إسلامشخصيات

الإمام البخاري وبحثه عن الأحاديث الصحيحة


الإمام الجليل البخاري خلقه الله للعلم وللحديث، وأعطاه الله عز وجل ذاكرة، لم أسمع بمثلها في التاريخ، فكان لديه اثنين من التلاميذ، يكتبون الأحاديث عنه.

فكان الإمام البخاري لا يكتب، بل كان يقارن بالذي قاله لهم، والذي حفظوه، حيث أنهما كتبا خمس عشرة ألف حديث، فوجدوا أن حفظه أدق من كتابتهم.

قوة الذاكرة في حفظ الأحاديث

ولهذا اشتهر هذا الأمر عنه، حتى يحدث أحد العلماء يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.

فالحديث هو ليس النص فقط، بل عن السلسلة والسند عن فلان وفلان، فالمتن والسند، هذا يسمى الحديث، فكان الإمام البخاري يحفظها بكاملها، أكثر من ثلاثمائة ألف حديث.

وهذا طبعاً أثناء جمعه للحديث، ويقول أحد العلماء: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلماء، فيطلع عليه إطلالة واحدة، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة.

رحلة البخاري في طلب علم الحديث

ورحل البخاري من أجل طلب الحديث، إلى عدة بلدان، يدخل على البلد الواحد عدة مرات، يبحث عن العلماء والشيوخ، كل من لديه حديث لا يعرفه.

يسأله  ويدقق في تاريخ الرجل، وعلمه وصدقه، تدقيقاً شديداً، حتى لا يروي الأحاديث إلا عمن يستحق، فيقول قبل موته رحمه الله:

كتبت عن ألف وثمانين رجلاً، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، سمعته منهم مباشرة.

الإنطلاق في رحلة العلم

بدأ البخاري رحلته من مسقط رأسه بخارة، فسمع بها من كبار علمائها، الجعفي والبيكندي وغيرهم، ولم يكونوا من كبار مشايخه.

وانتقل إلى بلخ في الجمهوريات الإسلامية، وسمع بمرو، وانتقل إلى نيسابور والري، وبعد ذلك انتقل إلى العراق، وتنقل بين مدنها ليسمع من شيوخها وعلمائها.

يقول الإمام البخاري: دخلت بغداد، فما أن رأيت من كل ذلك الإمام أحمد بن حنبل، وأوصاني في آخر لقاء لي قال: يا أبا عبد الله دع العلم والناس وتصير إلى خراسان.

أي تفرغ واجلس في خراسان، واكتب وعلم الناس، ويتابع الإمام البخاري: فما زلت أذكر وقوله.

ورحل البخاري إلى مكة، وسمع من كبار العلماء، ثم انتقل إلى المدينة وسمع من كبار علماءها أيضاً، وذهب إلى مصر والشام.

فلم يبق أحد من علماء الحديث الذين جمعوا أحاديث النبي الكريم، إلا وأخذ منه العلم، وأخذ منه الحديث.

تأليف كتاب صحيح البخاري

وألف البخاري كتباً في الحديث، وفي الأدب وغيرها، ولكنه عني عناية خاصة بكتابه العظيم، الجامع الصحيح، الذي اشتهر باسم صحيح البخاري.

وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، يقول عنه علماء الحديث: هو أعلى الكتب الستة سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ذلك لأن البخاري كان أكبر العلماء الستة، أي مسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وإذا قيل السبعة يضاف الموطأ بن مالك، وإذا قيل الثمانية فمعهم الإمام أحمد.

فهو أكبرهم سناً من الستة، وأصغر من الإمام مالك، ومن الإمام أحمد، وقد القتا مع الكبار والأئمة الخمسة، وكلهم يروون عن البخاري.

قصة تأليف كتاب الجامع الصحيح

يقول الإمام البخاري في قصة تأليفه لكتابه العظيم الجامع الصحيح:

كنت عند إسحاق بن راهويه، وكنا نتحدث مع أصحابه وقالوا لنا: لو جمعتم كتاباً مختصراً، لسنن النبي عليه الصلاة والسلام.

فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب، ولما ألفته، صفيته، وفيه حوالي أربعة آلاف حديث.

واخترتهم ومن أكثر من ستمئة ألف حديث، ويقول: أنا أحفظ هذه الأحاديث، ولكن وضعت كتاباً خاصاً للصحيح منهم فقط.

وكان يحرص على أن يدقق في الصحيح، لدرجة أن كل رجل مذكور في روايته، كان يدقق في صدقه، حتى أنه في إحدى الروايات، ذهب لكي يأخذ الحديث من أحدهم.

فوجده خارج القرية ولديه بعير هارب، ووجده رافعاً ثوبه، يحرك للبعير ليوهمهم بأن في ثوبه شيء من الطعام، حتى يأت البعير.

فقال الإمام البخاري: الذي يكذب على حيوان، لا آمنه أن يكذب على رسول الله، ولم يأخذ منه الحديث، لهذه الدقة وصلت أحاديث البخاري.

الدقة في انتقاء الأحاديث الصحيحة

وكان من شأنه أنه لا يكتفي بأن يروي الحديث عن رجل ورجل، بل يجب أن يتأكد أن هذا الرجل، التقى فعلاً مع الذي يروي عنه.

حتى لا يكون في الحديث، من قد يكون ساقطاً، وكان إذا تأكد وصفى ودقق يقول: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً، إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.

ويقول كذلك: ما أدخلت في هذا الكتاب، إلا ما صح وتركت من الصحاح، كي لا يطول الكتاب.

تأليف الكتب في عمر الشباب

وبدأ الإمام البخاري بالتأليف وعمره ثمانية عشر عاماً، يقول الإمام البخاري: كنت في الثماني عشر، جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين، وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ، وأنا قرب قبر النبي الكريم.

وقل اسم في التاريخ، إلا وله قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب، فكنت أختار، وكنت أذهب إلى الفقهاء، في مرو وأنا صبي، فإذا جئت، أستحي أن أسلم عليهم، من صغر سني.

فقال لي مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم؟ فقلت: اثنين، فضحك من في المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً.

ويقول محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله البخاري، تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف؟ قال: لا يخفى علي جميع ما فيه.

ويتابع محمد بن أبي حاتم: سمعت البخاري يقول: صنفت جميع كتبي ثلاث مرات.

الصبر على تأليف الكتب الصحيحة

وبقي البخاري ستة عشر عاماً وهو يجمع أحاديث الرسول الكريم، في دقة متناهية، وصبر على البحث، حتى أن الباحثين اليوم لا يقتربون منه بمستواه.

وكانت عملية الاختيار شاقة، فكان لا يستعجل لكتابته، يروي أحد تلامذته ويقول: بت عنده ذات يوم.

فأحصيت عدد مرات، أنه قام وأشعل السراج، يستذكر أشياء فيكتبها، ويعود إلى النوم فكان في ليلة واحدة ثمانية عشر مرة.

ويقول: وحدث أني كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة، خمسة عشر مرة، أو عشرين مرة، ويفعل كذلك الأمر.

البحث عن المحدثين الصحيحين في نقل الأحاديث

يقول الإمام البخاري: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء، أي باقي العلماء، كنت إذا كتبت عن رجل.

سألته عن اسمه وكنيته ونسبته، وحمله للحديث وفهمه للحديث، فإن لم يكن سألته، فلا أكتب عنه أما الآخرون فيكتبون.

ويقول عباس الدوري: ما رأيت أحداً يحسن طلب الحديث، مثل محمد بن اسماعيل، كان لا يدع أصلاً ولا فرعاً، إلا قلعه، ثم قال لنا: لا تدعوا من كلامه شيئاً إلا كتبتموه.

لذلك استطاع البخاري أن يتفوق على أقرانه، في علم الحديث، وكان نابغة مبكراً، فصار أقرانه يتتلمذون على يديه.

شهرة البخاري بعمر الشباب

وانتشر أمره وهو حي في الأقطار والبلدان، حتى صار الناس إذا سمعوا أنه اقترب من بلدهم، وجاء يطلب الحديث، كان الناس يخرجون لاستقباله.

فأهل البصرة كانوا يجرون وراءه وهو شاب، حتى يجتمعون عليه، ويروي من رأى هذا المشهد يقول:

حاصروه يوماً في أحد الطرق، وانتشر الخبر أن البخاري اجتمع عليه الناس، يتعلمون منه في الطريق الفلاني، فاجتمع عليه ألوف، كلهم يكتبون عنه، وكان آنذاك شاباً.

ويقول يوسف بن موسى: كنت في البصرة في جامعها، إذ سمعت منادياً ينادي: يا أهل العلم قد قدم محمد بن اسماعيل البخاري، فقام الناس من المجلس في طلبه، فقمت معهم.

فرأينا شاباً يصلي خلف العامود، فلما فرغ من الصلاة، أحدقوا به وسألوه، أن يعقد لهم مجلس الإملاء للأحاديث، فلما كان الغد، اجتمع قريب من كذا وكذا ألف.

فكان البخاري يحدثهم، بأن يقول الحديث لمن أمامه، فالذي أمامه يرفع صوته للذي وراءه، وهكذا حتى نهاية الناس الجالسين.

فكان من ضمن قوله لأهل البصرة: يا أهل البصرة، أنا شاب، قد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم، تستفيدون منها.

هكذا وصل البخاري من المنزلة وهو حي وشاب، فتخيلوا عندما كبر في سنه، كيف كان إذاً؟

Download 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى