الدولة الفارسية لم تكن مختلفة كثيراً عن الدولة البيزنطية في توظيفها لموضوع الدين، ولكن الدين كان مختلف طبعاً.
الزرادشتية، هي الدين الرسمي للأسر في الدولة الفارسية الثلاثة الكبرى التي حكمت بلاد فارس فترة استمرت حوالي 2500 سنة.
الإخمينية
البارخية
الساسانية
لكن لأننا نتحدث عن أحداث القرن السادس الميلادي، ففي هذه الفترة كانت الدولة الساسانية، هي الدولة الأخيرة في عمر الدولة الفارسية.
فقد بدأت من بداية القرن الثالث الميلادي، وانتهت بالفتح الاسلامي عام 652 بشكل رسمي، والاشكالية الكبرى في الزرادشتية هي ما يلي:
مفهوم الزرادشتية
الزرادشتية من حيث المبدأ، فهي تنتسب إلى زرادشت، وهو كما يرى الفرس، نبياً وجاء بمجموعة من الرؤى والتصورات.
والزرادشتية بشكلها الأصلي تقول ما يلي:
أن هناك إلاها واحداً اسمه أهورا مازدا، أي الإله الحكيم، وهو متعال عظيم عادل ورحيم، وهو يسيطر على كل شيء.
على عالم الخير وعالم الشر، وهذا الإله العظيم يعطي الإنسان حرية الاختيار، فيعطيه من الحكمة ومن الهداية، ما يمكنه من الانتصار على الشر، المخنوق كله من قبل هذا الإله.
وبالتالي الانسان، لديه القوة القادرة على الانتصار، فإذا الروح الإنسانية، استطاعت أن تسير في مسار الهداية، ثم مات الإنسان، فروحه تنتقل إما إلى نعيم دائم، أو إلى جحيم دائم، وفقاً لتصرفها في الدنيا.
طقوس الزرادشتية
ومن طقوس الزرادشتية المشهورة، أن لديها صلوات، وهي خمس صلوات، وهي تنتمي إلى عالم تغير الليل والنهار.
فهي الصلاة عند طلوع الشمس والصلاة عند الظهيرة، وبعد الزوال وعند الغروب وفي منتصف الليل، وهذه الصلوات المعروفة.
وأيضاً كان لديهم من طقوس الزرادشتية، نوع من أنواع الطهارة، التي تقتضي غسل الأطراف والوجه ثلاث مرات، قبل البدء في الصلوات.
والصلاة شكلها كان الدعاء، وفيها قدر كبير من الترانيم، التي أخذت من كتاب الفلستا، وهو كتاب الزرادشتية القديم.
وقد جمع الكتاب في عهد الساسانية، وتشكل من مجموعة من الترانيم، ومجموعة من مقولات كهنة الزرادشتية عبر الزمن.
الزرادشتية وقصة انتشارها
المهم في الزرادشتية هو أنها عبر هذه المرحلة الطويلة من الزمن، أصبحت هوية قومية للدولة الفارسية، والفارسي الحسن الجيد، هو الزرادشتي الجيد.
الزرادشتية لم تنتشر انتشاراً واسعاً خارج مناطق الدولة الفارسية، حتى الشعوب التي كانت تعيش تحت الدولة الفارسية.
مثل العرب في العراق أو البحرين واليمن غيرهم مثل الأرمنية وبعض الناس الذين كانوا يدخلون إلى الدولة الفارسية ويخرجون، لم تعتنق الزرادشتية.
فقد ساهم الساسانيين مساهمة عميقة في تحويل الزرادشتية، إلى ديانة قومية في الدولة الفارسية، وذلك لأن الساسانيون في الأساس، انحدروا من أسرة كهنوتية زرادشتية.
واستخدم التابعون إلى الساسانية ذلك أفضل استخدام، في أن يعطوا أنفسهم شرعية، فائقة على شرعية من سبقوهم من التابعين إلى البارخية.
ولذلك هذا كان أحد مبررات انقلابهم على البارخية في ذلك الوقت، ثم أنهم بدأوا يعيدوا صياغة الديانة الزرادشتية، لأجل أن يناسب حكم الدولة والامبراطورية الفارسية.
الكتاب المقدس الفلستا بيد كسرى أنوشروان
التاريخ القديم في الدين عند الزرادشتية يقول، أن الكتاب المقدس عند الزرادشتية، والذي أصله الفلستا، قد احترقت معظم نسخه عندما احتل الاسكندر المقدوني عام 333 بلاد فارس، واستولى على عاصمتها.
ونحن نعرف على وجه التحديد أن الفستا الموجود حالياً، أو جزء منه الموجود، وضع وجمع في عهد كسرى أنوشروان، وكسرى استخدم ذلك دعاية لحكم الساسانية.
الإمبراطور كسرى أنوشروان ابن الإمبراطور قبات
ونقف قليلاً عند الإمبراطور كسرى، فقد استلم الحكم 531 للميلاد، وعاش فترة طويلة، حيث توفي 597 بعد ولادة النبي الكريم بحوالي ثمان سنوات.
ونقول أن معظم الإخباريين المسلمين، يقولون أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، تمت في 41 من حكم كسرى أنوشروان.
الامبراطور كسرى أنوشروان جاء بعد أبيه الإمبراطور قبات، وقد شجع قبات الدين الآخر الذي انبثق داخل الزرادشتية، اسمها المزدكية.
فاحتضن الإمبراطور قبات المزدكية لسبب مهم، فيقول مزدك مؤسس هذه الديانة، أن النبلاء يمتصون دماء الشعوب، والناس سواسية.
ولذلك دعا إلى ما يشبه الإشتراكية، أن يصبح المال مشتركاً بين الناس جميعاً، وحارب قبات طبقة النبلاء.
الإمبراطور والنبلاء
فكان الإمبراطور قبات كان يكره النبلاء، لأن نفوذهم قد تعاظم، وهم المقصود بهم الاقطاعيون، الذين سيطروا على الأراضي، وكانوا جزءً من الدولة.
فسمح الإمبراطور قبات بانتشار دين المزدكية، لكي يقلل من نفوذ الإقطاعيين، لكن عندما جاء كسرى الأول ابنه.
رأى أن المزدكية تتعارض مع فلسفة الدولة، فالدولة تحتضن الإقطاعيين، وهم جزء من هيكلة الدولة، لذلك حارب المزدكية وقضى عليها، وسارع إلى نشر الزرادشتية بشكل أوسع.
بنى المعابد الكبيرة المذهبة، ثم نشر كتاب الفلستا، وأكرم الكهنة حيث أصبح لهم طبقة راقية في المجتمع، مقدمة على الناس الآخرين.
وهكذا عاشت الزرادشتية حالة من العصر الذهبي في عهد الإمبراطور كسرى أنوشروان.
الامبراطور كسرى وتعامله مع الديانات الأخرى
ولكن دعونا ننتقل إلى كسرى نفسه، وننظر كيف كان يتعامل مع الديانات الأخرى، فقد قلنا أن النسطورية عندما حوربت في بلاد الإمبراطورية البيزنطية.
انتقل بعض أتباعها إلى منطقة الرهم الصيبين، في الدولة الفارسية، وأكرمت الدولة الفارسية وفادتهم، ودعمهتم وأقامت لهم الحرية اللازمة للممارسة الشعائر.
لأن النساطرة يختلفون مع المذهب الرئيسي للدولة البيزنطية، ورأى الفرس بأنهم بذلك يضعفوا النفوذ البيزنطي.
ولكن الشيء المهم هنا هو، أن النساطرة عندما بدأوا ببث الدين، فإن من آمن به واعتنقه كانوا من العرب، العرب المناذرة، الذين بدأ حكمهم في القرن الثالث الميلادي.
وكثير من العرب في منطقة الجزيرة الفراتية، والبحرين وعمان، كانوا متأثرين بدين النسطورية، وهم كانوا معتنقي المسيحية.
استغلال دين المسيحية في الدولة الفارسية
بسبب أن الدولة الفارسية كانت ترعى هذا المذهب وتتفق معه من حيث المبدأ، واستخدمت الدولة الفارسية إذا دين المسيحية.
لكنها استخدمتها لكي تكون سلاحاً، أولاً في ضرب وحدة الديانة المسيحية تحت المذهب الأرثوذوكسي الروماني.
ثانياً من أجل أن تجمع غير الفرس من القبائل العربية، ومن الشعوب التي انضوت تحت لواء الدولة الفارسية.
ومما لفت نظري أني وجدت أنه عندما استقبل النساطرة، في بلاد فارس، سمحوا لهم بنشر ديانتهم، ولكن بشرط أن لا تنشر بين الفرس.
الزرادشتية المجوسية
وذلك باعتقادي أن الدولة الفارسية أرادت من الزرادشتية، أو المجوسية كما سميت لاحقاً، وهو اسم عربي أطلق على الديانة الزرادشتية.
وهذا ليس للعرب وحدهم، بل جاء من الرومان استخدموا نفس المصطلح، في وصف الزرادشتية المتأخرة.
وأقول أن الزرادشتية المتأخرة الساسانية، وبسبب طقوسها، وقوميتها، تحولت إلى شكل آخر عن الزرادشتية المتقدمة.
فسماها العرب وغيرهم المجوسية، فقد تعني عباد النار، وكلمة ماجيك جاءت بالأساس من هذا اصل اسم المجوسية.
والعرب في ذلك الوقت لم يصبحوا مجوساً، مع أنهم كانوا في كثير منهم مثل العراق واليمن ومناطق من الخليج، تحت حكم الدولة الفارسية.
اختلاف الأديان في الدولة الفارسية
بل قد انتمى أغلبهم إلى الدين المسيحي، وفي اليمن أصبح بعضهم يهود، وقد ذكرنا قصة ذو نواس، الذي كان ملكاً من ملوك الحميريين، وكان تابعاُ للدولة الفارسية.
وحارب المسيحيين وقتلهم وحرقهم في نجران 523، لأنه كان يريد أن يلغي نفوذ الدولة البيزنطية والأحباش في اليمن.
الدولة الفارسية، لم تعترض إن اعتنقت اليهودية، أو النسطورية، أو أي ديانة أخرى، مادمت في النهاية تصب في مصلحة الدولة.
واستراتيجيتها الكبرى، في صناعة امبراطورية مركزية ذات نفوذ، وإذا ماكنت خارج إطار المذاهب التي تنشرها الدولة البيزنطية.
كسرى الثاني
جاء بعد ثلاثة أباطرة آخرين، والمسمى كسرى أبرويز، وقد حكم في الفترة الإسلامية 610، فكان إمبراطور الدولة الفارسية.
وكان لديه ميول مختلفة عن كسرى الأول، اتجاه الزرادشتية والمجوسية، وهذا تابع إلى أن زوجته كانت مسيحية، وقضى وقتاً في الدولة البيزنطية.
عندما عزل عن كرسي عرشه في الدولة الفارسية، التجأ إلى الإمبراطورية البيزنطية، حيث أكرمه الامبراطور هناك مورس.
وأعاده بقوة السلاح إلى عرشه، وكرد جميل للدولة البيزنطية، وقع كسرى الثاني صلحاُ طويل الأمد، وأصبح أكثر تعاطفاً، حتى مع الأرثوذوكسية الرمانية.
ويقال أنه في عهده الزرادشتية لم تكن متالقة بالشكل الذي كانت فيه، في كسرى الأول، والأباطرة الآخرين.
وكسرى الإمبراطور الثاني، هو الذي هزم هزيمة نكراء عام 628 من قبل هرقل، وكان آخر الأكاسرة الكبار، الملوك الكبار للفرس، وبعده جاء ابنه، ثم أتت جيوش الفتح الإسلامي، وفككت الدولة الفارسية وسيطرت عليها.
عندما يصبح الدين جزء من ثقافة الدولة، ويصبح جزء من أدواتها، وألعوبة في يد أباطرتها وحكامها وامبراطوريتها.
يفقد الدين روحه، ويفقد تأثيره في النفوس، وينطلق دين جديد، ذو مرجعية، لا قيصرية ولا كسروية، ذات مرجعية تنتمي إلى عالم علوي مستقل مفارق لمصالح البشر في السياسة.
ويكون لحق دين بين الناس جميعا، لا يفرق بين ملك أو إمبراطور، أو انسان عادي.