع ورسم ذلك بالكلمات.

من قرأ له أي صفحة من كتبه، يرى أنه مولع بتأمل المجتمع، ثم الكتابة عن ذلك، والبخل هو ظاهرة من الظواهر،  التي استرعت انتباهه.

ويبدو أن الجاحظ كان يحب قصص البخلاء، فكان يعيشها، وهذا النص يوضح ذلك:

صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله، وكان منزله أقرب إلى الجامع مني، سأل أن أبيت عنده.

وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة، وليس عندك نار، وعندي لبأ لم يرى الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة لا تصلح إلا لك.

فملت معه إلى بيته، فأبطأ ساعة ثم جائني بجان لبأ وتمر، فلما مددت يدي قال: يا أبا عثمان، إنه لبأ، واغل والليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة.

وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت البأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً.

ثم حرجت طباعك، ثم قطعت الأكل لأشهى ما كان إليك، وإن بالغت، بتنا في ليلة السوء من الاهتمام بأمرك، وإنما قلت هذا الكلام، لألى تقول غداً، كان وكان.

والله لقد وقعت بين نابي الأسد، لأني  لو لم أجئك به، وقد ذكرته لك، قلت بخل به، وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه، ولم أذكرك كل ما عليك فيه.

قلت لم يشفق علي، ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، إن شئت أكلة فموتة، وإن شئت فبعض الاحتمال، ونوماً على سلامة.

فما ضحكت قط، كضحك تلك الليلة، وقد أكلته جميعاً، فما هضمه إلا الضحك، والنشاط والسرور فيما أظن، ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به، لقضى علي الضحك، ولكن ضحك من كان وحده، لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب.

فالجاحظ يحب قصص البخلاء، ويحب مشاركة هذه القصص للناس، لهذا كتب هذا الكتاب كتاب البخلاء.

كتاب البخلاء وصراع الطبقات الاجتماعية

والكتاب هو جزء من صراع الطبقات، بين المدينة والبادية، والعرب والعجم، وطه الحاجري يرى، أن التشنيع على البخل.

ربما يكون بإيعاز من الدولة العباسية، التي وضعت نفسها مقابل الدولة الأموية، لا في الصبغة البدوية.

ويحتج الحاجري على هذا، أن الجاحظ في الحيوان مثلاً، كتب مائة صفحة، عن المفاضلة بين الديك والكلب، فالديك رمز الحضر، والكلب رمز البادية.

كتاب البخلاء تخليد للحظة موت الثقافة الصحراوية التقليدية، واستقرار العرب في حواضر ومدن كبيرة، تسير فيها أحوال وأخلاق المدن، بعيداً عن الصورة البدوية التقليدية.

ولذلك في هذه الأيام، كانت هناك طبقة من الطبقات، مهتمة بالمفاضلة بين الذي يعرفه العرب، وما تعرفه المدن.

فلا يبعد أن يكون الحديث عن البخل، مقابل الجود من هذا الباب، فالبخل لأهل الحضر، والجود لأهل البادية.

هل الجاحظ هو أحد البخلاء؟

بعض الكتاب ممن كتبوا عن الحيوان، رأوا أن الجاحظ ربما كان هو نفسه بخيلاً، وحجتهم في ذلك، قدرته على تصوير نفوس القوم في البخل.

ولكني أرى، أن هذا بعيد عن الحقيقية، لأن الفنان الصادق، يستطيع أن يتلبس أي حالة مهما كانت، ويتخيل أي نوازع نفسية مهما كانت.

وليس بالضرورة أن يتصف بتلك الصفات، وإنما قيمته كفنان، هي تخيله للآخر، وقدرته على رسم الآخر وصفاته، لا أن يكون هو متصف بها.

ما هو هدف كتابة الجاحظ لكتاب البخلاء؟

من أسباب كتابة الجاحظ لكتاب البخلاء، هو ولعه بالمتناقضات، فلقد كتب عن الديك والفيل، والجارية والغلام، والبخل والجود.

والجاحظ متعصب للعرب، ولم يكن هاجياً لمجتمعه، وهذا يظهر من كثرة حديثه عن بخل الأعاجم وغير العرب.

وكان يستفيد من كرم المجتمع، ويغشى مجالس الكرماء والسلاطين، ويستفيد من ذلك، وكان يريد أن يؤرخ للمجتمع الذي يعيش فيه.

لذلك نخطئ إذا قرأنا الجاحظ، على انه أديب وأنه فيلسوف، بل أن يقرأ كأول مؤرخ اجتماعي، في الثقافة العربية، حتى قال عنه أبو قتيبة، أنه رجل كان يحتج بالشيء وضده، وهذا نهج معروف لديه.

وهدف كتابة البخلاء، حسب رأي المؤلف أي الجاحظ، ففي مقدمته هو يحدث رجلاً ما، يقول طلب مني أن أكتب لك كتاب ما، وهذا أسلوب جاحظي معروف.

ونفهم منه أن من أهداف الكتاب، هو رسم نوازع هؤلاء القوم، فيقول على  لسان هذا الرجل الذي طلب منه أن يكتب الكتاب:

بين لي ما الشيء الذي خبل عقولهم، وأفسد أذهانهم، وأغشى تلك الأبصار، ونقض ذلك الاعتدال، وما الشيء الذي لأجله، عاندوا الحق، وخالفوا الأمم.

وما هذا التركيب المتضاد، والمزاج المتنافي، وما هذا الغباء الشديد، الذي إلى جانبه فطنة عجيبة، وما هذا السبب الذي خفي به الجليل الواضح، وأدرك به الدقيق الغامض؟

فهو يتحدث عن أن هدف الكتاب، هو الكشف عن هذه الأسئلة ثم يقول: ولك في هذا الكتاب ثلاث أشياء، تبين حجة طريفة، أو تعرف حيلة لطيفة، أو استفادت نادرة عجيبة، وأنت في ضحك منه إذا شئت وفي لهو إذا مللت.

ما هي مصادر كتاب البخلاء؟

الكتاب أساساً من عالم الجاحظ، من تجربته الشخصية ومن صداقاته، ومن العالم الذي كان يدور فيه، ولذلك يقول: هذه ملتقطات أحاديثنا، وأحاديث أصحابنا، وما رأيناه من عيوننا.

وقراءة النص تثبت ذلك، وكثيراً ما يعطيك أن هذه مشاهداته، فيقول مثلاً عن بعض القصص:

هاهنا أحاديث كثيرة، متى اطلعنا منها حرفاً، عرف أصحابها، وإن لم نسمهم، ولم نرد ذلك بهم، منهم الصديق والولي، والمستور والمتجمل.

فبعض الأحيان الجاحظ، ذكر البخيل، وبعض الأحيان يذكر القصة فقط، ولكنه يتأسف جداً لفصله أحياناً، ما بين القصة وصاحبها.

مما يعطينا فكرة عن العلاقة، بين الخطاب والسلطة، فبعض الطرائف والمواعظ، إذا انفصلت عن صاحبها بردت.

فلو قلت موعظة ونحلتها لأبي نواس، لا أحد يستمع إليها، ولكن لو قلت واحدة، ونحلتها إلى واعظ مشهور، تقع في النفوس موقع طيب، هكذا يقول الجاحظ.

وكان الجاحظ يجمع مادته، من جميع طبقات المجتمع، كان يتحدث مع العامل والخباز، والعمال في البيوت، حتى يفهم طبيعة مجالسه، وكمثال على جمعه مادته من العمال:

قصة الخباز والصاحب المخبز

ولقد خبرني خباز، لبعض أصحابنا، أنه جلده على انضاج الخبز، وأنه قال له أنضج خبزي، الذي يوضع بين يديك، واجعل خبز من يأكل معي، على مقدار بين المقدارين.

وأما خبز العيال والضيف، فلا تقربنه من النار، إلا بقدر ما يصير العجين رغيفاً، وبقدر ما يتماسك فقط، فكلفه العويص، فلما عجزه ذلك، جلده جلد الزاني الحر.

كتاب البخلاء مرآة المجتمع الثقافية

الكتاب مرآة ثقافية، يعكس الصورة الصادقة عن الحالة الثقافية، والاقتصادية في البصرة، وبغداد في ذلك العصر.

وهذا شيء مهم من الناحية الثقافية والتاريخية، لأن الجاحظ أديب واقعي، ربما بالغ في الوصف، ولكن كان يعنى بالحقائق، ويكره المزايدة والمبالغة، وفي دليل على هذا، قصة الرجل الذي كان بخيلاً ووالده بخيل أيضاً، كتب الجاحظ:

فكان أهله منه في بلاء، وكانوا يتمنون موته، فلما مات، ظنوا أنهم قد استراحوا منه، وقدم ابنه فاستولى على ماله وداره.

ثم قال: ما كان أدم أبي؟ قالوا: كان يأتدم بجبلة عنده، قال: أرونيها، فإذا فيها حز كالجدول من أثر مسح اللقمة، قال: ما هذه الحفرة؟ قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح على ظهره، فيحفر ما ترى.

قال: فبهذا أهلكن، وبهذا أقعدني هذا المعقد، لو علمت ذلك ما صليت عليه، قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع؟ قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة.

ويعلق الجاحظ على القصة: ولا يعجبني هذا الحرف الأخير، لأن الإفراط لا غاية له، وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجيز أن يكون فيهم.

ما هي فوائد كتاب البخلاء للجاحظ؟

من فوائد كتاب البخلاء، أن فيه غرائب المذاهب، من البخل والكذب، والغفلة على العقل، فهي غرائب المذاهب، التي كانت منتشرة حينها بسبب الترف العقلي.

والكتاب يعطي صورة عن الحالة الاقتصادية، لأنك تدخل بيوت الناس، وترى موائدهم، وما الذي عليها وما سعتها، وما الأطعمة النادرة والمتوفرة، والأسعار حينها.

فمن خلال الكتاب، نعرف أن الكندي، كان لديه مجمع ملك له، والناس يستأجرونه منه، وأن السعر كان ثلاثين درهماً في الشهر.

وأن أيام العطل موجودة، وأيام اجازة القصابين، وأنواع الأسواق وأماكنها، فقد كون خريطة جيدة للبصرة.

والكتاب من فوائده أيضاً، أنه كان يكشف عن الطبقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي أنذاك، يصف ملابس كل طبقة، ووظائف كل طبقة من الناس.

مثلاً يذكر الجاحظ، عن طبيعة الوظائف بين المسيحيين واليهود، ويتحدث عن أحد أصدقائه، اسمه أسد بن جاني، كتب الجاحظ:

كان طبيباً فأكسد مرة، فقال له أحدهم: السنة وبئة والأمراض فاشية، وأنت عالم ولك صبر وخدمة وبيان ومعرفة، فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟

قال: أما واحدة، فإني مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليب ويوحنا وبيرا.

وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو إبراهيم، وعلي رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود، ولفظي لفظ عربي، وكان ينبغي ان تكون لغتي لغة أهل قرب سابور.

من هم أبطال البخلاء؟

كما قلنا أصدقاء الجاحظ، هم أبطال لهذه القصص، ومن أطرفهم المثقفون، الذين يكشفون على وجههم، ويحتجون للبخل، مثل صديقه ابن هارون.

فقد كتب عنه أربع صفحات، من أبدع ما تقرأ، عن فضيلة البخل واحتجاجه له، ودحض صفة الكرم والجود.

ومن أبطاله الكندي والأصمعي، والأثرياء من المجتمع البصري، وأشخاص عاديون، ومن نماذج المثقفين الأبطال، شخص اسمه العنبري، وكان العنبري من أبطال أبي عثمان وكتب عنه:

حدثني المكي قال: كنت يوماً عند العنبري، إذ جاءت جارية أمه، ومعها كوز فارغ، فقالت: قالت أمك: بلغني أن عندك مزملة، ويومنا حار، أي الجرة التي تبرد الماء.

فابعث إلي بشربة منها، في هذا الكوز، قال العنبري: كذبتي، أمي أعقل من أن تبعث بكوز فارغ، ونرده ملئان، اذهبي فاملئيه من ماء حبكم، أي الكوز الصغير.

وفرغيه في حبنا، ثم املئيه من ماء مزملتنا، حتى يعود شيء بشيء، قال المكي: فإذا هو يريد أن تدفع جوهر بجوهر، وعرض بعرض، حتى لا تربح أمه، إلا صرف ما بين العرضين.

شخصية الفيلسوف الكندي

كتاب البخلاء، يعكس لنا شخصية الفيلسوف الكندي، وهو أول فيلسوف عربي، فما كان لك أن تجد صورة الكندي، في كتب التراجم والفلسفة والتاريخ، ولكن تجدها في كتاب البخلاء.

يدخلنا الجاحظ إلى المجمع السكني، الذي كان يملكه الكندي في البصرة، وكتب عن هذا:

قال معبد: نزلنا دار الكندي أكثر من سنة، نروج له الكراء، ونقضي له الحوائج، ونفي له بالشرط، قلت: قد فهمت ترويج الكراء، وقضاء الحوائج.

فما معنى الوفاء بالشرط؟ قال: في شرطه على السكان، أن يكون له روث الدابة، ونشوار العلوفة، وأن لايخرجوا عوماً ولا كساحة، وأن يكون له نوى التمر وقشور الرمان.

والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى، وكان في ذلك يتنزل عليهم، فكانوا لطيبة وافراط بخله، وحسن حديثه، يتحملون ذلك.

وكان الكندي لا يزال يقول للساكن: إن في الدار امرأة حمل، والحمل ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها، ولو بغرفة أو لعقة.

فإن النفس يردها اليسير، فإن لم تفعل ذلك بعد اعلامي إياك، فعليك كفارة الجنين، إن أسقطت الزمت نفسك ذلك، قال: كان ربما يوافي إلى منزله، من قصاع السكان والجيران، ما يكفيه لأيام.

وإن كان أكثرهم يفطن ويتغافل، وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن الناس حالاً، من أرباب هذه الضياع، إنما لكل منهم لون واحد، وعندكم ألوان.

نوادر أخل خراسان

من الشخصيات التي يرصد قصصها الجاحظ، من مثقفي عصره مع البخل، شيخ متعلم من أهل خراسان، قابله أبو نواس، والقصة يحيكها الشاعر أبو نواس قائلاً:

كان معنا في السفينة، ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من عقلائهم وفهمائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لما تأكل وحدك؟

قال: ليس علي في هذا الموضع مسألة، إنما المسألة على من أكل مع الجماعة، لأن ذلك هو التكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع غيري زيادة في الأصل.

ومن أكثر الشخصيات التي توقف عندها الجاحظ، ومن أبطاله الخراسانيين ومرو، ومنذ بداية الكتاب إلى نهايته.

يتحدث عن الخراسانيين، باعتبار أن بخلهم معروف، وعن أهل مرو، باعتبارهم أساس البخل، وأفرد لهم فصولاً.

قبل تقديم نماذج للأبطال الخراسانيين والمرويين، نلفت الانتباه إلى أن خراسان، كانت مدينة ضخمة وكبيرة جداً.

يقول ياقوت الحموي عنها: أنها كانت قصبة خراسان، فالداخل إليها، قد لا يهتم به أحد، فربما هذا الذي وضع في أذهان الناس، أنهم بخلاء.

والقصة المشهورة التي يرويها الإمام ابن الأشرف، صديق الجاحظ، يقول:

دخلت مرو، فرأيت كل ديك في الدنيا، إذا التقط الحبة، يلقمها للدجاجة، إلا ديكة مرو، فإنها كانت تضن بالحبة عن الدجاج، فعلمت أن البخل داء انتشر، في أهواءهم وخالطهم.

يقول الجاحظ: كنت في منزل بن أبي كريمة، وأصله من مرو، فرآني أتوضأ من كوز خزف، فقال: سبحان الله، تتوضأ بالعذب، والبئر لك معرضة.

قلت: ليس بالعذب، إنما هو من ماء البئر، قال: فتفسد علينا كوزنا بالملوحة، فلم أدر كيف أتخلص منه.

نوادر أهل مرو

ورأيت أنا حمارة منهم زهاء خمسين رجلاً، يتغدون على مباقل بحضرة قرية الأعراب، في طريق الكوفة وهم حجاج.

فلم أر من جميع الخمسين، رجلين يأكلان معاً، وهم في ذلك متقاربون، يحدث بعضهم بعضاً، وهذا الذي رأيته من غريب ما يتفق للناس.

يقول: حدثني مويس بن عمران، قال: قال رجل منهم لصاحبه من مرو، وكان إما متزاملين وإما مترافقين: لما لا نتطاعم؟ فإن يد الله مع الجماعة، وفي الاجتماع البركة.

ومازالوا يقولون طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة، فقال له صاحبه: لولا أني أعلم أنك آكل مني، لأدخلت لك هذا الكلام في باب النصيحة.

فلما كان الغد، أعاد عليه القول، قال له: يا عبد الله، معك رغيف ومعي رغيف، ولولا  أنك تريد أن تأكل أكثر، ما كان حرصك على مؤاكلتي.

تريد الحديث والمؤانسة، اجعل الطبق واحداً ويكون رغيف كل منا قدام صاحبه، وما أشك أنك إذا أكلت رغيفك ونصف رغيفي، ستجده مباركاً، كان ينبغي أن أكون أنا أجده كذلك.

مجالس الحديث في المساجد عن البخل

ومن أطرف ما في الكتاب،  أنه يتحدث عن ظاهرة الصالونات المخصصة للبخل، يجتمع أهله ويجلسون، ويتذاكرون هذا الباب، ويعظ بعضهم بعضاً.

ويحكي كل واحد منهم للآخر، حيلة اطلع عليها، وهذه الجلسات كانت في المساجد، وهذه الصالونات لعلها من أطرف ما في الكتاب.

يتحدث الكاتب أن البخل أصبح ايديولوجية عند هؤلاء القوم، على أساسها يتناحرون، وعلى أساسها يتحابون ويجتمعون، وحولوها إلى عصبية البخل.

يقول الجاحظ: قال أصحابنا من المسجديين: اجتمع ناس في المسجد، ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة والتنمية للمال، من أصحاب الجمع والمنع.

وقد صار هذا المذهب عندهم، كالنسب، الذي يجمعهم على التحاب، وكالحلف الذي يجمع على التناصر، وكانوا إذا القتوا في حلقهم، تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه.

يتحدث عن الصالون، الذي أقيم للحث على التدبير والتنقير، لبطل اسمه أبي سعيد المدائن، كان إماماً من أئمة البلد، ويقول الجاحظ ويصف هنا أحد المشايخ:

طرف أبي سعيد المدائن

يقول الجاحظ: وكانت له حلقة، يقعد فيها أصحاب العينة والبخلاء، الذي يتذاكرون الاصلاح، وقال احدهم: يا قوم لا تحقروا صغار الأمر، فإن كل لكبير صغير.

ومتى شاء الله أن يعون صغيراً عونه، وأن يكثر كثيراً كثره، وهل البيوت في الأموال إلا درهماً إلى درهم، وهل الذهب إلا قراط إلى جنب قراط.

أوليس كذلك رمل عالج وماء البحر، وإن اجتمعت بيوت الأموال، إلا بدرهم من هنا، ودرهم من هاهنا.

قال: اشتكيت أياماً صدري من سعال، أصابني، فأمرني قومي بالفانيد السكري، وأشار علي آخرون، بخزيرة تتخذ من السكر والدهن اللوز، والنشاء وأشبه ذلك.

فاستثقلت المونة وكرهت الكلفة، ورجوت العافية، فبين أنا أدافع الأيام، إذ قال لي بعض الموفقين، عليك بماء النخالة، فاحسه حاراً، فحسوته، فإذا هو طيب جداً ويعصم.

فما جعت ولا اشتهيت الغداء، في ذلك اليوم إلى الظهر، ثم ما فرغت من غداءي وغسل يدي، حتى قاربت العصر، فلما قرب وقت غذائي، من وقت عشائي.

طويت العشاء وعرفت قصدي، وقلت: يا عجوز لم لا تطبخين لعيالنا، في كل غداة نخالة، فإن ماءها جلاء للصدر وقوتها غذاء.

ثم تجففين بعد النخالة، فتعود كما كانت، فتبيعينه إذا اجتمع بمثل الثمن الأول، ونكون قد ربحنا فضلنا ما بين الحالين.

قالت: أرجو أن يكون الله قد فتح عليك بهذا السعال، مصالح كثيرة، بما فتح الله لك بهذه النخالة، لما فيها من صلاح بدنك ومعاشك.

قال القوم لأبي سعيد المدائن: صدقت، ملء هذا، لا يكسى ثواب الرأي، ولا يكون إلا سماوياً.

ما هي مميزات كتاب البخلاء؟

من مميزات الكتاب، الفن القصصي الذي فيه، فيوجد فيه النثر الفني البديع، وتصوير لخلجات النفوس، فهو لا يصف البخيل فقط، وإنما يتقمص شخصيته ويتصور خلجات نفسه، ويكتبها لنا.

هو من النصوص الكلاسيكية، التي تعلم الكتابة، لأن هناك وصف للخارج والداخل، وهو جدير لمن يريد أن يمرن قلمه.

وفي الكتاب قدرة هائلة على التصوير، مثل بعض النماذج التي سنذكرها، وهو يتحدث عن أحد المثقفين اسمه محمد بن المؤمل:

اشترى مرة شبوطة وهو ببغداد، وأخذها فائقة عظيمة، وقد بعد عهده بأكل السمك، وهو بصري لا يصبر عنه.

فكان قد أكبر أمر هذه السمكة، لكثرة سمنها وعظمها، وشدة شهوته لها، فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها، وتفرد بأطاييبها، وحسر عن ذراعيه، وصمد صمدها.

هجمتُ عليه أنا والسدري، فلما رآه، رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف، ورأى الحتم المقضي، ورأى قاسمة الظهر، وأيقن بالشر وعلم أنه قد ابتلي بالتنين، فلم يلبث السدري، حتى قور السرة أي انتشل منها.

وفي نص آخر، يتحدث الجاحظ عن أبو إسحاق النظام، وهو الفيلسوف المشهور، صاحب فكرة الطفرة، وهو من مشايخ المعتزلة:

كنت أنا وأبو إسحاق بن سيار النظام، وقطر بن النحوي، وأبو الفتح مؤدب منصور بن زياد، على خوان فلان بن فلان.

والخوان من جزعة، والغدار صيني ملمع، أو خلجية تيماكية، والألوان طيبة وشهية وغنية، وكل رغيف في بياض الفضة، كأنه البدر.

ولكنه على قدر عدد الرؤوس، فأكل كل إنسان رغيفه إلى كسرة، ولم يشبعوا، فيرفعوا أيديهم، ولم يمدوا بشيء، فيتموا أكلهم، والأيدي معلقة، وإنما هم في تنقير وتنتيف.

الهدف من الاستشهاد ببعض هذين النصين، هو وصف القدرة التصويرية، وتستطيعون العودة إلى النصوص في الكتاب لقراءتها.

شرح الجاحظ لبعض المصطلحات في كتاب البخلاء

وهناك مجموعة من المصطلحات، يعرفها الجاحظ، وهي أتت في نص شرحه:

اللكام: الذي في فيه اللقمة، ثم يلكمها بأخرى، قبل اجادة مضغها أو ابتلاعها.

القطاع: وهو الذي يعض على اللقمة، فيقطع نصفها، ثم يغمس النصف الآخر في الصباغ.

المداد: وهو الذي ربما عض على العصبة، التي لم تنضج وهو يمدها بفيه، ويده توترها له، فربما قطعها بنترة، فيكون انتضح على ثوب المآكل.

وهو الذي إذا أكل مع أصحابه، الرطب أو التمر أو الهريسة أو الأرزة، فأتى على ما بين يديه، مد ما بين أيديهم إليه.

الدفاع: وهو الذي إذا وقع في القصعة، عظم، فصار مما يليه نحاه بلقمة من الخبز، حتى تصير مكانه قطعة من اللحم.

المحول: وهو الذي إذا رأى كثرة النوى بين يديه، يحتال له حتى يخلطه بين صاحبه.

فالكتاب بديع في أدب الموائد، وثقافة القوم، وهو نص رائع ينبغي أن يقرأه كل من هو مهتم، بالأدب العربي البليغ.

تاريخ كتاب البخلاء

هناك نسخة فام فلوتن، المطبوعة في سنة 1900، وهذه النسخة فيها مقدمة مهمة عن الكتاب، فهي تتحدث عن تاريخ الكتاب.

تشير إلى أن الكتاب، هو من أواخر كتب الجاحظ، ويستدل بنص في الكتاب، يقول عن أبي عمر بن عثمان، أن الجاحظ لم يبق له من متاع الدنيا، إلى أكل القديد والسخرية بالخلاء، وحك الجرب.

وعند فام فلوتن، اهتم بقضية الطبقية في المجتمع لدى الجاحظ، بينما لم تكن هي قضية طبقية، على قدر الحديث عن طباع الناس وأخلاقهم.

وهناك كتاب كتبه أحد الأمريكيين، منذ أكثر من خمس وعشرون سنة، ومن أهم المميزات التي ذكرها عن الفرس، كانت قضية البخل.

والكاتب الفارسي المشهور أحمد، له كتاب اسمه قشة في الميقات، ومن ضمن الذي كتب عن حجاج إيران وبخلهم، أنهم كانوا يحملون طعامهم، من إيران إلى مكة، وهذا يشير إلى نزعة الحرص والبخل في بعض الأحيان.

أسلوب الجاحظ في معظم كتبه

ربما كان الجاحظ يريد أن ينتقم من أصحابه، خاصة من ينافسونه، في مرحلة الفلسفة والقدرة العلمية، فهو لم يرحم أحد منهم.

وقد كان أسلوب الجاحظ، تابع للمنهج الواقعي، ووصف الدكتور إحسان عباس في كتابه، تاريخ النقد العربي.

نظريات الجاحظ، بأنها غير مكتملة، وبحاجة إلى التفسير والشرح، ولهذا فإن النقاد الذين جاؤوا بعد الجاحظ، أساؤوا تفسير نظرياته.

والاهتمام الذي حظي به الجاحظ في كل كتبه، ناتج عن الأسلوب الذي استخدمه الإمام الجاحظ، والواقعية والنزول إلى مستوى القارئ، وهموم الناس، فهو ينطق عن خواطر الناس.

كذلك في كتاب إحسان عباس، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تحدث عن الشيء الذي جعل الناس، يعجبون بالأسلوب الواقعي والفكاهي.

وقال أن الجاحظ بهذه الطريقة، أخرجهم من الأسلوب السائد من العلماء والفقهاء في ذلك الحين، الذي كان يتسم بالصرامة والجدية.

ونقول أن أسلوب الجاحظ، لا يسموا إلى أسلوب أبو حيان التوحيدي، فلا تجد الجاحظ يملك ذلك الاسترسال، وتدفق الألفاظ والمعاني.

ويقول الباقلاني عن الجاحظ، وقد انتقد منهجه وأسلوبه بقوله: أن الجاحظ لا يستطيع الاسترسال، إلا إذا استعان بكلام غيره، وأنه إذا لم يستعن بكلام غيره، أصبح كلامه ككلام غيره.

العظمة في كتابات الجاحظ في عصره

وعظمة الجاحظ في كتاب البخلاء، تكمن في قدرته على التصوير، وقدرته على تجسيد الحدث، والأشياء كأنك تراها أمامك.

وكذلك قدرته الرائعة، بأن يكون خصماً وحكماً، وأن يكون قاضياً ومحامياً في نفس الوقت، ويزيد هذا بحجة بالغة، وينتصر لهذا ثم ينتصر لذاك، بأسلوب بديع.

وكذلك أن جزء من عظمة الجاحظ، تكمن في تراثه الذي اندثر، فلو بقي ووصل إلينا، لكان الجاحظ لنا أكثر اشراقاً، وأكثر عظمة مما هو عليه الآن.

ونخص بالتحديد، كتاب الإعجاز في نظم القرآن، فلم يصل إلينا الكتاب، رغم لأن الجاحظ أول من كتب في موضوع إعجاز القرآن.

ونتوقع أن الكتاب هذا، كان فيه قدرة الجاحظ على التحليل والإبداع البياني، في تناول كتاب الله، مثل الزمخشري، عندما تناول كتاب الله تعالى، فهذا نقله نقلة نوعية.

وأظن أن عظمة أي إنسان، تكمن في من يتخذه راية للعداء أو للاستشهاد، فالحدثيون يرون في الجاحظ، إماماً في الحداثة، وغيرهم يرون فيه أنه في ضلالة.

تكمن عظمة الشخص في الذي يخلقه من الصراعات والتناقضات، ولهذا الجاحظ صنع هذه الأجواء، منذ أيامه هو حتى أيامنا هذه، ولعله قبل المتنبي، هو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

الجاحظ والمذهب الحديث في الأدب

والايديولوجية قد أضرت به، أن الجاحظ لو كان أشعرياً، ومناصراً من مناصري المذهب الحديث، لكان اليوم مرفوعاً على الرؤوس.

ولكن لأن الجاحظ من المعتزلة، فهذا واحد من المآخذ الكبيرة، التي أخذت عليه، ولهذا تحدث عنه البعض بالسوء، والانتقادات الكبيرة.

الجاحظ كان متعدد الاهتمامات، فهو مؤرخ وأديب ولغوي، واهتم بالأمور التي لا يذكرها آخرون، وميزة الجاحظ أنه كان له موقف طبقي، في البخلاء وغيره من الكتب.

فكان ينتصر للفقراء أكثر في مواجهة الأغنياء، فموقفه من الكندي، مرتبط بهذا الانتماء الطبقي، وهذه المقاربة تبقى واحدة من الامكانات، التأويلية والتفسيرية لموقف الجاحظ.

والكثير من الباحثين الذين اهتموا بالجاحظ، وخاصة الحدثيين منهم، يتصورون بغض النظر عن الأفق المعتزلي للجاحظ.

أن بوادر الحداثة كانت موجودة في مجموعة من أفكار الجاحظ، وخاصة في كتابه البيان والتبيين، وهو أحد بناة بذور الحداثة في الفكر العربي.

أفكار التحول التي طرأت على المجتمع

وأتصور أن كتاب البخلاء بالضبط، هو كتاب يرصد لحظة التحول النوعي، في الحضارة العربية الإسلامية.

لحظة تحول الإنسان العربي والمسلم، من مرحلة كان يرتبط فيها بالبادية، بثقافتها وثقافة عدم الاستقرار.

إلى مرحلة أصبح بها العربي والمسلم، يعيش في المدينة حياة الاستقرار، مع ما تطلبه هذه الحياة، من متغيرات كثيرة جداً.

وخاصة في بغداد، التي كانت ملتقى حضاري، فهي مدينة فيها العربي وغير العربي، وفيها المسلم وغيره، والأطياف الفكرية والكلامية، والمذهبية المختلفة.

فكان هذا الكتاب، جزء من التأريخ لهذا من التحول، الذي عرفته البيئة العربية الإسلامية، وقد كان الجاحظ دقيقاً في هذه الأمور.

طريقة تأليف كتاب البخلاء المنهجية

طريقة تأليف الكتاب، تعامل معها الجاحظ بجدية وصرامة، فكان يجمع المعلومة ويصنفها ويبوبها، ويستخدم المناهج التحليل والاقتصادية في المجتمع.

فأن لست أمام نص نثري، بل أمام إنسان يحول مادة ويصنفها، إلى علم، وتصبح مادة بدراسة النفس والمجتمع.

وفكرة أن الباحث يبدأ بأن يولد نصوص من نصوص الآخرين، هذه هي الطريقة الحديثة، للكتابة العلمية.

فهو لم يعتمد على طريقة السجع والخيال، بل كان يولد منظورات معرفية وثقافية واقتصادية، من خلال مادة يجمعها بطريقة ما، وبالتالي هو شيء مختلف تماماً، ولا يقارن بغيره.

والجاحظ هو إنسان الأدب، وهو المعبر الحقيقي عما كان يدور في المجتمع العربي، وعن حالته في ذلك الوقت.

يلفت النظر إلى أنه بدأت تظهر فكرة ثنائية البداوة والحضارة، للشيخ بن خلدون، وبالتالي من يريد أن يلتقط هذا الخيط، يستطيع أن يتحدث عن هذه الثنائية وجذورها وتاريخها وتحولاتها، حتى وصلت إلى ابن خلدون ونمت وكبرت، وهي تشغل الكثير من المفكرين وظلت موجودة.

أسلوب القصة القصيرة

فاروق خورشيد، تحدث عن جذور القصة في الأدب العربي، وقصة أصحابنا المسجديين، لعلها أول قصة قصيرة في الأدب العربي، لأنها قد اكتملت فيها كل أركان القصة القصيرة، لكثافة الوصف البديع والحوار وغير ذلك.

وتظلمه كثيراً قراءاتنا المعاصرة، وطريقة الكراهة التي يتبعوها، فعندما نقرأ عنوان الكتاب نبتعد عن القراءة فيه.

مثل البيان والتبيين، يظهر أنه كتاب بلاغة، وتقتصر القراءة على هذا الجانب فقط، ولكن القراءة المتعددة الأبعاد، التي تبحث كما كان الجاحظ يبحث.

في كل سطر عن معان متعددة، صورة المجتمع وعن نفس الكاتب واللغة، التي كانت تستخدم حينها، هذا يفسر أن التوحيدي كان في عصر مختلف عن الجاحظ.

والجاحظ يصور لنا قمة التفكير والعقلية العربية والإسلامية حينها، وهذا الهوس بكل هذه التفاصيل، ترينا أعظم صورة عن الطريقة التي كانت تتناول فيها المعرفة، ويطلب فيه العلم حينها.

مقدمة كتاب البخلاء

في مقدمته في كتاب البخلاء، يذكر مذاهب الناس، حتى في الضحك، ومذاهب غريبة اليوم تتناول كمذاهب فلسفية.

والمقدمة بديعة، تريك قمة العقل العربي والمسلم، والذي وصل إليه، وعندما يقرأه الشباب اليوم، يشعرون بأن هناك جدار بينه وبينهم.

مع أن هناك تعابير من أعظم ما يقرأ، ففي البيان والتبيين، علق على بيت شعر قائلاً: هذه حروف يطرد بعضها بعضاً، وفي تعبير ثان قال: والعادة توأم الطبيعة.

وفي مقدمة البخلاء كما تحدثنا، أنه يخاطب الذي كتب له الكتاب، بقوله: أن أي خطأ سيكون عليه، وليس على الجاحظ بكل صراحة لطيفة.

سيبقى الجاحظ مثار الأسئلة والعداء والولاء الشديد، لأنه عظيم، فلو لم يكن كذلك ما فعل شيئاً.

المقارنة بين الجاحظ وباقي المثقفين الكتاب

المقارنة بين التوحيدي وابن حيان، فإن التوحيدي يعاشر طيلة حياته، وكتبه مملوئة بأنه عندما كان يحاول أن يسير على طريق، مهدها له أبو عثمان.

كل ما يريده أن يكون صدى من أصداء أبي عثمان، والفرق بينهما في النثر، أن الجاحظ يكتب السهل الممتنع، أما ابن حيان كان يميل إلى التصنع.

والجاحظ ربما كان يدافع عن الطبقة الدنيا من المجتمع، ضد الطبقة العليا هذا ممكن، ولكن لعلها قراءة ماركسية لكتاب البخلاء.

والفكرة من أن حديثه عن الكندي، لأنه صاحب أموال، بل إنه تكلم عن الجميع، مثل البقال البخيل مع يومياته الكاملة، فلم يكن يدافع عن طبقة معينة.

والكندي نفسه كتب رسالة في الدفاع عن البخل، فقد جاء لأحد الأشخاص الذين يسكنون في المجمع لديه ضيوف.

فبعث له رسالة قائلاً: جاءني ضيوف، فرد عليه الكندي قال له: إذا كانوا سيبيتون عندك ليلة أو ليلتين لا بأس، ولكن إذا كانوا يعيشون أكثر، نزيد ثمن الإيجار.

فقال: كتبت له لم تزيد الثمن؟ فكتب الكندي عشر صفحات بديعة، رداً على الرجل بالاحتجاج العقلي والمنطقي لزيادة الإيجار.

وأظن أن المجتمع يومها كان مجتمع واثق من نفسه، وهو احتاط أيضاً، فلم يذكر بعض الأسماء، بل ذكر من يفاخرون بأنهم بخلاء، أو من لا صلة له مباشرة معه.

 أسمار وأفكار

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى