الحكومة الصينية : هل من الضروري استخدام قبضة من حديد من أجل الحفاظ على النظام ومنع فوضى الشعب؟ حسب الكثيرين فإن الإجابة هي لا. ليس عندما تريد لبلدك أن يتقدم ويزدهر.
وهذا ما تعلمه ساسة الحكومة الصينية تدريجياً بعد أن أدركوا أن سياسة القمع وحصر الحريات لم تأت بثمرة التطور التي كانوا ينشدونها.
الحكومة الصينية في عهد ماو
فمنذ أن تولى الزعيم ماو زمام القيادة في الصين كانت غايته وضع بلاده ضمن مصاف الدول المتقدمة.
لذلك بدأ ما أسماه الثورة الثقافية للنهوض بالصين من قاع التخلف، من فرض التعليم الإلزامي إلى المزارع الشعبية سيئة الصيت.
تتهم الحكومة الصينية بتجويع وموت أكثر من 50 مليون مزارع بسبب المزارع الشعبية.
عندما سُئل الزعيم ماو قال: لا ضير في أن يموت نصف الشعب لكي يعيش النصف الآخر.
بالرغم من برامجه المكثفة إلا أنه لم يحرز التقدم المنشود، لكن ما تمناه ماو حصل في عهد شي جينبينغ الذي أدرك أن السبيل إلى تقدم الصين هو في خصخصة محدودة لاقتصاد السوق والمزارع وإلاعلام.
وكذلك السماح بقليل من حرية التعبير لأجل الانفتاح على العالم وتبادل الثقافات والتجارة في صيغة شيوعية متميزة عن باقي النظم العالمية، وهذا ما طُبّق في بداية الثمانينات من القرن السابق.
لكن الأمر لم يكن سهلاً ،ففكرة الانفتاح فتحت أبواب الجحيم على الحزب الشيوعي الحاكم بسبب إدراك الشعب مدى الحرمان والقمع الذي يعيشونه مقارنة بالدول الغربية.
وكانت من أشهر الأحداث هي تلك اللقطة الشهيرة لساحة تيامانان عندما وقف رجل أمام دبابة، متحدياً النظام والأعراف. والذي دفع بطلاب الجامعات على التظاهر ضد النظام.
وما زاد الطين بلة انهيار دول الاتحاد السوفييتي، واحدة تلو الأخرى في عام 1989. فكان في اعتقاد مناصري الغرب إمكانية الانقلاب على الحكومة الصينية .
إلا أن تدخل الجيش واعتقال كبار رؤوس الانتفاضة واستعمال أساليب وحشية في قمع المتظاهرين أفشلت كل محاولات الانقلاب على الحزب الشيوعي.
لكن هذه الأحداث والتجرية الفاشلة في القمع في العقود التي مضت، جعلت الساسة الصينيون يعيدون التفكير مجدداً في كيفية منح الحريات الفردية، وفي المقابل احتواء الجماهير ومنع الفوضى.
ما الطرق التي استخدمتها الصين للسيطرة على الشعب
كيف تمكنت من خلالها الحكومة الصينية من التحكم في تفكير ما يزيد عن مليار ونصف شخص، وهو أمر يستحق الوقوف عنده والتفكر فيه.
التحكم في الإنترنت
الدعاية الإعلامية هي من أقوى الأسلحة في يد من يستغلها، فهي الوسيلة الأساسية التي حرضت على الثورات في كل زمان ومكان.
ومن أخطر أنواع الإعلام هو الإنترنت، فغن كان لا بد منه في سبيل تقدم البلد فيجب أن يكون تحت سيطرة مباشرة، لذلك تم وضع ضوابط مشددة حول طبيعة الإنترنت في الصين.
ومن أهم هذه الضوابط:
أن لا يهدد الإنترنت أمن وتطلعات الدولة
منذ انتشاره بشكل واسع في بداية التسعينات، كانت الصين تتخوف من هذه الخدمة الحاسوبية الأمريكية، إلا أنه كان كذلك وسيلة لأجل ازدهار البلاد، لذلك كانت أغلب المواقع محجوبة.
تم حجب أغلب المواقع تحت مشروع درع الذهب الصيني، أو كما يعرف بسور الحماية العظيم تشبيهاً بسور الصين.
فاليوم إذا حاولت أن تبحث عن Google في الصين فلن تجده وكذلك الحال بالنسبة لفيسبوك وتويتر ويوتيوب والويكيبيديا ومواقع أخرى.
كل المواقع الأمريكية محجوبة بداعي حماية مصالح الصين
لكن في المقابل وضعت الحكومة الصينية مواقعها الخاصة في هذه المجالات، فمثلاً Youku هو بديل يوتيوب، و BAIDU محرك بحث بديل عن Google، و Weibo بديلاً عن تويتر.
وأهم استراتيجية تتبعها الحكومة هو تفضيل الترفيه على السياسة، بالإضافة إلى المواقع المحلية، فهناك رقابة مشددة على الكلمات التي تنشر أو تبحث في الإنترنت.
وكنموذج عن بعض هذه الكلمات، امبراطور، ديكتاتور، 1984، مزرعة الحيوان، عالم شجاع جديد، أحداث ساحة تيامانان لكن الأمر ليس في هذه الدرجة من الظلام
سقف الحريات
فالمواطن الصيني اليوم يستطيع ان يتذمر ويشتم الحكومة الصينية والرئيس في المواقع الصينية دون أن يتم المساس به، لكنه سيتعرض للإعتقال أو المساءلة إذا كان هناك تلميح للقيام بتجمع أو بالتظاهر.
بصورة عامة أي شكل من أشكال التجمع في الصين هو خط أحمر لا يمكن المساس به.
أما في ما يتعلق بالشبكة الإفتراضية الخاصة VPN فعلى الرغم من كونها ممنوعة في الصين، إلا أن الحكومة تغض البصر عنها في كثير من الأحيان.
ذلك أن محدودية انتشار هذه البرامج لا تؤثر بشكل مباشر على الرأي العام، وكذلك كون هذه الشبكات مهمة في سبيل التجارة مع العالم الخارجي.
وكذلك لتمكين المبرمجين من الوصول إلى أهم الموارد الحاسوبية.
السيطرة الإلكترونية
من الممكن تلخيص منهج الحكومة الصينية في السيطرة الإلكترونية على الشعب في ثلاث نقاط:
الترهيب
وهو بكل بساطة اعتقال كل من يسيء إلى النظام لذلك عامل الخوف يؤثر على البقية فلا يتجرأ أحد على تكرار ذلك.
لكن هذه الطريقة ليست كافية عندما يحس المواطن الاعتيادي أن الحكومة تخشى من فضح جانب ما وتحاول كتم الأفواه يزيد الفضول لديه بالتحري أكثر وهذا يوصلنا الى النقطة التالية.
فيض المعلومات المتضاربة
تقوم الدولة بتوظيف مواطنين اعتياديين لأجل إغراق مواقع التواصل بالمعلومات المتضاربة.
فتجد هناك من يؤيد الحكومة ومن يشتمها حتى يصل الأمر أحياناً إلى أن يتصارعوا مع بعضهم البعض في التعليقات بالرغم من كونهم يعملون لنفس الجهة.
الغرض من هذه الخطة هي إغراق عقل الإنسان الفضولي بتفاهات ومعلومات لم يكن يبحث عنها في الأساس، وبالتالي يفقد تركيزه وينسى ما كان يريد أصلاً.
الاحتكاك
وهو بديل عن الحجب وأخطر أسلحة الحزب الشيوعي.
فبدلاً من إغلاق المواقع الحساسة وخاصة في فترة الأزمات أو التجمعات، ببساطة تقوم الحكومة بحصر سرعة الولوج إليها، وبالتالي تحمل المواقع ببطء وخاصة في أماكن التجمعات.
هذه الطريقة أثبتت فعاليتها في أكثر من مناسبة، فطبيعة الإنسان العجولة تكون عاملاً سلبياً في مثل هذه الأحداث، لأنه سيفقد الاهتمام ويتشتت ذهنه ولن يزيد غضب الشارع بسبب حجب الإنترنت.
لأن المواقع متاحة لكنها بطيئة فيضعف الاتصال بين الجماعات وبذلك يضعف التنظيم.
الرصيد الاجتماعي
تخيل أنك لا تستطيع أن تشتري تذكرة الطائرة لأن المحكمة العليا قررت حجب رصيدك الاجتماعي. لكن ما هو الرصيد الاجتماعي؟ لفهم هذه الفكرة علينا أولاً العودة الى الماضي.
ففي الستينات عندما كانت المزارع الشعبية هي السياسة المطلقة، كان للمزارعين نظام نقاط يحصلون عليها لقاء إنجازهم أعمالهم المحددة.
ومن تقل نقاطه كان يحرم من حصص الطعام ويتعرض للعقوبة لتأخره عن باقي أقرانه. واليوم مع وجود الإنترنت فإن الفكرة تطورت الى الرصيد الاجتماعي.
كيف يعمل نظام الرصيد الاجتماعي
وهي ببساطة جمع معلومات منوعة عن معظم الذين يعيشون في المدن، حيث يتم تعقب كل المعلومات عن المواطنين مثل توجهاتهم السياسية.
وما يكتبون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك ما يشترون من بضائع، ليس هذا فقط فتصرفاتك الشخصية أيضاً تكون تحت المراقبة.
فالاستغراق مدة طويلة في الألعاب الإلكترونية مثلاً سيقلل من الرصيد، وعلى العكس الأعمال الخيرية والاجتماعية تزيد من الرصيد.
هناك كثير من نواحي الحياة تتم مراقبة الرصيد الاجتماعي لها، كمخالفات المرور والهوايات التي يمارسها الشخص ومواعيد دفع الضرائب، كل شيء يدخل ضمن هذا النظام.
فائدة نظام الرصيد الاجتماعي
تدعي الحكومة أن هذه الإجراءات ضرورية في مجتمع سريع التطور في سبيل السيطرة على الجماهير.
وكذلك وأقتبس هنا: فتح المجال للائقين اجتماعياً للاستفادة من كل شيء وغلق السبل أمام غير اللائقين.
والفوائد التي تأتي من هذا الرصيد مهمة. فمثلاً حجز الطائرات كما قلت، والتمكن من الدراسة في الجامعات المرموقة، أو شراء العقارات.
كيف يطبق هذا النظام
ولتطبيق مبدأ الرصيد الاجتماعي كلفت الحكومة الشركات الصينية الكبرى مثل Alibaba و Tencent بإبتكار برامجهم الخاصة.
حيث وضعت شركة Alibaba رصيد سمسم Sesame Credit لمتابعة وتعقب نشاطات المستخدمين وما يشترونه وكم من الوقت يصرفونه على الإنترنت.
ليست الشركات هي وحدها التي كلفت بهذه المهام فالإدارات المحلية للأقاليم قامت هي الأخرى بتصميم أنظمتها الخاصة.
حالياً الرصيد الاجتماعي ليس موحداً لأنه في مرحلة الدراسة، لكن الحكومة الآن لديها ما يكفي من قاعدة بيانات حول تصرفات وأفكار كل شريحة من المجتمع الصيني.
وسيتم توحيد هذه المعلومات ضمن نظام موحد يمكن الحكومة من إحكام قبضتها أكثر على الشعب.
تأثير نظام المراقبة على الشعب
لحد اليوم تم حجب أكثر من 23 مليون شخص من السفر عبر الطائرات، ووسائل النقل الأخرى. وتم إدراج أسماء أكثر من 7 ملايين ضمن لائحة غير اللائقين اجتماعياً.
مثل هذه الإجراءات تدفع بالمواطن الاعتيادي التفكير ألف مرة قبل أن يتجرأ على الإقدام على أمر غير مقبول .
خاتمة
باختصار القبضة الحديدية ليست سلاح الحكومة الصينية اليوم، بل السبيل وتغيير طريقة تفكير الفرد والمجتمع حسب ما يتماشى مع إيديولوجيات النظام.
لكن على قدر ما تبدو هذه الإجراءات إيجابية في تعديل سلوك المجتمع، إلا أنني أتساءل هل تقييد الحريات وكشف الخصوصية هو الأمر الصائب؟ أم أن توق الإنسان إلى الحرية معناه الفوضى؟
أي من هذا هو الأصح؟ وهل من الممكن أن يتم تطبيق مثل هذه الأفكار في البلدان العربية؟