البجعة السوداء بقلم نسيم طالب : يمتاز البشر بقدرتهم على تفسير مختلف الظواهر التي تحدث في بيئتهم المحيطة إلى معلومات مفيدة .
هذه القدرة سمحت للبشر على إيجاد المنهج العلمي و تكوين فلسفة حول طبيعة الوجود و ابتكار نماذج رياضية و معقدة .
على الرغم من امتلاك البشر لهذه الموهبة فإن هذا لا يعني بالضرورة مقدرتهم على تفسير أو فهم كل ما يولجهم في العالم .
أحداث البجعة السوداء والمفاهيم الخاطئة
يميل البشر عادة إلى أن يكونوا ضيقي الأفق مع المعتقدات التي يشكلونها حول العالم المحيط بهم .
بمجرد أن يكوّن البشر فكرة عن كيفية عمل العالم فإنهم يميلون إلى التمسك بها ، ولكن لأن المعرفة البشرية تتطور باستمرار و تتوسع فإن هذا النهج العقائدي لفهم العالم قد لا يكون ذو أساس منطقي .
قبل مائتي عام على سبيل المثال كان الأطباء والعلماء واثقين من معرفتهم بالطب لكن معرفتهم وفهمهم للطب قد تبدو مدعاة للسخرية في يومنا هذا .
كون البشر متمسكين بمعتقداتهم و الأفكار الأساسية التي يؤمنون بها قد يجعلهم جاهلين بتلك المفاهيم التي تقع خارج النماذج التي شكّلوها سابقاً .
هذا النوع من التفكير العقائدي قد يظهر أهدافاً غير مألوفة لدى البشر على أنها مفاجآت كبيرة .
نحن نندهش أحياناً من الأحداث ليس لأنها عشوائية أو خارجة عن المألوف أو المنطق ولكن لأن نظرتنا ضيقة جداً .
تعرف هذه المفاجآت بأحداث البجعات السوداء والتي من الممكن أن تدفعنا إلى إعادة النظر بشكل أساسي في نظرتنا للعالم .
على سبيل المثال قبل أن ير أي شخص بجعة سوداء افترض الناس أن جميع البجعات كانت بيضاء ، و بسبب هذا كانت كل صورهم وتصوراتهم من البجع الأبيض ، مما يعني أن اللون البيض كان جزءاً أساسياً من البجعة .
لذلك عندما اكتشفوا أول بجعة سوداء فإن هذا أدى بشكل أساسي إلى تحويل فهمهم إلى ما يمكن أن يكون عليه البجع ، و ينطبق مفهوم البجع الأسود على مختلف نواحي الحياة .
لذلك فإن أحداث البجعة السوداء هي أحداث يعتقد أنها تقع خارج نطاق المألوف أو المحتمل ، ولكنها عندما تحدث فإنها تغيّر فهم البشر لبعض معتقداتهم السابقة في الحياة .
تأثير أحداث البجعة السوداء على المعلومات
قد يختلف تأثير أحداث البجعة السوداء مع اختلاف طبيعة الأشخاص ، و يتحدد ذلك التأثير من خلال وصولك إلى المعلومات ذات الصلة .
فكلما كانت لديك المزيد من المعلومات قل احتمال تأثرك بأحداث البجعة ، وكلما كنت جاهلاً كلما أصبحت أكثر عرضة للصدمة بهذه الأحداث .
لنفترض أن هناك شخصاً يدعى جورج بدأ مؤخراً في متابعة رياضة سباق الخيول .
في زيارته الأولى لمضمار السباق أعجب جورج بحصان يدعى روكيت ، تبين لجورج أن روكيت له سجل حافل من الانتصارات و يقوده فارس ماهر ، كما أنه ليس لديه أي ند حقيقي في ذلك السباق .
اعتقد جورج بأن روكيت هو الخيل الأفضل للرهان ، و بناءاً على ذلك قام بمراهنة مبلغ كبير من المال على فوز الحصان روكيت .
عند انطلاق مسدس البدء لم يغادر روكيت منصة الانطلاق بل بقي متسمّراً في مكانه حتى وصلت جميع الخيول إلى خط النهاية .
بالنظر إلى المعلومات التي جمعها جورج كان ما قام به الفرس روكيت حدث من أحداث البجعة السوداء .
ولكنه في المقابل قد يكون حدث متوقع لعدد من الأشخاص الذين يمتلكون معلومات أكثر وذات صلة أكبر بأحداث ذلك السباق بالتحديد .
فمثلاً مالك الفرس روكيت كان على علم بأنه قد تعرض لتدريب قاس في الأيام التي سبقت السباق ، لذلك قام المالك بالمراهنة ضدها تحسباً أن تعاند الفارس و ترفض المنافسة مع الخيول الأخرى .
مع أن كمية المعلومات الإضافية التي امتلكها مالك الفرس قد تكون صغيرة للغاية إلا أنها جنبته الوقوع في فخ حدث بجعة سوداء .
تأثير البجعة السوداء على المجتمعات
حجم التأثير الذي ينتج عن أحداث البجعات السوداء يمكن أن يختلف بشكل كبير أيضاً ، فبدلاً من التأثير على الأفراد فقط يمكن لمجتمعات بأكملها أن تقع ضحية لأحداث بجعة سوداء .
عندما يحدث هذا يمكن لحدث البجعة السوداء أن يغير طريقة فهم العالم في العديد من المجالات مثل الفلسفة و الطب و الفيزياء .
فمثلاً عندما اقترح كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون كانت العواقب هائلة عليه وعلى مجتمعه وعلى العالم أجمع .
الاكتشاف الذي توصل إليه كوبرنيكوس كان تحدياً سافراً لسلطة الكنيسة الكاثوليكية الحاكمة و كذلك للسلطة التاريخية لتعاليم الكنيسة و تفاسيرها للكتاب المقدس .
وفي ناهية الأمر كان اكتشاف كوبرنيكوس بداية جديدة لتأسيس فهم جديد و معتقدات جديدة في كافة المجتمعات الأوروبية .
و يختلف تأثير أحداث البجعة السوداء اختلاف الأشخاص و المجتمعات ، وقد تنتج عن جهل لكمية صغير من المعلومات .
معرفة الماضي لا تعني معرفة المستقبل
يعتقد البشر في أغلب الأحيان بأن الماضي مؤشر جيد لما قد يخبئه المستقبل ، فيميلون إلى خلق التوقعات بناء على ما يعرفونه من الماضي .
لكن هذا الاعتقاد يجعلنا عرضة للأخطاء ، بسبب العديد من العوامل غير المعروفة التي يمكن أن تتعارض مع رواياتنا وفهمنا للأحداث الماضية .
تخيل أنك ديك رومي يعيش في مزرعة ، وعلى مر السنين كان الفلاح يطعمك ويؤويك في حظيرة دافئة في الشتاء ، وفي الصيف يتيح لك التجول بحرية في أرجاء المزرعة .
إذا استخدمت الماضي كمؤشر لما سيحدث لك بالمستقبل لن يجعلك تجد سبباً مقنعاً لتعتقد أن الغد سيكون مختلفاً .
لكن للأسف فإن الغد هو يوم عيد الشكر ، وسيأتي الفلاح ليقطع رأسك ويملأك بالتوابل ويلقيك في الفرن ويأكلك على مأدبة العشاء مع عائلته .
اعتقادنا بأننا نستطيع التنبؤ بالمستقبل بناءاً على معرفتنا بالماضي هو مغالطة لها عواقب وخيمة .
هناك أيضاً مغالطة مماثلة شائعة لدى البشر وهي التأصيل أو التأكيد .
عندما يعتنق البشر معتقداً معيناً في أي من نواحي الحياة فإنهم غالباَ يبحثون فقط عن الأدلة التي تؤكد تلك المعتقدات لدرجة تجاهلهم أي دليل يناقض هذه الأدلة .
عندما نواجه معلومات تتعارض مع ما نعتقد بالفعل فإننا لا نميل إلى قبولها أو تحليلها بشكل حيادي بل غالباً سنبحث عن مصادر تقوض وتنفي هذه المعلومات .
فلو كنت تعتقد اعتقاداً قوياً بأن الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ هو مؤامرة أو خرافة ، ثم صادف أنك شاهدت فيلماً وثائقياً عن الأدلة العلمية للتغيّر المناخي فمن المحتمل أنك ستغضب وستسرع للبحث عن مصادر تفند ما في الفيلم الوثائقي .
وإذا بحثت لاحقاً على شبكة الإنترنت عن معلومات حول تغير المناخ ، فالأرجح ستكون مصطلحات بحثك هي خدعة تغيّر المناخ وليس أدلة على التغيّر المناخي .
لأن أحداث الماضي قد تعطينا مؤشرات مغلوطة لتنبؤ المستقبل ، ونحن نميل إلى تأصيل اعتقاداتنا بأفكار معينة بالأدلة المناسبة لمعتقداتنا .
خطورة الجهل بالمعلومات الصغيرة
لنعد بالزمن إلى ما يقارب الستين عاماً بالتحديد إلى عام 1928 ، ولنفرض أنك مستثمر في سوق الأسهم وقد قررت أن تبدأ استثماراتك بشراء أسهم في السوق الأمريكية .
قبل أن تأخذ هذه الخطوة وكأي مستثمر حريص ، قمت بدراسة إحصائية لسوق الأسهم في الثمانية أعوام الماضية أي من عام 1920 إلى 1928 .
أي قبل عام واحد من أكبر انهيار لسوق الأسهم الأمركيية في تاريخ الولايات المتحدة الذي حدث عام 1929 .
أثناء دراستك لسوق الأسهم قبل خوض غمار السوق الأمريكية ربما تكون قد لاحظت بعض الانخفاضات والارتفاعات الصغيرة .
ولكن بشكل عام قد تكون لاحظت أيضاً اتجاهاً صاعداً للسوق مع اعتقادك أن هذا الاتجاه التصادعي سوف يستمر .
فإنك تعقد العزم و تستمثر مدخراتك في سوق الأسهم الأمريكية ، وفي اليوم التالي وعلى الرغم من تحليلاتك المفصلة ينهار السوق و تخسر كل ما ادخرته .
يعيدنا هذا السيناريو إلى مبدأ الجهل بمعلومات قد تكون صغير لكنها مهمة للغاية إذا كنت قد درست السوق أكثر بقليل من ثمان سنوات ماضية كنت لاحظت العديد من الارتفاعات الفقاعية التي عقبتها انهيارات كبيرة عبر التاريخ .
بالتالي عندما نركز فقط على ما نعرفه من معلومات فإننا نفتح على أنفسنا الباب لمخاطر كبيرة لم نكن نلقي لها بالاً .
في المقابل إذا تمكنا على الأقل من تحديد ما لا نعرفه فسنتمكن من تقليل المخاطر بشكل كبير .
قد تكون سمعت عبارة المعرفة قوة ، فإن المعرفة التي نمتلكها قد تشكل في كثير من الأحيان قيوداً لفهمنا لكثير من الأحداث أو التوقعات في الواقع .
من خلال التركيز فقط على ما تعرفه فإنك تحد من إدراكك بجميع النتائج المحتملة لحدث معين و تخلق أرضية خصبة لظهور أحداث البجعة السوداء .
و إدراكك بأنك تجهل بعض المعطيات و المعلومات قد يساعدك في تقييم المخاطر قبل اتخاذ أي قرار .
المصادر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com