مساء الخير، لماذا بعض العملات تعاني من ضعف مزمن مثل الجنيه المصري، مثلاً فالدولار الواحد يساوي أكثر من 16 جنيه مصري؟
ولماذا هناك دول تعاني من ضعف شديد جداً، مثل الجنيه السوداني، فالدولار يساوي حوالي 80 جنيه سوداني في السوق السوداء؟
وهناك دول الوضع فيها أسوأ بكثير، والعملة منهارة مثل فنزويلا. فالدولار يساوي حوالي عشرة آلاف بوليفار، آخر مرة عندما تابعته فيها.
الأسباب الرئيسية لانهيار أسعار العملات
كي نفهم لماذا العملة تكون ضعيفة جداً أو منهارة، يجب أن نستوعب فكرة التضخم في الاقتصاد لأن أي ضعف أو انهيار في أسعار العملة ، هو شكل متطرف ومتطرف جداً من أشكال التضخم.
ما هو التضخم؟
التضخم كما علمنا إياه أستاذ الاقتصاد المرموق الدكتور محمد البنا، هو الارتفاع في المستوى العام للأسعار في بلد ما.
وعندما ترتفع الأسعار لجميع السلع، معنى ذلك أن القوة الشرائية لعملة ما انخفضت، ولم تعد هذه العملة قادرة على شراء نفس الوحدات من أي سلعة كانت تشتريها من قبل.
القاعدة التي يعرفها كل الاقتصاديين أن التضخم عبارة عن أموال كثيرة جداً تطارد سلع وخدمات قليلة جداً.
فلو فهمنا هذا بشكل واضح سيكون مفهوم التضخم سهل جداً، فالارتفاع في الأسعار أو انخفاض سعر العملات ينتج أحد العاملين:
اقتصاد ضعيف
إما أن الاقتصاد يضعف وبالتالي الجهاز الإنتاجي لا ينتج ما يكفي للمواطنين، تقابله خدمات وسلع قليلة. والإنتاج من كافة الأنواع قليل لأي سبب كان.
وبالتالي الأموال في هذا البلد تطارد عدداً محدوداً من الخدمات، ووفق قانون العرض والطلب فإن أسعار هذه السلع والخدمات سوف ترتفع.
الإقراض
أو العكس أن يبقى الجهاز الانتاجي لم يتغير ولم يتأثر وأن السلع والخدمات بنفس معدلاتها، لكن ما حدث أن هناك أموال كثيرة دخلت لهذا البلد عن طريق غير طريق الإنتاج.
عندما تكون في البلد حركة اقتصاد معافى يتولد عندها أموال، وهذه ظاهرة صحية ولا تؤدي إلى التضخم، لكن ما يسبب التضخم أن تدخل أموال لا يقابلها زيادة في السلع والخدمات.
ويمكن حدوث ذلك بعدة طرق أبسطها أن البلد تقترض قروضاً كثيرة، وهذه القروض لا يقابلها إنتاج سلع وخدمات.
فلو قررت دولة أن تقترض 20 مليار دولار في فترة زمنية ما، تدخل هذه الأموال الأسواق وتصبح أموال كثيرة تطارد نفس السلع بالتالي من الطبيعي أن ترتفع الأسعار.
تأثير طباعة الأوراق النقدية
يمكن لأي بلد أن تقرر أن تطبع أوراقاً مالية بدون ضوابط، فإذا لم تلتزم البلد بالضوابط وطرحت كمية كبيرة من الأوراق المالية سيكون هناك كمية أموال كثيرة تطارد بضائع قليلة وبالتالي يحدث الانخفاض.
عندما تنخفض العملة في أي بلد يرتبط بذلك أمر بديهي، وهو أن تقل قيمتها أمام العملات الأخرى.
لأن سعر صرف أي عملة وقيمتها أمام العملات الأخرى يحدد وفقاً لمعايير معينة، أحدها هو القدرة الشرائية لهذه العملة في بلدها مقارنة بالقدرة الشرائية للعملة التي تقارن عملتك بها.
مثلاً عندما نحدد الجنيه السوداني نرى أن الجنيه السوداني ماذا يشتري والدولار الواحد ماذا يشتري في بلده. وبالتالي هذا يكون عاملاً مهم جداً في تحديد كم جنيه السوداني يساوي كم دولاراً في أمريكا.
فعندما يضعف الجنيه في بلده من الطبيعي أن تنخفض قيمته أمام العملات الأجنبية الأخرى. وكل ذلك مرتبط بالظروف العادية.
أي هناك اقتصاد وخلل وضعف في الإنتاج لأي سبب أو هناك سياسات نقدية خاطئة أدت إلى طباعة نقود أكثر مما ينبغي أو أدت إلى قروض.
فأصبح هناك وفرة من المعروض في النقود دون أن يقابله سلع وخدمات، وبالتالي يحدث التضخم.
هذه المسألة تتضاعف في حالة الحروب والثورات والاضطرابات السياسية وتنتقل العملة من مرحلة الضعف إلى مرحلة الضعف الشديد جداً.
فبدل أن تكون تدفع عشرة وحدات من أي عملة لتشتري كيلو من اللحم، يمكن أن تجد مع التضخم أنك تدفع عشرين ومن ثم يزيد التضخم فتدفع ثلاثين وأربعين ومائة ، وأحياناً التضخم يصل إلى أرقام فلكية.
كما حدث في فترة من الفترات في زيمبابوي، عندما أدى التضخم إلى انخفاض سعر الدولار المحلي ووصلت قيمته مقابل الدولار الأمريكي إلى 2.5 مليار من عملة زيمبابوي، وهو رقم مخيف جداً.
وكذلك الوضع الموجود في فنزويلا.
كيف تنهار العملة
إذا أخذنا السودان كمثال لنفهم قصة تدهور العملة، سنجد أن في السودان كان الدولار يساوي حوالي 12 جنيه سوداني عام 1988-1989 وطرفي معادلة التضخم ينطبقان على الوضع في السودان.
الطرف الأول بضائع قليلة جداً
السودان على مدار الثلاثين سنة الأخيرة منذ تولى الرئيس السابق عمر البشير عام 1989 والسودان في حالة من الاضطرابات والحروب الأهلية والعقوبات الدولية بالإضافة إلى الثورة التي أطاحت به مؤخراً.
كل هذه الاضطرابات بالإضافة إلى السياسات التي اتبعها الرئيس أدت إلى عزلة السودان دولياً، وكانت النتيجة أننا أمام بلد اقتصاده ضعيف جداً وجهازه الإنتاجي ضعيف جداً.
فأصبح ما ينتجه السودان رغم إمكانياته الضخمة من سلع وخدمات محدود جداً، وبلد يفر السودانيون منه ليستثمروا في الخارج وليس في الداخل، وبلد لا يستطيع استقبال مستثمرين أجانب.
المحصلة أن إجمالي ما ينتجه السودان من سلع زراعية وصناعية وخدمات مختلفة محدود، وبالتالي من الطبيعي أن يكون 44 مليون سوداني يتسابقون ويتنافسون على عدد محدود من السلع والخدمات.
ومن البديهي أن ترتفع أسعار هذه السلع والخدمات، وعندما يرتفع السعر يقل سعر الجنيه السوداني بطبيعة الحال.
الطرف الثاني بضائع قليلة
ولو أخذنا الطرف الآخر من المعادلة أموال كثيرة تطارد بضائع قليلة، نجد على مدار الثلاثين سنة الفائتة أن السودان لأسباب مختلفة اقترض كثيراً.
وآخر تقدير توفر لدي، وهي تصريحات وزير المالية السوداني الحالي لوكالة رويترز قال أن ديون السودان الحالية هي 60 مليار دولار، بينما الناتج المحلي للسودان في سنة 2018 كان حولي 41 مليار دولار.
ما يعني أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي حوالي 150%، وبالتالي السودان دخل إليه كمية كبيرة من النقود لا يقابلها سلع ولا خدمات فمن البديهي أن تضعف عملته.
ووفقاً للدكتور صابر محمد حسن محافظ البنك المركزي في تصريحات له قال أن الضغوط التي كانت موجودة على البنك المركزي السوداني أجبرته على الاعتماد على طباعة نقود لا يقابلها أصول.
كل دول العالم تطبع أوراقاً مالية طبعاً، لكن في الوضع الطبيعي عندما تطبع الدولة أوراقاً مالية تعتبرها التزامات عليها، يجب أن يكون في خانة الأصول مقابل لها.
فتطبع الدولة لأنها تملك ذهباً أو عملات أجنبية أو سندات حكومة وهكذا. لا يطبع بدون رصيد.
فلو طبعت الدولة بشكل مكشوف فهو عبارة عن مجرد ورق نتيجة لضخه في السوق، وهذا سيؤدي إلى تضخم الأسعار وارتفاعها بشكل كبير.
وطبقاً لتقديرات محافظ البنك المركزي السابق قال أن عام 1988 كان المعروض النقدي في السودان أي كمية العملة السودانية المتداولة في السوق 14 مليار جنيه سوداني.
وفي نهاية عام 2016 وصل المعروض إلى 121 تريليون جنيه، معنى ذلك أن الكتلة النقدية والأموال التي ضخت بين أيدي الناس تضاعفت مئات المرات وآلاف المرات.
وبالتالي ينطبق على السودان هذه المعادلة أموال كثيرة جداَ تطارد سلع وخدمات قليلة جداً.
ضعف العملة
من البديهي عندما يكون الوضع بهذا الشكل سيكون هناك صعوبة في الحصول على العملات الأجنبية مثل الدولار أو الين أو اليورو لتستطيع الدولة شراء احتياجاتها لأن العملة ضعيفة جداً.
وليس لديها موارد مثل السياحة النشطة ولا الصادرات ولا الاستثمارات وسيكون لديها بالتالي صعوبة في الحصول على النقد الأجنبي.
بالمناسبة أي دولة، السودان أو غيرها، يكون لديها ضعف مزمن في الحساب الجاري يجب أن يكون لديها تضخم ويجب أن يكون لديها ضعف عملة أمام العملات الأخرى.
ما هو الحساب الجاري؟
هو إجمالي صادرات البلد ووارداته من السلع والخدمات، فالبلد تصدر سلعاً وخدمات أكثر للعالم أم تستورد سلع وخدمات أكثر؟
فلو كانت تصدر صناعات وزراعات ولديها سياحة وتعليم ورعاية صحية جيدة، تستقبل مرضى وطلاب علم وسياح، وتصدر قطن وبترول وسيارات، هذه تكون عملتها أقوى لو تصدر أكثر.
أما لو كانت تستورد سلعاً وخدمات أكثر من العالم الخارجي، فمن البديهي أن تكون عملتها ضعيفة.
كلما زادت الصادرات كلما قويت العملة، وكلما زادت الواردات لكما ضعفت العملة .
أزمة السيولة
أحياناً عندما تعاني دولة أزمة عملة يرتبط بها ظاهرة غريبة وهه أزمة السيولة.
فبلد مثل السودان ولفترة طويلة الناس لا يجدون الجنيه السوداني نفسه، وتجد صفوفاً منهم مصطفين على البنوك في محاولة الحصول على جزء من مستحقاتهم الموجودة في البنك ولا يستطيعون.
وهذا مرتبط بسبب آخر وهو في أوقات الاضطرابات السياسية الناس أحياناً يفقدون الثقة في الجهاز المصرفي.
ويفضلون أن يحتفظوا بأموالهم في البيت، ولا يريدون التعامل مع الجهاز المصرفي لأسباب مختلفة وبالتالي يضعف الجهاز المصرفي بشكل كبير وأحياناً ينهار.
ولذلك يصطف الناس أمام البنوك ولا يحصلون على مستحقاتهم.
متى تنهار العملة
الأمر يتعلق بضعف العملة، فعندما تكون العملة ضعيفة يصبح الدولار مرتفع السعر يصل إلى 80 أو 90 جنيه مثلاً، وأحياناً تنهار العملة تماماً.
العلماء والاقتصاديون مختلفون على تعريف الانهيار كم هو حجمه، ومتى يقال أن العملة انهارت تماماً.
وأياً كانت الطريقة في قياس انهيار العملات والاتفاق على انهيارها، فهو عندما يفقدها الناس تماماً وعندما يحدث ذلك تعجز النقود عن أداء وظائفها الأساسية.
ما وظائف العملة؟
لها ثلاث وظائف أساسية كما تقول الأستاذة الدكتورة سلوى العداري هي:
وسيلة للتبادل
نبيع ونشتري بها.
مخزن للسعر
عندما يضع الناس المال في البنك أو البيت يعتقدون أنها لن تتغير قيمتها ولا تنخفض بشكل كبير ويومي والمفروض أنها تحتفظ بقيمتها كما هي تقريباً لفترة من الزمن.
وإلا إن كانت ستضعف بشكل يومي فسيريد الناس التخلص منها ولا يحتفظون بها.
وسيلة للحساب
أي تقّدر بها سعر الأشياء ليتم التبادل.
عندما تفقد العملة قيمتها نتيجة عدم الثقة فيها وبوظائفها الثلاث يحصل انهيار للعملة، لأن الناس لا يريدون هذه العملة، ويخافون الاحتفاظ بها،
فيسارعون للتخلص منها بأن يحولوها إلى عملة أخرى لو أمكن، ويشترون بها سلع وبضائع بسبب الخوف لو انتظروا قرار الشراء ستنخفض العملة أكثر.
كما الحال في الثمانينات في أمريكا اللاتينية عندما ابتدأ الناس بالتفكير في شراء الثلاجات لأن العملة أخذت تنخفض قيمتها، فاستطاعوا تخزين سلع غذائية فيها وكلما حصلوا على مال يشترون بسرعة.
الفرق بين الضعف المزمن والمؤقت للعملة
الضعف المزمن في عملة ما ليس له علاقة بالضعف المؤقت الذي يمكن أن ينتج عن مشكلة عابرة مثل المضاربة أو أي مشكلة قرار اقتصادي مؤقت.
مثل أن تقرر الدولة أن تعوّم عملتها، أو تغيّر طريقة سعر الصرف كما حدث في مصر. فيحدث تضخم ويكون مفاجئاً ومؤقتاً ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه لو كان الاقتصاد سليماً.
أو بلد تعرض إلى أزمة سياسية أو بعض المضاربات، كما حدث في تركيا السنة الماضية وفقدت العملة حوالي 40% من قيمتها، ثم تعافت العملة نسبياً لأن الاقتصاد التركي اقتصاد جيد.
وأيضاً كل ما سبق لا علاقة له بضعف العملات الذي تتعمده بعض الدول لتدفع بصداراتها أو تعفي صادراتها كما في الصين واليابان.
أشكركم والى اللقاء.