الحياة والمجتمعحول العالممال وأعمال

مفهوم العقد الاجتماعي


ديستوبيا عربي الصفقة التسلطية

العقد الاجتماعي في الستينات: قبل 70 سنة كانت الرواتب تبلغ بضعة ليرات أو جنيهات أو حتى بضعة دنانير، وهذا الراتب تجده قليل جداً مقارنة بالراتب الحالي، وكان معظم الموظفين يعيشون بسعادة.

يأكلون ويشربون ويحتفظون ببعضه ليشتروا منزلاً في منطقة أفضل. وكنا نسمع دائماً من أجدادنا أن أيامهم كانت بركة وخيراً.

وقبل أربعين سنة، أصبح راتب الموظف لا يكاد يكفي حتى نهاية الشهر هو وعائلته. وإن وجد منزلاً في أحد الضواحي فتكون أمه راضية عنه.

أما في الثمانينات والتسعينات فكانت القصة مختلفة، وعلى ذكر هذا الأمر أسألك كم مرة دار حديثك في المنزل أو العمل أو الجامعة عن وضعك المذري؟

فالراتب الذي تحصل عليه كموظف يكاد لا يكفيك وأنت بمفردك لبضعة أيام بداية الشهر. ولا توجد فرص عمل ولا فرصة سفر للخارج للبحث عن عمل، وتحسين وضعك الاقتصادي.

ولا يوجد منزل إلا إذا أكرمك الله ووجدت شقة في العشوائيات، طبعاً هذه ليست قصتك وحدك هذه قصة معظم الشباب العربي مع اختلاف البلاد والبيئة والتفاصيل.

نظرية العقد الاجتماعي

في كتب علوم القانون والسياسة والاجتماع يبدأ الحديث عادة عن تطور الفكر السياسي، والكلام عن نظرية العقد الاجتماعي ومطوريها من فلاسفة غربيين، مثل جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau.

تنص النظرية على أن الشعب هو مصدر السلطات، يتعاقد مع الحاكم ويفوضه بالسلطة.

وسلطة الحاكم محدودة وقابلة للسحب منه، لأن الحاكم بالنهاية هو مجرد موظف، والشعب له كامل الحقوق في المشاركة السياسية والاقتصادية.

يمكن القول إن هذا الكلام نظري وكلام جرائد، نسمع عنه كثيراً، وتقريباً منصوص عنه في معظم دساتيرنا العربية.

لكن الكلام والتطبيق شيئان مختلفان. لأن الشعب يبدو أنه هو الموظف لدى المسؤولين.

هذا الكلام ليس خطأً، لكنه لا يمنع أن فكرة العقد الاجتماعي يمكن أن تفيد في فهم الوضع السياسي العربي منذ أيام الاستقلال من الاستعمار الأجنبي إلى اليوم.

العقد الاجتماعي التسلطي العربي

يقول بعض الباحثين في السياسة والاقتصاد أن هناك عقد اجتماعي عربي أو لنقل عقد اجتماعي تسلطي.

نشأت على أساسه الكثير من النظم العربية المعاصرة، وقصة هذا العقد الوهمي كالتالي:

في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينات، كانت البلدان العربية حديثة الاستقلال، والاقتصاد فيها هش والخدمات التي تقدمها ضعيفة.

والتنمية أضعف، وخاصة في الريف حيث الخدمات الصحية لا تصل لتلك الأماكن، والبنية التحتية وضعها سيء.

في مصر مثلاً كانت نسبة الأمية حوالي 85% وفقط ربع الأطفال بعمر المدرسة كانوا مسجلون في المدارس. الأمر ليس استثنائياً، فالوضع كان كذلك في أغلب دول العالم الثالث.

وبعد اضطرابات عديدة ظهر فيها عجز الحكم السابق، ووصل إلى الحكم أنظمة جديدة أغلبها جاء بانقلابات عسكرية.

البرنامج الاقتصادي الخدمي

بعيداً عن الأجندة السياسية والطموح بالحكم، كان البرنامج الاقتصادي الخدمي من أهم الوعود للجماهير الكادحة.

مثل إيصال الكهرباء للقرى، وتحسين الرعاية الصحية في الأرياف، وخفض معدلات موت المواليد الذي كان مرتفعاً بشكل كبير. توسيع شبكة التعليم المدرسي المجاني التي كانت موجودة أصلاً.

وفي سوق العمل، كانت الدولة تتكفل بتوظيف كل من يملك شهادة تقريباً، عملياً كان جهاز الدولة متكفلاً بكل أنواع الخدمات الأساسية.

وكانت بعض المواد التموينية مدعومة من الدولة وأصبحت بعد الطرق القروية اسفلتية.

وانتشرت المدارس المجانية في بعض القرى، وبعد التخرج تفرز الدولة الخريجين الى المعمل الوطني لصناعة أغطية الوسائد أو أشرطة الأحذية.

وفي أفضل الأحوال إلى معمل عوازل الحنفيات الذي دشنته الحكومة لتشغيل الشباب.

ما ساعد الأنظمة في تلك الفترة كان تدخل الدولة بالاقتصاد، وقيادتها لعمليات التنمية هو سيد موقف الاقتصاد العالمي. وحتى في البلدان الرأسمالية وليس فقط في البلدان النامية.

وهذا كان مدعوماً من البنك الدولي شخصياً، لأنه حتى على المستوى النظري كانت كتابات العالم البريطاني جون كينز John Maynard Keynes تعتبر أحدث وأفضل النظريات.

التي دعا فيها إلى اقتصاد تلعب فيه الدولة دوراً أساسياً، لأن بدون هذا الأمر فإن معدلات البطالة ستكون عالية جداً.

وهذا ما أحدث نقلة نوعية في الاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى إلى تضخم القطاع العام في كثير من الدول.

النظام السياسي الاقتصادي

في دولنا العربية النظام السياسي الاقتصادي الجديد كان له ثمنين:

الثمن الاقتصادي

كي تنفذ كل ما سبق قامت الأنظمة بوضع يدها على الاقتصاد وأممته، ووسعت القطاع العام.

فاصبحت الدولة هي المالك الأول لكل المعامل والشركات الكبيرة والمتوسطة تقريباً، وبقيت الدكاكين والورش قطاعاً خاصاً.

طبعاً هذا الشيء أضر بفئات معينة، لكن أثره لم يكن كبيراً جداً، لأن القطاع الخاص بهذه البلاد كان صغيراً ولا يوظف الكثير من الناس. وغالبية الشعب العظمى تشتغل بالزراعة.

الثمن السياسي

مقابل تأمين الخدمات الأساسية للشعب، وخاصة الطبقات الوسطى والفقيرة، تم تثبيت نظام حكم تسلطي ديكتاتوري وطرد الشعب من الحياة السياسية.

وأصبحت السياسة منطقة عسكرية ممنوعة إلا على الحزب الحاكم وحواشيه ومكوناته، وهكذا نشأ العقد الاجتماعي التسلطي العربي.

المواطنون يتخلون عن حقوقهم السياسية والاجتماعية التنظيمية أي النقابات والأحزاب والتجمعات التي هدفها الدفاع عن مصالح أعضائها ومن تمثلهم.

ويتركون موضوع السياسة للفئة الحاكمة، التي تبدأ بالقضاء على الأحزاب الأخرى وتحل النقابات وتجعلها جزءاً من أجهزة النظام.

مقابل تأمين الحد الأدنى من الخدمات الدولاتية وتأمين فرص عمل حكومية. والحد الأدنى هو الخدمات البسيطة لكن الأساسية التي لا توجد في كثير من البلدان وخاصة في المناطق النائية.

وبالطبع لم يكن الجميع مستفيدين من هذه الصفقة، كان هناك خلافات، لكن النظام السياسي القائم كان يعالج الأمر بالقمع وأجهزة المخابرات التي أخذت تتوسع وتتقوى بشكل كبير.

خصوصاً في التعامل مع التهديدات الداخلية للنظام، والأمثلة على هذه الأنظمة القمعية التي تعامل معها النظام الجديد مع المحتجين على العقد كثيرة، منها إضراب عمال كفر الدوار عام 1952 بمصر.

حينها الضباط الأحرار لجأوا إلى القمع للتعامل مع المضربين، وفتح النار على العمال، وقتل بعضهم. وهكذا أرسل النظام المصري الجديد رسالة للحركة العمالية بأن تنسى الاحتجاجات والإضرابات.

في سوريا قام النظام الجديد بين عامي 1964 و 1965 عندما كان الرئيس أمين الحافظ بقمع تجار دمشق بشدة، عندما أضربوا احتجاجاً على التأميم، وكانت النتيجة تكسير المحلات والتهديد بمصادرتها.

وتهديد البعض بالإعدام حتى تم فض الإضراب، ورويداً رويداً تم إنهاء تاريخ سوريا المتميز في مجال الحريات النقابية والإضرابات.

الإضراب الستيني في دمشق

هو الإضراب الذي قام به الدمشقيون عام 1936 ضد الانتداب الفرنسي، وهناك أمثلة أخرى من بلاد عربية أخرى مثل إضراب 1968 في العراق الذي قمعته السلطات العراقية وغيره الكثير.

الخلاصة إن الأنظمة السياسية الجديدة وجهت رسالة، أن دائرة العمل السياسي سواء الحزبي أو النقابي أو الاحتجاجي أصبحت محظورة، وأن ما يحدد حقوق العمال والفلاحين والتجار وغيرهم هو النظام نفسه.

لكن بما أن النتيجة كانت نسبياً أفضل على قطاعات كبيرة من العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة وجزء من الطبقات الوسطى لم يكن أمر الديمقراطية مهم في ذلك الوقت.

مظاهرة ضد الديمقراطية في مصر

في مصر الخمسينات، خرجت مظاهرة ضد الديمقراطية لأنها اعتبرتها عقبة في طريق الاستقرار والتنمية الاقتصادية.

والمحصلة رغم بعض الاعتراضات، نجحت إلى حد ما الصفقة التسلطية، وتم التضحية بالحرية مقابل الخبز والخدمات الصحية والتوظيف.

وفعلاً حققت أغلب الدول العربية نجاحات جيدة في تلك الفترة، إن كان في تحقيق معدلات نمو جيدة في الستينات والسبعينات.

وفرص عمل متوفرة ودعم حكومي على السلع الأساسية، وتوزيع أراضي على الفلاحين الصغار، وخفض الأمية، وزيادة الخدمات الصحية بشكل عام.

وساعد ارتفاع سعر النفط في ذلك الوقت بعض الدول العربية على تمويل المشاريع الكبيرة.

وكان الريع النفطي رزقاً جيداً للدول النفطية، وغير النفطية أيضاً، لأن الدول النفطية كانت قليلة السكان نسبياً وتستحضر العمالة من الدول غير النفطية.

على المستوى الخارجي، غالباً تمكنت هذه الأنظمة من الحصول على دعم مزدوج من المعسكرين الغربي والشرقي بنفس الوقت. وهكذا يبدو أن صفقة الاستبداد العربي تسير بشكل جيد جداً.

تغيير المذهب الاقتصادي

لكن في أواخر السبعينات أصبح واضحاً أن إدارة الاقتصاد بهذه الطريقة لن تستمر

فمثلاً التوظيف في الدولة كان غالباً يستخدم لشراء ولاءات الناس ووضعهم تحت جناح الحكومة وليس لتشغيل القوى العاملة في المكان الصحيح.

وبدأت تبدو علامات الفشل والمرض على أغلب الاقتصادات العربية، هذه الأسباب جعلت الأنظمة تفكر بإعادة ترتيب الاقتصاد.

وخاصة في ذلك الوقت على المستوى العالمي، كان المذهب الاقتصادي الكينزي أصبح من الماضي، وارتفعت أسهم مدرسة جديدة قائمة على الخصخصة، وانسحاب الدولة من الاقتصاد.

ويمكن أن يكون الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان Milton Friedman، أشهر من يمثل هذا التيار الذي أصبحت كلماته توصيات للبنك الدولي.

بمعنى يا مواطن تحرك وانظر أن الرواتب أصبحت قليلة، فلم لا تحاول العمل بالأعمال الحرة فهي أكثر ربحاً لك.

فيوماً ما ستحتاج أن تزور مستشفى خاصاً، فالمشفى الحكومي لم يعد كما كان وابنك ربما ستضطر لوضعه في مدرسة خاصة، لأن التعليم الحكومي أصبح منخفض المستوى.

أثر سياسة الانفتاح في مصر

وفي السبعينات استعجل الرئيس المصري أنور السادات في نقل البلد الى اقتصاد السوق، وتبنى سياسات اقتصادية جديدة أطلق عليها اسم الانفتاح.

وبدأ باعتماده عام 1975 وفتح أبواب الاستيراد والاستثمار في البلاد، وبدأ بوعد الناس أن عام 1979 سيكون عام الرخاء في مصر، وأن المال سيهطل كالمطر.

لكن بدل أن يتحقق هذا، أصبح هناك عجز في الدولة، بسبب تركيز الاقتصاد الجديد على استيراد السلع الكمالية من سيارات وأجهزة كهربائية وأدوات زينة .

وعجزت الموارد المصرية عن تغطية الاستهلاك، ولم تأتي استثمارات كبيرة لذا وقعت الدولة في ضائقة، ولجأت الى وصفات البنك الدولي الذي أوصى برفع الدعم عن السلع الأساسية.

انتفاضة الخبز

وهكذا بجرة قلم بداية عام 1977 قام السادات برفع الدعم عن حوالي 40 سلعة أساسية مثل السكر والبنزين والمازوت.

وهذا القرار جعل آلاف المتضررين يخرجون بمظاهرات في شوارع القاهرة وبقية المدن.

وهذه الانتفاضة عرفت باسم انتفاضة الخبز، وأطلق عليها النظام انتفاضة الحرامية، وقرر التعامل معها باستخدام الأجهزة القمعية من الأمن المركزي ومن ثم الجيش.

السادات اضطر بعدها للتراجع عن قرار رفع الدعم، لكنه كان واضحاً أن الدولة تبنت اتجاهاً اقتصادياً جديداً يخل ببنود العقد الاجتماعي.

أزمة الثمانينات الاقتصادية

وفي أواخر السبعينات وخلال الثمانينات تشوهت صورة الدولة عند الشعب، لأن الدولة أصبحت رمزاً للفساد والسرقة والرشاوى، وأكثر من استفاد منها هم فئة قليلة محسوبة على النظام.

وما زاد الطين بلة هو تراجع الاستفادة من مصادر النفط في النصف الثاني من الثمانينات، ونقص موارد الدول بشكل كبير. هذه الأزمة نبهت الشعوب والنخب، وخرجت مظاهرات.

كما رأينا في الحالة المصرية أو بانتفاضة الخبز في تونس عام 1984 واحتجاجات النقابات عام 1980 في سوريا، واحتجاجات المغرب عام 1984 والجزائر 1988 والأردن 1989.

لكن الأنظمة لم تستجب للمظاهرات الشعبية  ولا مظاهرات النخب، وفي الحالتين كان الحل هو القمع الأمني، وحل النقابات واعتقال رؤسائها دون محاكمات، وبهذا فشلت محاولات حل الأزمة بشكل سياسي.

على كل حال رغم صعوبة أزمة الثمانينات إلا أن النظام العربي استطاع تجاوزها بالقمع طبعاً، ولأنه ما زال يستطيع تقديم الحد الأدنى من الخدمات لكثير من أفراد الشعب.

وكانت المؤسسات الحكومية من مشافي ومدارس أمورها تسير ولو بشكل سيء. وسياسة التوظيف الحكومي ما زالت قائمة.

لكن الأمور أصبحت أخطر في التسعينات والألفية، عندما حدث الانفجار السكاني وتراجع الرعاية الصحية، وبشكل عام زاد عدد المواليد بشكل كبير.

الانفجار السكاني

ومع حلول التسعينات، أصبح هناك أعداد ضخمة من الشباب تدخل على سوق العمل سنوياً، ولكن لا يوجد عمل، والقطاع العام كبير لكن متهالك.

والقطاع الخاص ضعيف وغير منظم، ولا يستطيع أن يمتص الانفجار السكاني، وارتفعت معدلات البطالة لدرجة مخيفة.

صحيح أن الكثير من الشباب يمتلك شهادات، لكن انهيار نظام التعليم جعل من هذه الشهادات في كثير من الأحوال بلا فائدة.

وفي نفس الوقت أدى الانفجار السكاني وسوء إدارة الدولة لملف الإسكان، إلى توسع العشوائيات حول المدن العربية.

حيث الخدمات سيئة والكهرباء والماء مقطوعان دائماً، والناس تتكدس، عدا عن دمار النظام البيئي والتلوث.

رأسمالية المحاسيب Crony Capitalism

ولأن هذه البلاد كانت بحاجة إلى خلق ملايين فرص العمل الجديدة، لجأت الى موجة جديد من الخصخصة، لكن لم ترد أن يتفلت الاقتصاد من بين يديها، والسياسة أيضاً.

لذلك كانت الخصخصة من نوع خاص جداً، تتلخص في أن الدولة تعطي امتيازات لشركات او أشخاص مقربين من النظام.

وهكذا أصبح في بعض البلدان نظاماً اقتصادياً جديداً يسمى رأسمالية المحاسيب Crony Capitalism .

أهم مميزاته هو البحث عن الثراء السريع، وعدم القدرة على بناء صناعات ثقيلة تستطيع المنافسة وتشغيل مئات الآلاف من الشباب الباحث عن العمل.

أي لا يوجد معامل كبيرة للسيارات والإلكترونيات والآلات، بل يوجد معامل علكة ومحارم ومناديل معامل بسكويت وفي أحسن الحالات معامل ألبسة ومفروشات.

والأسوأ من ذلك أن السفر إلى الخليج أصبح أكثر صعوبة، والبلدان المصدرة للنفط في ذلك الوقت تريد توظيف اليد العاملة المحلية، بدلاً من الاستعانة بالعمالة العربية.

الحاجة لإصلاحات سياسية واقتصادية

ومع بداية الألفية أصبح واضحاً من الأنظمة القائمة أن الوضع يتجه نحو الخراب، فالعقد الاجتماعي القديم في الستينات انتهت صلاحيته، ولا بد من القيام بإصلاحات جدية سياسية واقتصادية.

وأصبح هناك محاولات سطحية للإصلاح لكن فشلت. لأن الأنظمة لا مصلحة لها في تبديل خسائر آنية مؤكدة بسبب الإصلاح بمكاسب غير مؤكدة في المستقبل.

وهكذا كان الحل الوحيد الذي وجدته هو التنصل مما تبقى من بنود العقد الاجتماعي القديم ومن يعترض فله الأمن والمخابرات ليغلقوا له فمه. وبهذه الفترة نشأ جيلنا وترعرع.

تحديات الجيل الجديد

الدخول إلى الجامعات أصبح صعباً، وبعض الاختصاصات أصبحت حلماً، ونوعية التدريس تعيسة والفوضى في كل مكان.

السكن خارج العشوائيات شبه مستحيل بسبب أسعار العقارات الفلكية، بعدما كان أجدادنا يجمعون لسنوات القليل من رواتبهم ليشتروا المنزل.

الزواج برسم التأجيل، بسبب تفشي البطالة ومشاكل الإسكان.

وبعدما كانت فرص العمل خارج البلد متوفرة، والسفر سهل، أصبح صعباً بسبب مشاكل الفيزا وإشباع أسواق العمل بالخليج. والعمل في البلد نادر وبالمحسوبيات.

حتى الطبيعة والبيئة التي كان أجدادنا يتغنون بها، أصبحت سيئة وتغيرت ملامح بردى والنيل ودجلة والتلوث ملأ الأجواء، والكهرباء والماء مقطوعتان.

لقد صحا جيلنا على هذه الدنيا ووجد أن العقد الاجتماعي القديم أصبح تجارة خاسرة، وعندما رفع رأسه كان الجواب هو القمع بالأجهزة الأمنية.

المشكلة رغم كل ما حدث حتى اليوم، أنه لا يوجد من ينصفك ويعطيك حقك، لقد اهترأ العقد القديم وحتى شكل الدولة نفسها يتغير ويختلف، لأن مؤسسات الدولة وخدماتها تتراجع ومنها ما يختفي.

أين المخرج؟ وكيف نتخلص من العقد الاجتماعي القديم؟

الخطوة الأولى يمكن أن تكون باستعادة وعيك السياسي المغيب لتعرف حقوقك، وتسعى إلى مستقبل أفضل من الحالة الديستوبية التي تعيش فيها، وهذا هو بالضبط هدف برنامجنا.

ونقول يا هادي، عسانا نناقش أموراً تخص واقعنا الديستوبي بطريقة علمية، ولا نبقى في حفرة ليس لها قرار.

ديستوبيات

أوروبا في العصور الوسطى كان واقعها ديستوبي، ولا يختلف كثيراً عن واقعنا العربي المعاصر.

ومع بداية القرن الثامن عشر وخروج أوروبا من عصور الظلام إلى عصور التنوير، جعل الفلاسفة والمفكرين يفكرون في سؤال مهم يحتاج إجابة للخروج من الأزمة، وهو ما هي الدولة وما هي وظيفتها؟

الدولة ووظيفتها هو أهم سؤال يمكن أن نجيب عليه إن أردنا ان نصيغ عقداً اجتماعياً جيداً يخرج بنا من واقعنا الديستوبي الحالي.

الكثير من الفلاسفة مثل جان جاك روسو وتوماس هوبس وجون لوك، رأوا أن المجتمع يعطي مجموعة من أفراده الحق الحصري لاستخدام العنف.

وذلك عن طريق مؤسسات الدولة مثل الجيش والشرطة، في المقابل هذه الدولة تحمي الحريات الفردية والممتلكات الخاصة مع وجود ضمانات عديدة، مثل الحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان إلى آخره.

الفيلسوف الألماني كارل ماركس كان يرى أن الدولة تأسست عن طريق تاريخ طويل من قمع الحكام للمحكومين.

وأن الدولة الحالية هدفها حماية مصالح الطبقة الحاكمة أو البرجوازية من تجار ورجال أعمال وأصحاب مصانع وغيرهم، وتستخدم أدوات قمع كالشرطة والجيش لقمع الطبقة المحكومة.

ما هو شكل الدولة في عالمنا العربي

عندما ننظر على واقعنا العربي الديستوبي المعاصر، نجد الدولة لا ينطبق عليها أي تعريف للدولة.

فمثلاً في دولة مصر الجيش والشرطة يقومان بعمليات تصفية جسدية وسحل واعتقال خارج اطار القانون والدساتير.

بل بالعكس الدستور والقانون يتم تفصيلهما لخدمة شخص أو مؤسسة بعينها، بالتالي الحكومة المصرية لا ينطبق عليها بأي حال من الأحوال تعريف جان جاك روسو للدولة.

وفي نفس الوقت الجيش أصبح له أنشطة اقتصادية وينافس السوق، ولأن الجيش لديه امتيازات ليست موجودة عند أي رجل أعمال، فحينها الجيش يؤذي مصالح الطبقة الحاكمة والبرجوازية.

وما يوجد في مصر حالياً يمكن أن نطلق عليه مصطلح الدولة الفاشلة  أو Failed State، وهي دولة فشلت في توفير الحد الأدنى من الخدمات لمواطنيها.

على سبيل المثال لو تمت سرقة سيارتك، الشرطة ستجدها مشغولة في قمع وسحل معارضين، وبالتالي لن يستطيعوا استعادة سيارتك.

غياب دور الدولة

عندما ننظر إلى المواطنين نجد أنهم يحاولون تعويض غياب دور الدولة بالتكنولوجيا الحديثة.

ونلاحظ أن التكنولوجيا الجديدة التي تتحكم بها شركات أجنبية، أصبحت جزءاً من عقد اجتماعي جديد بين المواطنين.

فبدلاً من الشرطة التي لا تستطيع استعادة سيارة المواطن، المواطن سيضع صورة سيارته على الفيسبوك ويأمل أن يقوم مواطن آخر بإيجاد سيارته ودله عليها.

وهكذا، مجموعات الفيسبوك أصبحت تحل محل أحزاب المعارضة، وجماعات الضغط، ووزارة التضامن الاجتماعي، وجهاز حماية المستهلك.

تطبيقات أخرى مثل أوبر Uber و SWVL أصبحت تحل محل الهيئة العامة للمواصلات، Udemy و Coursera أصبحت تل محل الجامعات. LinkedIn أصبحت تحل محل وزارة القوى العاملة.

المشكلة أن شركات التكنولوجيا الأجنبية لا تقوم فعلاً بدور الدولة، وإنما تجعلنا كمواطنين ندفع الثمن الأكبر.

بينما يكسب الفيسبوك من كل لايك وشير على فيديو معارض للدولة، لا يواجه أي عواقب عندما يتم سجن صاحب الفيديو، ولا تلتزم أوبر بإعطاء سائقيها تأمينات صحية ومعاشات مفروضة في قانون العمل.

ولا تلتزم شركة Airbnb بأخذ التراخيص، ولا دفع الضرائب الملتزمة بها المؤسسات السياحية.

وبسبب غياب دور الدولة التي أصبحت مهتمة فقط بحماية مصالحها وحماية مصالح من حولها، أصبحنا كمواطنين ليس لدينا أي شكل من أشكال الرقابة والمسائلة لشرطات التكنولوجيا الأجنبية.

ولا نستطيع مثلاً الضغط على الفيسبوك لنوقفه عن بيع وشراء بياناتنا الشخصية، كما حدث في أمريكا ولا نستطيع محاسبة أوبر على تصرفات سائقيها.

من يستفيد من الواقع الديستوبي

هذه الشركات من مصلحتها أن يظل واقعنا ديستوبي، لو تم تطوير نظام النقل العام في القاهرة، أوبر ستخسر أموالاً، ولو تم إنشاء قنوات رأي وصحف حرة، الفيسبوك سيخسر أموالاً وهكذا.

لكن الحقيقة أن هذه التكنولوجيا قد تكون سبب خلاصنا أيضاً، لأن الفيسبوك يعطينا القدرة على تنظيم أنفسنا، والنقاش في شكل الدولة و العقد الاجتماعي الذي نحتاجه لنخرج من واقعنا الحالي.

الإنترنت أعطى الملايين من الناس الفرصة بأن يقرأوا ويتعلموا ويفكروا بشكل نقدي.

فمثلاً يمكنك قراءة شيء ما على الإنترنت، وتتعلم لغة وتشاهد فيديو مثل هذا أو تدخل على الفيسبوك وتناقش فيما نقوله.

على الخريطة

الناتج المحلي الإجمالي هو المؤشر الاقتصادي، الذي يقيس القيمة النقدية لإجمالي السلع والخدمات التي تنتجها الدولة خلال فترة زمنية معينة.

يحسب نصيب الفرد منه أوحصة المواطن بأن نأخذ الناتج ونقسمه على عدد السكان ، فينتج لدينا نصيب الفرد.

وكلما كبر  الناتج كلما كانت اوضاع الشعب الاقتصادية أفضل، مثل لوكسمبورج وسويسرا وسنغافورة وبعض الدولة الخليجية حيث أن نصيب الفرد كبير.

لنقارن عدد السكان مع الناتج المحلي الإجمالي لعدة بلدان عربية مع دول أخرى ظروفها مشابهة.

عام 1960 كان تعداد سكان دول مثل سوريا وتشيلي والجوائر والعراق وماليزيا وكوبا متقاربة، بين 4 إلى 11 مليون نسمة.

والناتج المحلي الإجمالي كان أيضاً متقارباً، بين 1.5 إلى 6 مليار دولار.

في ذلك الوقت كان عدد سكان دول مثل فرنسا وبريطانيا حوالي 50 مليون نسمة في كل منهما والناتج المحلي حوالي 75 مليار دولار.

في نفس الفترة تغيرت الأنظمة الحاكمة في الدول العربية بما كان يسمى أنظمة تقليدية، وصلت بدلاً منها أنظمة جديدة إلى السلطة معظمها ديكتاتورية عسكرية عبر انقلابات.

ومع مرور الوقت حدث انفجار سكاني في المنطقة وخصوصاً في فترة السبعينات عندما تزايد عدد الولادات.

أما الناتج المحلي الاجمالي فكان متقارباً بين الدول حتى بداية السبعينات، ثم بدأ بالاختلاف وتتحسن دول بشكل متسارع ودول أخرى تتحسن ببطء.

الطفرة الاقتصادية في عام 2000

مع بداية الألفية حدثت طفرة اقتصادية بعدد كبير من الدول وارتفع الناتج المحلي في كل البلاد التي ذكرناها بنسب متفاوتة.

لكن النمو في سوريا بقي الأقل مع أن عدد سكانها كان أكثر من تشيلي وكوبا في تلك الفترة، وهاتين الدولتين الناتج المحلي فيهما أكبر من سوريا ومن بلاد عربية أخرى.

فإن قارنا بين تشيلي وسوريا في عام 2007 نجد أن عدد السكان متقارب بين البلدين، لكن الناتج المحلي الإجمالي أكثر من سوريا.

حتى كوبا التي عليها حصار وعقوبات أمريكية، عدد سكانها نصف عدد سكان سوريا، والناتج المحلي الإجمالي لديها يساوي مرة ونصف الناتج المحلي السوري في عام 2007.

الجزائر والعراق اللتان تعتبران دولاً نفطية، الناتج المحلي فيهما أقل من تشيلي وماليزيا مثلاً.

وفي مصر عدد السكان يقارب 100 مليون نسمة، لكن ناتجها المحلي أقل من الناتج المحلي لماليزيا التي عدد سكانها ثلث سكان مصر. والتي طورت صناعات مهمة مثل السيارات وصناعات تكنولوجية أخرى.

في النهاية يبدو أن حكومات دولنا العربية لم تعرف كيف تدير موضوع الانفجار السكاني بعد السبعينات، بحيث تستفيد منه وتستغله اقتصادياً. وحتى مستوى معيشة الفرد بقي متدنياً.

يمكن القول أن بعض الدول العربية كانت تمر بحروب في فترات معينة، لكن يمكننا أن نرى أن قبل الحروب أو بعدها بفترة طويلة، أن الأداء الاقتصادي أضعف من دول أخرى لديها مقومات أقل من الدول العربية.

وأنت ما هو وضع دخل الفرد في بلدك؟ هل أمورك بخير أم تجلس بجانبي ونبكي على  وضعنا؟

Zoom Out

في الأدب الشعبي الألماني القديم، هناك أسطورة عن عالم قدير اسمه يوهان فاوست.

تقول الأسطورة أن فاوست كان عالماً ناجحاً، لكن في أحد الأيام وجد أنه أصبح هرماً، وأنه أضاع حياته بين الكتب القديمة المهترئة والغبار والرطوبة.

فأراد التخلص من الحياة التي اعتبرها مملة ويستعيد شبابه الضائع، وليحقق هذا الهدف الصعب قرر أن يوقع عقداً مع الشيطان.

بحيث أن يعيد له شبابه ويحقق له كل رغباته وملذاته لعدد محدد من السنين. وبعدما تنتهي السنوات يصبح فاوست عبداً للشيطان إلى الأبد.

وفعلاً باتفاقه مع الشيطان حصل فاوست على بعض أمنياته، لكن بسرعة تحول الحلم إلى كابوس، وماتت الفتاة التي يحبها، وأمور كثيرة عاكسته، وبعدها يموت ويذهب إلى الجحيم بحسب الأسطورة.

العقد أو الصفقة التي وقعها فاوست لم يكن منها مخرج، ولما حاول التهرب من الاتفاق كانت حياته هي الثمن. لذا اصطلح بعض المفكرين على تسمية هذا النوع من العقود باسم عقد فاوستي.

خاتمة

في حلقة ديستوبيا اليوم رأينا مفهوم العقد الاجتماعي.

في الحالة الديمقراطية العقد يرمز إلى أن تتخلى طوعاً عن جزء من حقوقك للحكومة، التي من المفترض أن تكون موظفة لديك، ومتى ما أردت يمكنك فسخ هذا العقد.

أما العقد الاجتماعي التسلطي فيبدو أنه عقد فاوستي غير قابل للتغيير.

لكن في الواقع لا يوجد عقد لا تنتهي صلاحيته، وعالمنا العربي رغم أنه ديستوبي لكنه أيضاً مليء بالديناميكية وطاقات شبابية ومتغيرات اقتصادية وتقنية.

هي ذاتها ستجعل الوضع يتحسن، ويمكن أن تظهر حلول لا تخطر على البال، منها ما هي ضعيف، ومنها ما يؤدي إلى تغيير جذري أكثر.

لأن باب التطور مفتوح، وحتى قصة فاوست نفسها تطورت وأعاد كتابتها أدباء معروفون بصياغة جديدة، سمحت لفاوست نفسه أن يتخلص من العقد الذي وقعه ويهرب من لعنته الديستوبية.

 ديستوبيا عربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى