هل فكرت يوماً لم الإنسان يرى الذهب غالياً؟
ما هو المهم في معدن لا تقدر أن تأكله ولا تشربه وقوامه لين لا ينفع لتصنع منه عدةً أو سلاحاً؟
لونه جميل وتقدر أن تصنع منه مجوهرات، وهذا يجعله شيئاً مرغوباً، لكن هل لونه يكفي أن يجعل الذهب العملة التي يقبل بها الجميع؟ بغض النظر عن موقعهم أو معتقدهم؟
فإن سألت العربي المسلم أو الآسيوي البوذي أو الأوروبي المسيحي أيريد ذهباً؟ يجيبونك بنعم بالتأكيد.
هؤلاء الأشخاص عبر التاريخ اختلفوا في أشياء كثيرة، لكنهم جميعاً يتفقون على أن الذهب له قيمة. فلماذا؟
بداية نظام التبادل
البشر في بدايتهم لم يكن لديهم فكرة النقود، وكان اقتصادهم قائم على المعروف والتبادل بشكل رئيسي. تعطي جارك قطعة لحم بمقابل أن يجمع لك حطباً كي تشعل النار وتدفئ بيتك. وإن صنعت حذاءً جيداً، تعطي ابنة عمك زوجاً منها لأنها قصت شعر أختك قبل أسبوع.
لم يكن هذا النظام هو الأفضل لكن كان كافياً للمعيشة. نظام المعروف والتبادل يفي بالغرض مادام المجتمع صغيراً والجميع يعرف بعضهم. لكن عندما يزداد عدد الناس وتتحول القرى إلى مدن، فالوضع يصبح أعقد. فمن السهل أن تقدم خدمة لابن عمك أو لجارك لأنك تعلم أنهم سيردون الجميل في يوم من الأيام، لكن الناس الذين تجهلهم، فلا تملك ضماناً أن تعطيهم لحماً من مزرعتك على أمل أن يردوا المعروف في يوم من الأيام، لأنك يمكن ألا تراهم ثانية.
وفي نظام التبادل لا تقدر أن تعرف سعر الصرف للبضائع المختلفة. فأنت مثلاً تصنع سكاكين ممتازة، والأفضل في المدينة. جاءك شخص ما لا تعرفه سمع عن جودة صنعك ويريدك أن تعطيه واحدة. الأكيد أنك لن تتصدق على كل شخص يطلب منك سكيناً، لأنك ستفلس، فسألته شيئاً بالمقابل فأجابك أن عنده سلة تمر. والسؤال كم سكيناً تعطيه مقابل سلة التمر؟ واحدة، اثنتان؟
لو جاءك أحد وعرض عليك ثوباً، كم ثوباً تساوي السكين؟
نظام التبادل كان يجبرك أن تحفظ سعر الصرف لكل منتج أو خدمة متوفرة في المدينة مقابل بضاعتك، فالثوب يساوي سكيناً كبيرة أو سلتي تمر. كيلو اللحم يساوي حزمتي حطب أو كيسي قمح أو.. وهكذا. لا بد أن هناك طريقة أفضل لتجعل التبادل اسهل.
اختراع العملة
وهنا يأتي دور الاختراع العظيم العملة. العملة اخترعت في أماكن كثيرة عبر التاريخ، ويبدو أنها تظهر بشكل طبيعي بمجرد ازدياد التعداد السكاني في منطقة ما. الفكرة أنه يكون لدينا شيء يمثل قيمة معينة لتسهيل الحسابات بيننا. بدل أن نحفظ سعر الصرف لكل بضاعة في الوجود وندخل في معاملات معقدة، نقدر أن نحفظ السعر بشيء واحد فقط. معادن كثيرة استخدمت كعملات من ذهب وفضة وبذور وأصداف وسجائر.
لكن ما الذي يجعل عملة أحسن من عملة؟ هناك بعض الشروط.
الشرط الأول سهولة الحمل
يجب أن تكون العملة سهلة الحمل والنقل والتخزين. فمثلاً لا تقدر أن تستخدم السكاكين كعملة لأنها حادة. ولا مخلوقات حية لأنه لا يقدر أحدهم أن يجر وراءه سبعة خرفان طوال الوقت في طريقه إلى السوق. فدائماً تجد العملات الناجحة صغيرة الحجم ويمكن رصها بطريقة ما لتسهيل نقلها. والذهب يستوفي هذا الشرط لأنك تقدر أن تفعل به ماتشاء، بصهره وصبه على شكل دوائر أو بالشكل الذي يعجبك. تضعه في كيس أو تمرر خيطاً بوسطه فيكون جاهزاً للنقل.
الشرط الثاني يجب أن تكون العملة مقبولة
من الضروري للجماعة التي تتعامل بالعملة أن تقبلها، يمكنك أن تقدّر صورتك الشخصية، لكن لو حاولت أن تدفع لمطعم بخمسين صورة لك، يمكن لصاحب المطعم أن يحبك فيقبل، لكن غالباً سيرفض ويطلب منك نقوداً حقيقية. والعملة حتى تنجح تحتاج التقدير من الجميع. ولون الذهب نادر في الطبيعة، فلا تجد صخرة أو معدن آخر له لون مشابه، وشكله يلف الأنظار مما جعل الناس يقدرونه ويتزينون به. فهو مرشح ممتاز كعملة.
الشرط الثالث المقاومة للتلف
هناك معادن عدة تستوفي الشرطين السابقين، فالحديد والنحاس يمكنك صهرهما وتشكيلهما بالطريقة التي تريدها، ونوعاً ما لهما قيمة. لكن بهما عيب قاتل، الصدأ. أنت ترى حولك حديداً ونحاساً عفا عنهما الزمن، حيث أنهما يتفاعلان مع الأوكسيجين أسرع بكثير من الذهب.
والذهب معدن خامل لا يتفاعل مع أكثر الأشياء في الطبيعة، طبيعته الكيميائية تجعل تخزينه سهلاً، إن دفنته في الأرض لا يتأثر أو إن احترق البيت فالذهب الذي تحت السرير لا يتأثر، أو حتى فيضانات يدمر القرية فالذهب لا مشكلة لديه مع الرطوبة.
الشرط الرابع المحدودية
العملة يجب أن تكون مصنوعة من شيء كميته محدودة لكي تملك قيمة. سابقاً كان من الممكن استخدام الأصداف كعملة، لأن ليس الجميع يعيشون في البحر، وهذا جعل الوصول إليها محدوداً. لكن في الوقت الحاضر الجميع يقدر على الذهاب إلى البحر وتجميع الذي يريده من الأصداف. فلا يوجد شيء يميزها عن غيرها، وكلما كثر الشيء قلت قيمته.
الذهب نادر في القشرة الأرضية واستخراجه صعب جداً، يحتاج إلى الحفر والتنقيب للحصول على بعض الذهب. فندرة الذهب تجعله مناسباً لأن يكون عملة، وصعوبة الحصول عليه تضمن أن قيمته لا تهبط بشكل مفاجئ.
هذه شروط العملة، يجب أن تكون محمولة، مقبولة، مقاومة، ومحدودة.
ما المعادن التي تصنع منها العملات
هناك مواد قليلة تنطبق عليها الشروط الأربعة، كالفضة والياقوت والذهب والزمرد مثلاً، لكن الذهب بالذات هو الذي أصبح عملة عالمية، وذلك بسبب العرض والطلب. إن مناطق مختلفة في الشرق الأوسط والبحر المتوسط أصبحت تتداول الذهب كعملة للشراء والبيع، إضافة لكونه زينة، بسبب استيفاءه الشروط الأربعة. لكن باقي العالم لم يكن مهتماً به لتلك الدرجة.
تجارة الذهب
الآن تخيل أنك هندي، الذهب يمكن ألا تكون له قيمة في بلدك، لكنك تعرف أنك تقدر على شراء أشياء كثيرة به من الفرس، إذا أحضرت لهم القليل من المعدن الأصفر. فتجمع الذهب الذي حولك وتذهب به للفرس، أي تشتري الرخيص عندك وتبيعه للمناطق ذات الاقتصاد القوي.
الآن هناك طلب عالي على الذهب في الهند، لأن الجميع يريد أن يأخذ منه ويذهب ليصرفه عند الفرس. فيصبح الطلب عالياً، ويرتفع السعر. وبهذه الطريقة يرتفع سعر الذهب في الهند. وتتكرر القصة في مناطق كثيرة في العالم، كون جيرانك يقدرون الذهب يجعله مرتفع القيمة لديك. وهذا السبب الرئيسي الذي يجعل سعر الذهب مرتفعاً. ليس بسبب شكله ولونه أو لأن استخراجه صعب أو لأن له فائدة مباشرة. هذه أسباب يمكنها أن ترفع أو تخفض من سعره، لكنها ليست السبب الفعلي.
سعر الذهب مرتفع لأن البشر يعتقدون أن له قيمة، ويمكن استبداله بخدمات وبضائع مفيدة، وهذا ما يجعل عليه طلباً مستمراً. حتى لو أننا لم نعد نستخدمه كعملة مباشرة، طالما الناس ترى له قيمة والعرض والطلب مستمر، يبقى الذهب المعدن النفيس الذي نعرفه.
Sapiens- a brief history of humankind by Yuval Noah Harari