الروم : لو أن أحداً منا زار مكة في العام الرابع للبعثة النبوية، سيرى أن الأجواء في مكة مشحونة، فأبو جهل مثلاً، يعذب بعض المسلمين من الضعفاء والعبيد.
سيرى أن أمية بن خلف، يأخذ بلال ويعذبه في الصحراء، وبعض شخصيات مكة، قامت بإجراءات تصعيدية باتجاه النبي الكريم، وأصحابه.
واللهجة باتجاه النبي الكريم، وبني هاشم وبني المطلب، أخذت مجرى لم يسبق له مثيل، لكن في هذا العام كان حديث آخر يدور في مكة، وهي مسألة الصراع المحتدم في العالم، حول جزيرة العرب.
انتصار الفرس على الروم في الشام
الصراع الفارسي الرومي، وصل قمته، بأن دخلت القوات الفارسية إلى مدينة القدس، عام 614 للميلاد.
بالنسبة إلى الفرس، كان يوم انتصار عظيم، لأن القدس كانت تمثل رمزية النظام البيزنطي، في القسطنطينية، ففيها كنيسة القيامة، وتعتبر نفسها حامي حمى الدين المسيحي.
عندما دخل الفرس، دمروا الكثير من الكنائس، وحرقوا الأبنية، وقتلوا الكثير من الناس، وأخذوا إلى المدائن، الصليب الأكثر قداسة، وهو ترو كروس.
الذي يعتقد المسيحيون أن عيسى عليه السلام، قد صلب عليه، وأخذوا الرمح المقدس، وهو الحربة التي قيل بأن الجندي الروماني، طعن بها جسد المسيح على الصليب، كما يعتقدون.
وأخذ هذه المقدسات، من قبل الفرس، أصاب الدولة البيزنطية بالإحباط، وهيبة النظام البيزنطي سقطت، بسبب هذه الهزيمة عام 614.
كان يعني ذلك بالنسبة إلى مكة، كما قلنا في السابق، أن سفينة قريش الصحراوية، كانت تزدهر عندما تكف سفن الروم البحرية، عن الإبحار في البحر الأحمر.
وبالتالي خبر انتصار الفرس في الشام، يعني أن الروم لن يكونوا قادرين على أن يمارسوا ضغط على الداخل الصحراوي العربي، وطريق البر العربي، وتجارة قريش تستمر في ازدهارها.
كانت تخاف قريش أن ينتصر الروم، وأن يخرجوا اليمن من الحكم الفارسي، وسفن الروم تبحر من عدن في البحر الأحمر باتجاه الشام.
وهي مشكلة كبيرة في تجارة مكة، وستكسد، ويعرفون ذلك، من تقلبات الحروب، عبر القرن الماضي.
إذاً خبر هزيمة الروم في عام 614 كان مفرح لقريش، وليس جيداً للمسلمين، لأنهم يعرفون أن استعلاء قريش سيزداد.
تنزيل سورة الروم على النبي الكريم
وهنا نزلت سورة مهمة، ذات دلالات استراتيجية واضحة، سورة الروم
(ألف لام ميم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)
بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، وبضع بالنسبة للعرب، هي الفترة الزمنية، التي أقل من العقد، أي عشر سنين أو تسع سنوات.
يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، لماذا سيفرحون؟ عندما وقعت القدس في قبضة الفرس عام 614، فرح أهل قريش لأن فارس انتصرت.
ليس لأنهم مسيحيين، مع العلم أن كتلة المسيحيين كانت كبيرة، أكثر من المجوسية، وقريش مجتمع مصالح، لا يهمهم من يعبد ماذا.
هزيمة الروم بعد بضع سنين
لذلك إذا عددنا تسع سنوات من هذه الواقعة، أي 623، نعرف من مصادر البيزنطية والتاريخية، بدأ هرقل بحملته المضادة ضد الفرس.
لكن انتصاره الأول، حدث في عام 623، وبدأ يستعيد بعض الأراضي، التي احتلها الفرس، ويتقدم ضد الجيش الفارسي، حتى كانت الهزيمة الأهم في عام 624.
والذي حدث حتى فرح المؤمنون في هذا العام، كانت معركة بدر في شهر رمضان، من العام الثاني للهجرة النبوية، الموافق ل 163624.
وفي تلك المرحلة، وصلت الأخبار، بأن الفرس بدأوا ينهزمون، والروم قد انتصروا، فكان فرح للمسلمين بالانتصار في بدر.
وقريش عانت أكثر، لأن الروم سيستعيدون الشام، وسيطردون الفرس من الشام، ومن مصر، وبالتالي تجارة قريش، ستزوي إذا استطاع الروم، أخذ التجارة في البحر الأحمر.
وكان المؤمنون بحاجة إلى هذا التفاؤل، لأن الطرق أغلقت عليهم، وتعذبوا واضطهدوا، ويقولون للنبي الكريم ادعوا الله لنا.
فيقول: لقد وقع أشد من هذا على الذين من قبلكم حتى كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد إلى آخره.
فكن النبي الكريم من ميزاته، أنه دائماً يبقي الأمل مشتعلاً في الصدور، في أشد لحظات الصعوبة، وهي من المبادئ الاستراتيجية الثانية.
لم يكن يبدي لأصحابه، حالة من القلق والتوتر، لأن في ذلك إضراراً بالغاً بنفسيتهم، وهذه السورة عندما تليت في مكة أحيت الأمل.
الرهان على هزيمة الروم
لدرجة أن أبو بكر الصديق، عمل صفقة، مرهونة، وقال لهم: أن الروم سينتصرون، في بضع سنين، فقالوا له: ليس ممكناً.
فراهنهم على مائة من النوق، إذا انتصر الروم بعد تسع أو عشر سنين، وفاز أبو بكر في الرهن عندما انتصر الروم المسلمون، في بدر في نفس المرحلة.
الشيء المهم، مازال أن طريق الدعوة في مكة أصبحت صعبة، والنبي الكريم يفاجئ قريش، بالمبادرات كانت مبادرته في هذه المرحلة.
الحبشة الممر التجاري المهم
بالنسبة إلى قريش، إضافة إلى الصراع بين الفرس والروم، كانت هناك الحبشة، من أهم مرتكزات الاقتصاد المكي، لأن مكة قريبة من الحبشة.
فكانت التجارة تتبادل في الحبشة، عن الطريق البحري، وكان لديهم سفير في الحبشة، هو عمرو بن العاص، وهو صديق النجاشي.
وقد أرسل النبي الكريم، بعثة استطلاعية، مشكلة من أحدى عشر من الصحابة، ومعهم أربعة من النساء، والرحلة استغرقت أربعة أشهر.
تقول كتب السيرة أن النبي الكريم، أراد أن يؤسس قاعدة قوية للمسلمين، خارج اطار الحبشة، ولكن دلالات الواقعة.
كانت في أسماء البعثة الأولى، التي ذهبت إلى بلاد الحبشة، فوجدنا أنها لا تتشكل من الضعفاء والمساكين.
انما تشكلت من أشراف وأهم الشخصيات في المجتمع المسلم، وكانت برئاسة عثمان بن عفان، ومعه ابنة النبي الكريم رقية، وعبد الرحمن بن عوف، مصعب بن الزبير، وابن العتبة وابن ربيعة ومن الصحابة الكبار.
الشخص الوحيد المعروف، أنه كان ضعيفاً، هو عبد الله بن مسعود، لذلك أراها بعثة لتقصي الحقائق، والتعرف على الواقع في بلاد الحبشة.
كانت عادة الناس في ارسال السفارات، أن يرسلوا شخص قريب نسباً من المرسل، فكان عثمان بن عفان وابنته.
وعادوا بعد ثلاث أشهر، ليرسل النبي الكريم بعدهم، البعثة الرئيسية غلى الحبشة، وكان عدد المسلمين فيها، 83 من الرجال و18 من النساء.