الشدة المستنصرية : مرت على مصر العديد من الأزمنة السوداء، وذاقت صنوف المعاناة على مر العصور، حتى ظنوا أنهم قد اقتربوا من نهاية الزمان.
ذكر بعض المؤرخين، أن عمر الدولة المصرية، هو خمسة آلاف عام، وابتعد البعض قليلاً بقطار الزمان، وقالوا إن عمرها سبعة آلاف عام.
إلا أن البعض الآخر قد اختار الأبعد، وقيل إن عمرها خمسة وعشرون ألف عام، أي أن عمرها قد بدأ تاريخه، منذ نهاية العصر الجليدي، وقبيل بداية التصحر.
والمقصود بعمر الدولة المصرية تاريخياً، هو عمر الإنسان المصري، الذي ظل شاهداً على مختلف الظروف، الرحبة والضيقة، في تاريخ هذه البلاد العتيقة.
الشدة المستنصرية / تلاحق الكوارث على مصر
يذكر التاريخ المصري، أن ما من كارثة عرفها العالم، إلا وقد مرت على مصر، بالرغم من انتشار عصور الإزدهار، لفترات كبيرة في تاريخ مصر الممدود.
إن التاريخ المصري، هو عبارة عن سلسلة متلاحقة، تتبع كل حلقة ازدهار فيها، حلقة أخرى من الاضمحلال.
وهذا ليس بالعجيب في دولة امتد تاريخها، لآلاف السنوات، إلا أن أكثر الكوارث فتكاً وأعتاها قساوة، كانت الشدة المستنصرية.
الشدة المستنصرية سابقة في التاريخ
التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، لم يعرف التاريخ المصري، ولم يشهد الإنسان المصري ما هو أبشع منها.
لقد كانت الشدة المستنصرية، سابقة في تاريخ المحروسة مصر، لم تشهدها من قبل ولم تشهد مثلها، منذ انتهائها وحتى الآن.
انخفض منسوب المياه وجفت الأراضي الزراعية، مات النبات وهلك الحرث والنسل، وفقد الناس أعمالهم وفقدت الأموال قيمتها.
شح الرزق وخابت الأماني، وظن الناس أن الساعة كادت أن تقوم، قد يظن البعض أن المستنصر كان ظالماً، طالما حوت فترة حكمه شدة مثل الشدة المستنصرية.
فقد يكون الظلم سبباً منطقياً لمثل هذه الشدائد، وهو الذي يتبادر إلى أذهان الناس، إلى أن المستنصر.
كان حاكماً عادلاً، حسن السيرة محبوب من رعيته، فكانت الشدة أسباب مختلفة عن الظلم.
ولاية الخليفة المستنصر بالله
إنه أبو تميم معد المستنصر بالله الفاطمي، ولد المستنصر في سنة 420 للهجرة، وأصبح ولي للعهد في عام 421 للهجرة، وهو بعمر ثمانية أشهر.
تسلم الحكم في عام 427 بعمر سبع سنوات، ونظراً لحداثة سنه، وتعاظم شؤون الحكم، أصبحت أمه وصية عليه، حتى يبلغ أشده، ويستطيع أن يتولى أمور الدولة.
إلا أن فترة الوصاية قد طالت كثيراً، وامتدت إلى أزمان بعيدة، فلقد كانت أمه تتدخل في شؤون الحكم، حتى بعد توليه أمور الدولة، بشكل كامل.
وكان هذا له أثير على الدولة، وأحد أسباب الشدة المستنصرية، والغريب أن مصر، عاشت في بداية عهد المستنصر في رخاء.
وشهد الاقتصاد المصري ازدهاراً، لم يشهده منذ أزمنة طويلة، ويذكر أن أبواب القصر، كانت مفتوحة للعامة، والأدوية داخل القصر كانت توزع على العامة بالمجان.
حتى حدث ما لا يحمد عقباه، وتعاقبت الأحداث المسببة لحدوث الشدة المستنصرية، التي ذهبت بعظمة الدولة المصرية، أدراج الرياح.
بداية الأزمة الاقتصادية في مصر
توفي المستنصر في عام 487 للهجرة، عن عمر 67 سنة، بعد أن دامت خلافته ستون سنة، رحل المستنصر، تاركاً ذكرى يذكرها المصريون بألم، ورسخت في نفوسهم، حتى ورثوها جيل بعد جيل.
وقد خطب له بعد وفاته على كافة المنابر، وكتب على خاتمه: بنصر السمع العليم، ينتصر الإمام أبو تميم.
لم تكن الشدة المستنصرية هي الأزمة الاقتصادية الأولى، بل سبقها إحدى الأزمات الشديدة، حيث كانت من التقاليد المتعارف عليها، لإدارة شؤون البلاد.
هو أن يقوم الخليفة بشراء غلة بمائة ألف دينار سنوياً، حتى يسيطر على الأسواق وأسعار السلع، وبهذه المؤن المخزنة، يستطيع أن يواجه جشع التجار، ويحارب الإحتكار، بوفرة الموارد لديه. وظلت هذه العادة قائمة لسنوات طويلة، حتى أصبحت غير ذات جدوى، لأن الأسعار أصبحت بخسة.
فأشار عليه الوزير علي أحمد البزوي، أنه لا داع لشراء هذه الغلة، ولقلة حنكة الخليفة وعدم امتلاكه لرؤية ثاقبة، انصاع لنصائح وزيره.
في عام 444 للهجرة انخفض منسوب مياه الزراعة، فشحت الغلة وارتفعت الأسعار، وما زاد الطين بلة، أن التجار ازداد جشعهم.
فسارعوا لتجويع السوق، وتخزين الغلال، ولم يعد سوى غلة السلطان، التي لم يعد يشتريها منذ زمن.
ولكي يصلح الوزير ذلك، صادر القمح من مخازن التجار، ووضعها في مخازن السلطان، وتفاوض مع ملك الروم، قسطنطين التاسع.
لاستيراد أربعمئة ألف أردب من القمح، ولكن الصفقة لم تتم، بسبب وفاة الملك، وظلت الأزمة لمدة عشرين شهراً.
بداية الشدة المستنصرية
بدأت الشدة المستنصرية عام 455 للهجرة، واستمرت لسبع سنوات، وكان السبب الرئيسي هو انخفاض منسوب المياه.
ولكن كان لها أسباب معقدة، منها تدخل أم المستنصر في أمور الحكم، حيث أصبح منصب وزير الدولة، يعطى لمن تريد هي.
والتاريخ يذكر، أن الحال وصل إلى تبديل الوزير، أسبوعياً وأحياناً يومياً، وهذا أدى إلى عدم استقرار الأوضاع.
والسبب الثاني هو الحرب التي دارت بين الجنود بعضهم في بعض، حيث أن الجيش الفاطمي، يتألف من الجنود الأتراك.
الذين تحالفوا مع الجنود البربر، وطردوا الجنود السودانيين من القاهرة إلى الصعيد، وحين وصول الجنود السودانيين إلى الصعيد.
عاثوا فيها فساداً، وعملوا على نشر الفساد، وخاصة في نظام الري، لنشر القحط بسبب انخفاض منسوب المياه.
والأتراك غدروا بالبربر، وطردوهم، وسيطروا على القاهرة، ونهبوا قصور الخليفة وأسرته، وتقطعت أوصال مصر، وانقطعت طرق نقل البضائع.
المصريين يأكلون الكلاب والقطط
لم يعرف المصريين سنان عجاف، مثل هذه السنوات، فلم تعد هناك حياة طبيعية، فقد فقدوا كل شيء، وكانت الشدة المستنصرية ضرب من ضروب الخيال.
فلقد توصل لهم الحال إلى أكل الميتات والجيف، حتى أصبحت الكلاب تباع بأسعار باهظة، وبعد فترة ليست بكبيرة، اختفت الكلاب والقطط من الشوارع.
أما عن سعر رغيف الخبز، فقد بلغ خمسة عشر دينار، وثمن البيضة الواحدة عشرة قراريط، أما الماء فقد بلغ سعره دينار.
وأصبحت الأملاك غير كافية لشراء الموارد القليلة، وذكر في التاريخ أن وزير الدولة، ذهب ليحقق في إحدى الوقائع، وعندما خرج لم يجد بغلته، فلقد خطفها الناس وأكلوها.
والشيء الذي لا يصدق حينها، أن الناس بدأت تأكل بعضها بعضاً، وحدثة هذه الفاجعة عندما ألقى الوزير القبض.
على ثلاثة ممن أكلوا بغلته، وصلبهم، وعند الصباح لم يتبق من هذه الأجساد سوى العظام، فقد ألتهمهم الناس من شدة الجوع.
وذُكر بأنه قد سمي زقاق، باسم زقاق القتل، فقد كانت المنازل فيه منخفضة، فعمل سكانها على إنزال الخطاطيف، يصطادون بها المارة ويأكلونهم.
وصل الناس إلى درجة بيع كل ممتلكاتهم، من أجل الحصول على الطعام، وذكر أن النساء كنّ يبعن مجوهراتهن، من أجل الحصول على القليل من الطعام.
وكانت هناك واقعة شهيرة ذكرها التاريخ، عن امرأة باعت عقداً ثميناً لها، بحدود ألف دينار، لتحصل على القليل من الدقيق.
ولكن الناس نهبوه منها في الطريق، ولم يتبق لها من الدقيق سوى ما يكفي لخبز رغيف واحد، فأخذت الرغيف، ووقفت على مكان مرتفع، وصاحت بأعلى صوتها:
يا أهل القاهرة، أدعوا لمولانا المستنصر بالله، الذي أسعد الله الناس في أيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار.
الشدة المستنصرية في قصر المستنصر
وصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه، فلم يعد لديه دواب في الحظيرة، وصار يبيع رخام قبور آبائه وأجداده.
من أجل الحصول على الطعام، ووصل الحال أنه أصبح مديناً بحياته، لابنة أحد الفقهاء، التي أطعمته تصدقاً برغيفين يوميا.
مات ثلث سكان مصر، وبيعت بيوت ثمينة لشراء رغيف الخبز، وطحنة المجاعة الشعب بقوة، لم يستطع الخليفة التحمل.
عبد الله الجمالي منقذ مصر من الأزمة
فطلب يد العون، من بدر بن عبد الله الجمالي، بعد أن فقد العديد من البلدان، التي كانت تحت ملكه، وانخفضت عدد المدن بعد أن انفصلت العشرات.
انتهت الشدة المستنصرية على يد الجمالي، الذي اشترط أن يأتي برجاله، ويفرض سلطته، ويعيد الأمور إلى نصابها بقوة السلاح.
وافق المستنصر بعد أن عين الجمالي وزيراً للدولة، وعمل الجمالي على إصلاح نظام الري، والقنوات.
اهتم بالزراعة، وحارب الجنود المتناحرين، وطردهم من مصر، وجعل كل المحصول في أول ثلاث سنوات، للفلاحين، وفي الرابعة يأخذه هو.
وعرف عن الجمالي أنه كان رجلاً عادلاً، مد يده إلى الدولة الفاطمية، ونفض منها تراكمات الزمن العصيب.
وأفاقها من كبوتها، ومنّ الله على مصر بعد سبع سنوات عجاف، أن فاض نهر النيل، وانقشعت هذه الغمة.
خلد المصريين ذكرى الوزير الجمالي، بإطلاق اسمه، على أشهر المناطق في مصر، وهو حي الجمالية.