السلام عليكم ورحمه الله
سنتكلم عن الحصار، ويحسن من الآن، أن نبتعد قليلاً عن التفاصيل وأن ننظر نظرة كلية إلى المشهد في مكة، في السنة الخامسة للبعثة والمسلمون في الحبشة.
عندنا على الأقل حوالي مائة من المسلمين، ويزيد عن ذلك، ربما من المسلمين والمسلمات.
الوضع في مكة بدأ يتحول باتجاه إيجابي بالنسبة للمسلمين عموماً. لو أخذنا بتقدير موقف للحالة وتوازنات القوى في داخل مكة سنجد ما يلي:
على مستوى جماعة المسلمين
فإنهم يشعرون بان عبئاً انزاح عن ظهورهم بذهاب كتلة مهمة إلى الحبشة، واستقرارها هناك، ورفض النجاشي تسليمهم لمكة وعودة عمرو بن العاص خائباً من سفارته التي قام بها.
بدا أن الاسلام ينتشر
وهذه المرة لا ينتشروا فقط في داخل مكة، بل يتعداها، بعض الزائرين بعض الوفود التي تأتي في المواسم بدأت تسمع بالإسلام.
وشخصيات مهمة وعلى رأسها في هذه الحالة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أسلم في تلك المرحلة.
إسلام عمر
كان ليس مهم من الناحية القبليه بشكل لافت، عمر بن الخطاب من بني عدي، كان من الشباب المميزين، كان قوياً، ذو عزيمة وبأس حقيقي. وكان معروفاً بأن له كاريزما في داخل مكة.
خاله كان أبو جهل، المهم وفي دلالة إسلام عمر، في أنه دفعة معنوية دافقة دخلت الى نفوس المسلمين.
اليوم عندك عمر بن الخطاب و حمزة ابن عبد المطلب، كلاهما من المميزين من شباب قريش ومن أصحاب النجدة والفروسية والبأس.
والمسلمون بعد إسلام عمر عزوا، بمعنى أنهم بدأوا يتكلمون عن الإسلام بطريقة جديدة، بقدر عالي جداً من الاعتزاز، بل إنهم بدأوا يخرجون علانية إلى الكعبة لإقامة الصلوات.
وكان عمر رضي الله عنه وحمزه يسيران في مقدمة الصفوف، لكي يؤدوا جهاراً نهاراً شعائرهم في داخل مكة.
قريش تعيش حالة خيبة
خاب أملها في عودة المسلمين من الحبشة، وخاب أملها في الضغط على بني هاشم وبني المطلب لتسليم النبي صلى الله عليه وسلم كما كان القول في السنة الرابعة و بداية السنة الخامسة.
بدأوا يشعرون بأن الأمور تفلت من أيديهم، ثم أن النبي وأصحابه بدأوا يجاهرون بالدعوة، وهذا أصبح يستفز قريش.
كنا نؤكد دوماً، على أن قريش ليست كيان مصمتاً واحداً ثابتاً، كله يفكر سواسية. دائماً كنا نقول أن في قريش تيارات. بعضها اجتماعي بعضها قبلي.
وحتى بعضها فيه قدر آخر من التحالفات، مثل حلف المطيبين، وحلف الأحلاف، في هذه الواقعة وفي هذه المرحلة.
الصقور في قريش الأكثر تشدداً وعنفاً وسفاهة في محاربة المسلمين، بدأوا ينتصر رأيهم على غيريهم، ولذلك بدأوا أبو جهل وأمية بن خلف والنضر بن الحارث وآخرين.
بدأوا يتكلمون عن حل استئصالي، العودة مرة ثانية إلى فكرة قتل النبي، فبدأوا يتكلمون والوضع الآن بدأ يخرج عن السيطرة، لا بد من قتله.
بل طرحوا مجموعة من الاقتراحات، من بينها أن يأتوا بشخص من خارج قريش يقتل النبي، وندفع الدية بعد ذلك لبني هاشم.
يبدو أن هذا الرأي لم ينتصر، لأسباب كثيرة من بينها أنه مدعاة لانهيار العرف القبلي السائد في قريش.
دستور قريش
مبدأ قيامتها في مكة، كان على حالة التوازن والتعايش ما بين الافخاذ والبطون المشكلة لقريش، في هذه الحالة هناك انتهاء تصريح. لذلك ربما مدعاة لحرب أهلية في داخل مكة.
اتفق على شيء آخر، صحيح أنه أيضاً خارج على العرف القبلي، ولكنه اقل سفاهة من فكرة قتل النبي صلى وسلم على يدي مرتزق يأتي من الخارج، ثم نناقش بعد ذلك الدية.
كان الاتفاق على استمرار الضغط على بني هاشم لتسليم النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا جاءت فكرة الحصار والمقاطعة.
اتفق المجتمعون على أن يوقعوا في ما بينهم وثيقة تتعهد بعدم التعاطي مع بني هاشم وبني المطلب، في ما يتعلق بالزواج، في ما يتعلق بالأحلاف، وفي ما يتعلق في البيع والشراء أي بالتجارة.
فهذا حصار اقتصادي واجتماعي، ثم في أغلب الروايات، يبدو أن قريش قامت إلى من يليها من بني هاشم وعبد المطلب والجأتهم إلى الإقامة في شعب أبي طالب.
شعب أبي طالب
كان الشعب يقيم فيه أبو طالب وكان يملكه، فأجلي كثير من بني هاشم وبني المطلب إلا شخص واحد فقط خالف الاجماع وهو أبو لهب. خرج عن ذلك وانضم إلى قريش.
اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب في هذا الشعب، ووقع عليهم الحصار، وكان الحصار حازما وقوياً وكان هناك رقابة.
من الأحداث التي نراها من كتب السيرة، أن بعض الناس حاولوا إدخال الطعام أو على سبيل المثال إدخال جمل محمل بالقمح، ولكنه منع من قبل أبي جهل ومن قبل غيره.
يعني أن رقابة ما على فم الشعب قد تشكلت لمنع دخول المواد الغذائية إلى المحاصرين، وربما في الأيام الأولى، كان هناك مئونة، كان هناك خزين، ولكن بدأ يتراجع.
حتى في الشهور الأولى أصاب الناس كرب شديد في داخل هذا المكان، وبدأوا يجوعون.
أرادت قريش من إيواء بني هاشم وبني المطلب إلى الشعب أن تحاصرهم وأن تتحكم في مداخل ومخارج هذا الحصار.
إيجابيات الحصار
ولكن في شيء إيجابي حدث بطريقة لا تعلمها قريش، وهو أن حالة الالتفاف على أبي طالب في داخل هذا الشعب أصبحت مطلقة.
اللحمة والحمية القبلية التي جمعت بني هاشم وبني المطلب، لم تسمح على الإطلاق بأن يكون هناك تفكك أو تمزق في داخل هذا الصف.
كلهم مسلمهم وكافرهم، أجمعوا على حماية النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى عدم الرضوخ لشروط قريش، وعلى الالتفات التام على زعامة ابي طالب.
فبطريقه ما الشعب استطاع ان يخلق حالة من التكاتف والتعاطف ما بين الناس، والفقير يعطي الغني ربما كان هذا من الأسباب التي ساعدت بشكل أو بآخر على الصمود في وجه هذا الحصار.
نعود إلى مكة، الذي فعلته قريش يعد انتهاكاً صريحاً للعقد الاجتماعي القرشي، قريش كيان اجتماعي وليست كياناً سياسياً.
والآن أنت قمت بفعل لم يسبقه إليك أحد، من خلال إقصاء بطنين من بطون قريش من أفخاذها المهمة، أقصيتها وقمت بحالة حصار مخز، يثير الامتعاض لدى كل أصحاب النفوس السوية.
أو أولئك الذين ينتمون إلى فكرة القبيلة والرحم والتكاتف في داخل قريش وهم كثر.
تململ الناس من الحصار
من هنا بدأت كثير من الأصوات تتعالى داخل مكة، بالقول الذين نفعله فعلاً هو شيء مخزي، ولا ينبغي أن يستمر، بدأ ذلك في أوساط الشباب تحديداً.
كان هناك شاب اسمه هشام ابن أمية، وكانت أمه من بني هاشم وكان من الناس المقربين لأخواله. فحاول لأكثر من مرة، أن يدخل الطعام.
اعتدى عليه بعض زعماء قريش، أبو جهل طبعاً في هذه الحالة، وحاول أن يمنعه، وفي حالة أخرى كان هناك حكيم ابن حزام.
وكان أبوه ابن عم خديجة من بني أسد بن عبد العزى. أيضاً حاول أن يدخل طعاماً، وحاول أبو جهل منعه.
وفي كلتا الحالتين عندما حاول أبو جهل وغيره من زعماء قريش، منع هؤلاء الناس من إدخال الطعام، كان هناك شجار.
ورأينا في الحالتين في حالة هشام، تدخل أبو سفيان وقال لهم: بئس ما تفعلون، هذا الرجل يريد ان يدخل الطعام إلى أخواله، لا تستطيعون منعه.
فكفهم عن ذلك وقال لهم أن هذا الشيء الذي تفعلونه شيء مخزي، وأنا قبلت به، ولكن بعدما اتفقتم عليه، وكان الأولى أن لا نفعل هذا.
وفي رأي آخر، عندما حكيم ابن حزام أراد أن يدخل الطعام إلى عمته، أيضاً قام أبو جهل بمنعه، فقام زعيم آخر زعماء قريش، وهو من أقارب حكيم بن حزام من قبيلة خديجه من بني اسد بن عبد العزى.
ومنع أبا جهل بل ضربه، شج رأسه بعظم جمل.
ليس الجميع على رأي واحد
القول هنا هو، أن قريش ليست مجمعة على هذا الحصار، فهذا الحصار صنع شرخاً حقيقياً في داخل المجتمع القرشي.
بدأت هذه المجموعة المشكلة من بعض الشباب، بالاتفاق في ما بينها على بث وعي عام في المجتمع، وحملة دعاية ضد هذا الحصار.
ثم بعد ذلك هشام وحكيم بن حزام والمطعم بن عدي وأبي البختري بن العاص وغيرهم من هؤلاء الشباب الذين يتصلون بنسب المصاهرة أوالنسب المباشر ببني هاشم وبني المطلب.
قرروا أن يضربوا هذا الحصار، وأن يثوروا عليه حقاً، وقد فعلوا ذلك بخطة محكمة، التقوا في الليل واتفقوا في الغد سيقف أحد يعلن في أندية قريش أنه لم يحترم الحصار بعد الآن.
ثم يقوم كل واحد منهم تباعاً ليؤيد صاحب هذه المقولة، وقد فعلوا ذلك. عندما رأى أبو جهل ذلك قال: إنه أمر بيت بليل.
هذا مسألة ليست عفوية،أنتم متفقون ولكن في الحقيقه عندما دخلوا إلى الصحيفة لشقها، كما تقول الأخبار وجدوا أن الحشرة أكلتها، إلا كلمة باسمك اللهم.
انهيار الحصار وانتصار المسلمين
على كل حال انهار الحصار لأنه مخالف لما يمكن أن يكون بنية المجتمع القرشي، وأن الحصار قد فاشل بعد ثلاث سنوات، ليس يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين.
بعد ثلاث سنوات قد فشل في الضغط على بني هاشم وبني المطلب في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو فشل في نتيجته وفي اسلوبه.
بل أعتقد أن الحصار كان هو نقطة التحول الرئيسية في داخل مكة، الحصار هو اللحظة التي أرادت فيه قريش أن تكون أقصى ما تستطيع أن تفعله ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
خرج المسلمون منتصرين من الشعب، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب أكثر التزاماً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبحمايته.
ماذا ستفعل قريش بعد ما فعلت؟
هنا كانت اللحظة الفاصلة، الحصار والصحيفة كانت فعلاً هي نقطة تحول جوهرية في استراتيجية قريش، وكذلك في استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم في التعاطي مع الشأن القرشي.
إذ سينتقل كل طرف بعد الحصار إلى استراتيجية جديدة، النبي صلى الله عليه وسلم سينتقل إلى استراتيجية أكثر توسعاً، وأقوى في بث الدعوة.
وستنتقل قريش إلى استراتيجية أخرى تحاول من خلالها إحتواء الرسالة الجديدة، وعقد بعض الصفقات التي قد تؤدي إلى انتهاء هذه المشكلة.
ولكنها كما سنرى في الحلقة القادمة، ستفشل فشلاً ذريعاً في هذه الاستراتيجية المكررة، والتي يعوزها الإبداع و يعوزها التفكير السوي. السلام عليكم.