إسلام

دلالات الهجرة إلى يثرب في البعد الاستراتيجي


الإنتقال إلى حيز جغرافي جديد كان تحولاً استراتيجياً تاريخياً بامتياز، هو التحول الأهم في مسار البعثة النبوية الشريفة وأقصد بالانتقال هنا، من مكة إلى يثرب الهجرة النبوية.

ما هي دلالات الهجرة إلى يثرب

النبي صلى الله عليه وسلم حتى العام الثالث عشر للبعثة، كانت دعوته عملياً تتركز على الحركة ما بين المنطقة بين مكة والطائف، (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين )

والقريتان هنا في هذا المقام هما مكة والطائف، ورأينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم تحرك بالفعل، وكيف أن معظم وجوده ودعوته كانت متركزة على قريش، ومن وفد إليها من قبائل العرب ومن وفودها في المواسم المختلفة.

لكن في لحظة ما نجد أن قريش، وهي عمود الفخر العربي وعمود الإجماع العربي في تلك المرحلة، قريش هذه لن تسلم بكليتها فما العمل.

بناء قريش جديدة

العمل هو أن تبدأ ببناء قريش جديدة، قريش مسلمة منفتحة على العالم، متصلة ببقية قبائل العرب، ليست مستعلية لا بتجارة ولا بسلطة ولا بمكانة.

بل قريش الرفيقة المتصلة بالناس جميعاً، المتآخية مع الآخرين قريش التي تمثل القيم الأصيلة لما ينبغي أن تكون عليه قريش.

وأن تحصل هنا المفاصلة ما بين قريشين، قريش جديدة شابة، مبادرة متصلة بالعالم، وقريش أخرى منكفئة على ذاتها، معتزة بتقاليد الأباء والأجداد.

قريش المغرورة، قريش التي تحاول قدر الإمكان أن تنتصر لكل مصلحة تعود عليها بالربح والمال والسلطة، وتنفي وترفض كل فكرة تجمعها مع العالم في قيمة جديدة مشتركة.

الهجرة ليست في الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ألا يتعامل مع قريش، بل بناء جديد لقريش جديدة، في مكان جغرافي جديد خارج إطار مكة التي لا تزال تسيطر عليها قريش القديمة.

يثرب تاريخياً

هنا أقف عند مسألة في غاية الأهمية، الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، لماذا؟

يثرب هذه وأنا أستخدم كلمة يثرب قبل الهجرة، لأن هذا الإسم القديم للمدينة المنورة بالطبع، هو إسم قديم جداً.

فتاريخ يثرب يعود لآلاف السنين، ويقال في بعض كتب التاريخ، إلى الفترة المعينية حوالي ألف سنة قبل الميلاد أو ربما قبل ذلك.

ورد إسم يثرب في بعض الكتابات التاريخية القديمة، ورأينا كيف أن الرومان في عام 25 قبل الميلاد زمن الامبراطور أوغسطس أرسلوا بعثة لجزيرة العرب مرت بيثرب.

إذن يثرب قديمة، ليست حاضرة حديثة لا قيمة لها في جزيرة العرب، لكن هناك مميزات استراتيجية أخرى ضرورية جداً في يثرب كي تصبح موطناً للبعثة.

يثرب جغرافياً

تقع في أرض منبسطة فهي واحة، وهنا في مقارنة جميلة يجب أن تعقد ما بين هذه الواحة المنفتحة المنبسطة، والتي يمكن أن تتفاعل مع محيطها في الجزيرة العربية حتى الشام.

والممتد كذلك إلى نجد ثم العراق، مع الوادي غير ذي زرع الذي فيه مكة، الوادي الذي تحيط به الجبال الوعرة والوصول إليه متعذر وصعب إلا بإرادة من يريد فعلاً أن يصل إليه.

هذه المدينة المنبسطة ذات السمات السمحة، المتصلة بالآخرين، أعتقد أنها في تركيبتها الجغرافية والنفسية كانت قابلة أن تتحول إلى مركز للبعث الجديد.

والبعثة التي ستنتقل الآن من نطاق القريتين إلى النطاق العربي كله، ثم إلى النطاق العالمي أجمع.

الحالة الاقتصادية للمدينة

ثم إنها مدينة زراعية، وهذه أيضاً نحتاج فيها إلى وقفة مهمة. الزرّاع في طبيعتهم مستقرون، وبالتالي قدرتهم على التعاون والاتصال وعلى العلاقات الأخرى لها قيمة أخرى مختلفة.

التجار بطبيعتهم أصحاب مصالح، والمصالح تذهب بهم في بعض الأحيان خارج نطاق العلاقات الإنسانية الودودة.

لأن المصلحة تقتضي في بعض الأحيان أن تحالف، وهذا في غالب الأحيان لتحافظ على استقرار الوضع السياسي. كما رأينا في حالة قريش.

ولكن تقتضي في بعض الأحيان أنك في محافظتك على الوضع الراهن، ألا تغامر وألا تتخذ مواقف جديدة وألا تخرج عن السياقات المتوارثة القديمة.

فأنت أبعد عن المقام الأخلاقي في بعض الأحيان وأقرب إلى المقام المصلحي. التجارة والسياسة في هذه الحالة متشابهان في أنهما يغلبان في الأرجح المصالح على لغة الأخلاق.

طريق للقوافل إلى الشام

هنا في يثرب هذه أيضاً لم تكن فقط مدينة زراعة، أي أن اقتصادها كان منوعاً ففيها الزراعة وكانت أيضاً محطة تجارية مهمة لكثير من القوافل التي تعبر من مكة إلى الشام.

طريق للقوافل إلى العراق

وكانت أيضاً طريقاً للقوافل إلى العراق، وبالتالي هي مدينة تجارية أيضاً وليس اعتمادها على التجارة فحسب ولكن اعتمادها على الزراعة.

ومن ثم التجارة لها شخصية أكثر توازناً فيها لغة المصالح ولكن أيضاً فيها لغة الاستقرار.

مدينة حصينة

أي أن كونها واحة ومنفتحة لا يعني أن سهلاً على عدو أن يقتحمها، فكان لديها جبل أحد وهو من الجبال الحصينة، يمثل حاجزاً طبيعياً في شمال المدينة.

وجبل في جنوبها، وكان هناك الحرات التي تحيط بالمدينة من كل جانب، وكان عسيراً على الجيوش أن تغزو المدينة إلا من حيز ضيق.

وكنا رأينا في غزوة أحد، كيف أن المدينة المنورة عندما حفر الخندق أصبحت حصينة جداً، وتعذر على جيش قريش وغطفان اقتحامها.

نحن أمام موقع جغرافي مميز واقتصاد متنوع وأيضاً حصانة أمنية معقولة، وهناك قضية أخرى هي التركيبة الديمغرافية السكانية للمدينة المنورة.

التركيبة الديمغرافية السكانية

اليهود

موجدون في المدينة منذ زمن قديم، على الأرجح أنهم جاؤوا في أزمنة كانت الدول تحارب فيها اليهود، سواء من أيام حمورابي أو بعد ذلك أيام الرومان.

هاجر اليهود خوفاً من بطش الرومان وربما خوفاً من بطش الفرس في مرحلة مبكرة.

وهاجر بعضهم إلى المدينة واستوطنوا في يثرب وبنوا مجتمعاً راقياً معقولاً فيها، وبدأو يتاجرون مع بقية القبائل ويزودوها بالطعام وكانت القبائل تأتي المدينة وتشتري.

الأوس والخزرج

هم قبائل أزدية أي من أصول يمنية، هاجروا في وقت لاحق على ذلك على الأرجح في القرن الثالث أو الرابع الميلادي من اليمن.

جاؤوا إلى يثرب وكان اليهود موجودون في تلك المنطقة، استقر الأوس قريباً من بني قريظة ومن بني النضير واستقر الخزرج قريباً من بني قينقاع. وهذا الجوار أدى لاحقاً إلى التحالف.

أي أن الأوس تحالفوا مع بني قريظة وبني النضير، وكذلك فعل الخزرج مع بني قينقاع، وكما رأينا في حرب بعاث قبل البعثة النبوية الشريفة بخمس سنوات عندما احتدمت حرب أهلية مدمرة في داخل المدينة.

هذه التركيبة المنوعة جاءت بعنصر عربي من قبائل الأزد اليمنية، وجاءت بعنصر فيه لغة أهل الكتاب، أي بمعنى أن لغة رسالة البعثة، لغة النبي موجودة ومطروقة بالنسبة للأوس والخزرج.

كانوا يستمعون إلى اليهود في مناسبات كثيرة، يتحدثون عن نبي قادم في آخر الزمان، ويتحدثون عن شريعة وعن كتاب.

فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وخاطبهم بلغة الشريعة ولغة الأمر والنهي والتحريم والتحليل، كانوا قريبين من هذه الثقافة، ليسوا بغريبين عنها. وحتى عندما قال لهم أنه نبي.

كانوا يسمعون أن نبياً سيبعث في آخر الزمان، بالتالي هذه التركيبة الديمغرافية ساعدت سكان يثرب على تقبل الرسالة، وجعلت من النبي صلى الله عليه وسلم شخصاً مقبولاً في هذا الإطار السكاني.

الحروب المتصلة ما بين الأوس والخزرج

لم كان هناك حروب بين الأوس والخزرج؟ لأن الأوس سكنوا في المناطق العالية والجيدة والخصبة في المدينة، بني قينقاع سكنوا في السافلة في الأماكن التي ليس فيها خصوبة كما هي الحال بالنسبة للأوس.

هذا التنافس في بعض الأحيان كان يخرج عن السيطرة، وتحدث حروب ومناوشات، ومع انضمام القبائل اليهودية الأخرى الموجودة كانت تحصل خلافات أكبر وتحصل تحالفات على مستوى أكبر.

انقسم المجتمع انقساماً حقيقياً، أي قينقاع ومعهم الخزرج بالنسبة لهم بوضع معين لكن بني النضير وبنو قريظة والأوس كانوا في خندق واحد، وفي هذه الحالة هذه الحرب كادت أن تطيح بالخزرج.

والخزرج رغم أنهم قبيلة قوية نسبياً قبل هذه الحرب، وكانوا قد أخذوا رهناً من أبناء اليهود.

والمجتمع انقسم عملياً إلى ثلاث كتل ، الأوس وحلفاؤهم، الخزرج وحلفاءهم، وخرج في النصف على الحياد عبد الله بن أبي بن سلول وكان من الخزرج مع مجموعة من قومه وتجنبوا الحرب.

هذه التركيبة مهمة، وسنرى لاحقاً دور عبد الله بن أبي بن سلول في التعامل مع الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم. وكيف أصبح زعيم المنافقين.

أختم هنا بالقول

الانتقال إلى يثرب ليس انتقالاً إلى موطئ يحتمي به النبي وأصحابه من بطش قريش، ليس انتقالاً من أجل الحماية ليست ملجأً إنسانياً، هذا تحول استراتيجي عميق في طبيعة البعثة.

اليوم نتكلم عن مركز وعاصمة لدعوة سوف تبدأ تتعاطى مع المحيط الجديد، بنفس وعقلية وانفتاح جديد.

عائشة التفت إلى حرب بعاث في فترة ما وقالت، أن حرب بعاث كان مما صنعه الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الحرب بتعبيرها هي التي مهدت وجعلت من النبي شخصاً مقبولاً.

قُتل سراتهم وتفرق جمعهم، وبالتالي قبلوا النبي صلى الله عليه وسلم.

الحروب الأهلية عبر مر التاريخ يعقبها دائماً محاولة تصالحية، وأحياناً انتقال جدي نحو بديل يملأ الفراغ ويعيد التفكير حتى في الأسس العميقة للمجتع السابق على الحرب.

نحن في  العالم العربي الآن نعبر بمرحلة في غاية الخطورة والدقة، أعتقد أن الذي سيحدث بعد قليل هو مراجعة عميقة ومهمة.

ليس فقط للتركيبة السياسية لمجتمعاتنا وللإقليم بل حتى أبعد من ذلك فكرياً وأيديولوجياً وثقافياً ومحاولة جديدة لبعث جديد يؤدي إلى حالة من الاستقرار والازدهار.

كانت يثرب تبحث عن تلك الحالة، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بفكر ووعي وخطاب جديد وزعامة جديدة تنهي الانقسام وتضمد الجراح وتقود المدينة لتصبح عاصمة.

ليس فقط لمحيطها الصغير بل لامبراطورية عظمى تحكم العالم وتكون من أهم الإمبراطوريات عبر التاريخ.

السلام عليكم

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى