إسلام

من يثرب إلى المدينة مع وضاح خنفر

الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة على الأرجح وقعت في سبتمبر من عام 622 ميلادي وهذا العام مهم في التاريخ العالمي.

لأنه العام الذي بدأت فيه موازين القوى تستقر بين الفرس والروم، وبدأ هرقل بإعداد جيش للانقضاض على فلول الجيوش الفارسية.

وإلى الآن ما تزال بلاد فارس هي المهيمنة على مشهد المسرح الدولي. لكن بعدها بسنة أو سنتين فقط سنرى موازين القوى تتغير باتجاه إيجابي للروم وبخسارة للفرس.

استراتيجية الهجرة إلى المدينة

استراتيجية الهجرة إلى المدينة

بالمناسبة أذكّر أننا لا نسرد أمور الهجرة سرداً فهناك أحاديث كثيرة وروايات كثيرة عن السيرة وأحداث جديرة بالانتباه.

فقد تكلمت الروايات عن خروج الصحابة وتسللهم متخفين أو خروج عمر بن الخطاب ومعه عشرون من قومه علانية.

أو الرحلة التي كان مسارها معجزاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع تجاوز مقتفي الأثر الذين أرسلتهم قريش وراءه.

بالمجمل في هذا المقام نتحدث عن الأبعاد الاستراتيجية والسياسية في السيرة النبوية.

وأنصح الجميع أن يتابعوا مع هذا الحديث كتب السيرة التي تسرد الأحاديث والرويات لأن في ذلك إثراء لهذه التجربة.

على الأغلب الرحلة استمرت ما بين مكة والمدينة بحدود عشرة أو أحد عشر يوماً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة أيام في غار ثور.

ثم بعد ذلك واصل مسيره باتجاه يثرب في ما لا يقل عن سبعة إلى تسعة أيام.

الإقامة في قباء

وصل وأقام في قباء وإقامته فيها دلالتها مهمة، فهو لم يدخل يثرب في تلك المرحلة، وكانت قباء قرية خارج يثرب.

أقام على الأقل خمسة أيام في معظم الروايات وربما أكثر، لأنه أراد أن يجس النبض ويرى ما الذي يحدث.

بدأت الوفود تأتي إليه من زعماء بطون يثرب من الأوس والخزرج وغيرهم، وحتى زعماء يهود يأتون إليه.

الكل يأتي ليرى ما الذي يقوله محمد وما الذي جاء به، وبعض المسلمين جاؤوا حباً برسول الله ترحيباً واستقبالاً له.

وبعض أصحاب النفوذ والسلطة جاؤوا ليروا ما الذي يريده منهم وما هو الوضع، وأكثر هؤلاء لم يكونوا قد أسلم بعد.

وقبائل اليهود الموجودة كانت تريد أن تستمع إلى خطابه لأن اليهود في يثرب يحتكرون فكرة أنهم أهل كتاب وأن العرب ليسوا بأهل كتاب.

الآن هناك من يقول أن الوحي يأتيه من السماء وهذه مسألة مباشرة تخصهم. لذلك عليهم أن يتوثقوا من ذلك ويفهموه.

ثم يقررون السياسة التي سيتبعونها حيال خطابه. لذلك إقامته في الأيام الخمسة كانت استراحة ولكنها أيضاً جساً للنبض في المدينة.

الكل يحاول معرفة ما الذي جاء به النبي، وباعتقادي الرسول عليه الصلاة والسلام حينها بدأ يتعرف على الوضع في المدينة.

يلتقي بأصحابه الذين هاجروا من قبله وبالمسلمين الأوائل من الأوس والخزرج يستمع إلى ما يدور داخل المدينة وما التوقعات المختلفة.

توقيت الدخول إلى يثرب

خروج النبي صلى الله عليه وسلم من قباء ودخوله إلى يثرب كان مدروساً بإحكام.

لأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الخروج مر بكثير من القبائل وبطون الأوس والخزرج المختلفة وتنافست البطون جميعاً على استضافته.

والملفت في قراءة هذه الأحداث أنه كلما مر ببطن مثل عدي بن النجار أو مالك بن النجار أو بني عوف.

كلما مر ببطن من بطون الأوس والخزرج خرج إليه وجهاؤهم وقالوا يا رسول الله أقم عندنا فلدينا العدد والعدة والمنعة.

وهذا التعبير تكرر في كل الدعوات التي وجهت من بطون الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم ليقيم لديهم.

فكان واضحاً لهؤلاء جميعاً أن قضية استضافة النبي صلى الله عليه وسلم لها تبعات استراتيجية وعسكرية.

مصطلح العدد والعدة عادة يقال للتعبير على عدد أبناء القبيلة وعدتهم من السلاح.

ومصطلح المنعة هي القدرة على حماية النبي صلى الله عليه وسلم.

فالواضح للأنصار أن الأولوية الأساسية لوجود النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ستكون لها تبعات عسكرية وأمنية.

على مستقبل المدينة ومستقبلهم جميعاً لذلك عبروا عن استضافتهم بالعدد والعدة المنعة.

اختيار مكان مسجد الرسول

رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم في بيت محدد لأن بذلك سيعطي تأثيراً ووزن ما لمجموعة دون الأخرى.

وهذا لا يليق بوافد جديد إلى مجتمع يريد أن يتعامل معهم بسواسية ليقيم مجتمعاً من التوازنات والأخوة الصادقة.

بعيداً عن الأحلاف المختلفة السابقة. لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم دعوها فإنها مأمورة عن ناقته.

حتى وصلت إلى مربد لغلامين يتيمين وبركت فيه كما تقول الروايات وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام اشترى المربد وأقام مسجده.

بناء المسجد النبوي

الآن نتتبع مع النبي صلى الله عليه وسلم الإجراءات الكبرى التي حدثت في الشهور الأولى لأنها مهمة. فما الذي فعله؟

بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الذي كان بسيطاً لكن المهم من هذا أن المسجد بذاته هو دار الحكم.

المسجد كان دار الاجتماع ومقر هذه الفئة من الناس ومقر الالتقاء بالجميع.

بالتالي عندما وصل إلى هذا المكان جعل لنفسه مكاناً مميزاً وأقام قريباً منه كما بنى الحجرات بجانب المسجد.

وأصبح فيه ما يمكن أن نسميه داراً للحكومة أو الدولة يفد إليها الناس ويلتقون بها ويتحاورون فيها.

إذن أصبح لديه مركز مستقل عن بيوت الأنصار جميعاً الذين استضافوه في مرحلة معينة.

مثل أسعد بن زرارة كان بيته بيت ضيافة وآخرون ممن استضافوا الصحابة واستضافوا النبي صلى الله عليه وسلم.

الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم لديه استقلالية معينة وحجراته جنب المسجد وهذا المسجد هو الذي يدير شؤون المجتمع.

ويلتقي فيه الناس للصلاة والمشاورة ويلتقون فيه فيما بعد للحرب ويلتقون فيه مع الوفود وما إلى ذلك.

بناء المجتمع المدني

تأسيس المسجد خطوة مهمة جداً وقد أخذ بضعة أشهر حتى بني بالشكل الذي بني عليه.

وأثناء تأسيس هذا المسجد كان هناك أمر يشغل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أمر منطقي وطبيعي من شخص نافذ البصيرة مؤيد بالوحي من الله سبحانه وتعالى.

وهو كيف يبني ويرمم هذا المجتمع المنكسر داخلياً المتشظي بعد الحروب الأهلية المكثفة التي مرت في السنوات الماضية.

الذي فيه موازين مختلة في هذه المرحلة وهناك جروح وثارات.

هذا المجتمع يشمل الأنصار الذين استقبلوا النبي عليه الصلاة والسلام من المسلمين والمهاجرين من قريش الذين جاؤوا معه وعددهم بالعشرات.

وأيضاً اليهود وهم قبائل منظمة لهم رؤساؤهم وقلاعهم ونفوذهم الاقتصادي والتجاري.

ولكن أيضاً هناك غير المسلمين من المشركين الذين ما زالوا لم يسلموا والذين أيضاً من اليهود من غير هذه القبائل.

يقول المؤرخون أنه لم يكن لدينا فقط بنو النضير وبنو قينقاع وبني قريظة بل كان هناك حوالي عشرين بطناً تنتسب لليهودية ولكن بعضها بطون عربية وبعضها من غير العرب.

بالتالي هناك موزاييك داخل المدينة، ويريد أن يبنيه بشيء يؤسس لمجتمع حقيقي وقواعد جديدة

تأسيس العقد الإجتماعي في المدينة المنورة

القواعد القديمة كانت قواعد القبيلة أبقى منها رسول الله ما هو خير في الصحيفة التي أصبحت  دستور المدينة المنورة.

وهي من أهم الوثائق التي كتبت في التاريخ الإنساني لبناء مجتمع، عقد اجتماعي سياسي متميز لبناء مجتمع حقيقي مكتوب.

وهذا شيء مهم فقد أبقى من القبيلة فكرة التعاون والتعاضد العاقلة وفكرة فداء الأسير والعادي وهو الجانب الإيجابي.

ونفى عنها فكرة أن تقف مع ابن القبيلة حتى لو كان ظالماً، ففي مسألة العدل الإنسان يحاسب بذاته بالتالي لا يحمل قومه ذنبه.

فإن كان مذنباً يحاسب، بالتالي أقام شيئاً آخر غير النمط التقليدي القبلي المعتاد في قبائل العرب.

ثم في التحالفات أقام مجتمعاً للمؤمنين وهم أولئك الذين آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم ومجمتعاً لأهل المدينة جميعاً.

وقال إن هناك حلفاً بين الجميع على أن ألا يؤووا مالاً لقريش وألا يؤووا محدثاً وألا ينصروا قريشاً أو غيرها عدواً من أعداء هذا التجمع.

بالتالي أصبح هناك ميثاق عسكري سياسي وتحالف يلزم كل مكونات المجتمع المدني باحترام الشكل الجديد الذي تأسس في المدينة.

وكل من في المدينة دخل في هذا الحلف مسلمين أو مشركين أو يهود أو من العرب كلهم دخلوا في الحلف.

فهناك حالة من الوحدة الوطنية الاجتماعية المدينة التي لم تتشكل من قبل في أي تكتل في جزيرة العرب.

لأن مدن الحجاز مكة والطائف ويثرب أو خلافه لم تكن تعرف الحكومة المركزية ولم تكن تدين لأمير أو ملك معين.

وهذا شأن العرب، لكن هنا يتشكل شيء مركزي، لم يسلط بعد فليس ملكاً ولا حكماً كما تعرفه الناس.

وليس كما رأوا عند كسرى وقيصر بل شيء آخر مختلف لكنه يتشكل بقدر عالي جداً من الحوار.

هذه الوثيقة كتبت بعد مشاورات كبيرة بين بطون القبائل ولقاءات بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع الناس جميعاً.

وحظيت بالإجماع وهذه نقطة أساسية لأي دستور يمكن أن يؤسس للعقد الاجتماعي بأن يكون محط إجماع وليس محاولة فرض طرف على طرف.

نواة المجتمع

هذا المجتمع الصغير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين من المهاجرين والأنصار أراد أن يبني هذا الفريق المميز المتلاحم.

فجاء مبدأ المؤاخاة فآخى المهاجرين مع الأنصار فأصبح هناك رابطة أخرى غير رابطة النسب كما في السابق.

رابطة جديدة قائمة على الإيمان والإسلام، وأصبح لدينا رابطة اجتماعية سياسية قائمة على الصحيفة واصبح لدينا مركز للدعوة.

وللرسالة وللسياسة وللعسكرية هو المسجد وبالتالي اكتملت أركان لشيء جديد ونواة جديدة ونظام جديد يمكن أن نسميه المدينة.

المدينة جاءت تسميتها بعد الوثيقة لأن الصحيفة سميت بها يثرب باسمها يثرب.

بعد اكتمال هذه العناصر جميعها أصبح لدينا مدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يسمي أحد كلمة يثرب.

وفي رواية أنه كان يطلب أن يقال أستغفر الله عندما يقولوا يثرب.

الآن هناك قطيعة مع الشكل القديم المتهالك والمفكك المتحارب المتصارع وهناك ميلاد بشكل جديد فكان لا بد من تسمية الإسم.

وسمي الإسم بالمدينة وهي بالمناسبة خلافاً لكلمة القرية تقتضي شكلاً من أشكال الترابط ولذلك والله تعالى أعلم أن القرية تصنف في القرآن دائماً كنمط كيان ليس فيه سلطة.

ولذلك القريتين في حالة مكة والطائف ليس لديهما سلطة مركزية، فالمدينة كانت تذكر عندما تكون هناك سلطة مركزية.

الآن أصبح لدينا شكل من أشكال السلطة المركزية لها وثيقة ودستور، وشكل من أشكال النظام الاجتماعي للمؤمنين والمسلمين وهو المؤاخاة.

أصبح لدينا مركز حكم وأصبح المسجد حاضراً وفيه أذان يرفع.

وأصبح هناك اعتراف جمعي من كل مكونات المنطقة التي تسكن حول يثرب القديمة بكل امتداداتها وقراها الصغيرة وقبائلها المتعاملة معها.

بأن شيئاً جديداً قد ولد وهذا الشيء الجديد أعيد تعريفه وسمي بالمدينة.

المصادر

قناة وضاح خنفر


جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى