السلام عليكم ورحمة الله، المشروعات الكبرى تحتاج دوماً إلى عنصرين أساسيين حتى تنجح، العنصر الأول هو الرؤية القوية المتماسكة والعنصر الثاني هو الفريق المنسجم المؤمن بالرؤية الفاعل في تنفيذها.
تعالوا الآن لنطبق هذه القاعدة على مبدأ البعثة النبوية، على الرؤية والمنهج من ناحية، ثم على الفريق الذي سوف يحمل هذه الرؤية.
قبل البعثة والإيمان بالله
فيما يتعلق في الرؤية والمنهج، العقل البشري عموماً وحتى تلك المرحلة، كان يعيش حالة تعطي مظاهر الكون، حياة في ذاتها.
الشمس، قوة بعيدة بالنسبة للإنسان، ولكن هذا الكيان هو كيان حي في ذاته، له قدراته، له إرادته، ولذلك كانت الشمس تعبد عند كثير من شعوب الأرض، وكذا القمر.
كما أن الطبيعة بكل مظاهرها، لأنها ليست معقولة بالنسبة للإنسان، بمعنى أن العقل الإنساني لم يكن قداراً على ربط مظاهر الطبيعة بعضها ببعض، ومظاهر الكون بعضه ببعض.
كان ينظر إلى كل شيء غيبي على أنه إشكالية، تحتاج إلى تدخل من عالم ما، وهذا العالم في كثير من الأحيان، هو عالم الآلهة.
آلهة متعددة وغير منسجمة
الزرع له إله، والمطر له إله، والرياح لها إله، والبحر له إله، كما أن هناك آلهة لكل مظاهر الحياة، بل إن هناك إلهة حتى للمشاعر، إله للنفس وإله للحب وإله للجمال وهكذا.
العقل البشري كان عقلاً مجزءاً، ينظر إلى الدنيا على أنها مجموعة غير منسجمة، ولا متفقة، ولا متحدة من المظاهر المتباعدة، كل في ذاته له شيء خاص به، وحياة خاص بها.
هنا كان الإنسان ضعيفاً، مقهوراً، متوزعاً بين كل هذه الآلهة، ولأن العقل البشري بالأساس لا يؤمن أو لا يتفاعل كثيراً وبسهولة ويسر مع التجريد الفكري الفلسفي.
كان ينشأ دائماً في العقل البشري تجسيد، أي أنه يحاول، حتى هذه الآلهة البعيدة التي تتحكم في مصائر الأشياء من حوله، كان يتخيلها على شاكلته.
فهي شكلاً تشبهه في كثير من الأحيان، ونفساً تشبهه، بمعنى أنها تتحارب وتتنافس وتتصارع وتتحالف، وهو في كل هذه الجوقة المتفاعلة والمتصارعة إنسان ضعيف مقهور.
وكون الآلهة لا تستطيع أن تتواصل أو تتكلم معه، لذلك لا بد من الكهنة والعرافين والمنجمين، ولا بد من الجن والشياطين، ولا بد من زجر الطير والضرب بالأقداح، ولا بد من النظر إلى النجوم.
حتى تتضح إرادة هذه الالهة التي لا تتواصل مع البشر، فبالتالي يتقي غضبها أو يجلب نفعها بقربان يدفعه لكاهن، أو لعراف، فيأكل الكاهن أو العراف القربان.
ويبقى الإنسان حسيراً، لأنه لا يدري كيف يتعامل مع هذا الكون المعقد من حوله المجزأ.
الخطاب الرباني
الخطاب القرآني الأول، فك هذه الإشكالية في العقل البشري، أعاد توحيد المنظومة الكونية في نسق واحد رتيب.
هذا النسق يكون، باختصار شديد، كل ما في الكون من شمس وقمر وليل ونهار، حتى الأنفس التي تحملونها في جنباتكم أيها البشر، كلها تخضع لنظام واحد متحد متكامل، أساسه أنه يتبع إلهاً خالقاً.
الخالق أودع فيه من السنن والقوانين المنتظمة، ما لا يتخلف، فليس هناك غموض في هذه المسألة، ليس هناك صراع بين آلهة مختلفة وظواهر للكون متعددة.
غاية الخلق
الكون كله منسجم والإنسان منسجم أيضاً مع الكون، كما الشجر والحجر والحيوان وكل المخلوقات.
والشيء الأصلي في كل ذلك أنها تتبع إلهاً واحداً، أي أن الإله الواحد هو مصدر الخلق والسنن التي بني الخلق عليها، وهو مصدر غائية هذا الخلق.
لأنه من دون إدراك لهذه الغائية، يبقى الإنسان حائراً، لماذا أنا موجود في هذه الدنيا، ما الذي أفعله، لم استشر.
لكن الله هو الذي خلق وهو الذي أخبر عن غاية الخلق، ولا يمكن للإنسان هنا أن تستقر حاله، إلا باتصال مع ذلك الخالق الذي خلق والذي أودع في الخلق غاية معينة ينبغي أن يسير الخلق وفقها.
هذا مفهوم جوهري وأساسي، كيف نقرأه في الآيات. السور الأولى التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
هي العلق، ومن ثم المدثر، وكذلك المزمل، والضحى والشمس والليل وكثير من السور. كلها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بمنهجين اثنين:
منهج إعداد شخصي له
يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجس فاهجر ولا تمنن تستكثر
كانت تحاول أن تهيئ نفسيته كقائد للمسيرة القادمة، كنبي منزل، كانت تهيء نفسيته كي يستعد للقول الثقيل الذي سيتنزل عليه، كما في المزمل.
قم الليل إلا قليلا
كانت تحاول أن تجسر تلك الهوة التي يمكن لأي بشري أن يجدها عندما يلتقي عالم السماء بعالم الأرض، ولذلك يحتاج لتهيئة نفسية وإعداد خارق للعادة لا يمكن أن يوكن إعداداً طبيعياً.
لأنه يريد أو أنه سيوف يستقبل السماء ووحيها.
منهج إعداد فكري للنبي وأصحابه
لها علاقة بالنظر في الكون، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لتلك العصبة المؤمنة الصغيرة أن هذا الكون لا شيء يخشى منهن هو كون مخلوق بنظام.
فللشمس نظامها، وللقمر نظامه، وللأنفس ايضاً نظامها، لأنها سوف تلهم إما الفجور وإما التقوى، ولذلك هي مختلفة لأن لديها الخيار.
لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
ولكن النفس ألهمت فجورها وتقواها، ومن هنا تأتي فرادة الإنسان وتميزه عن بقية المخلوقات، وإن كان هو والكون كله تابع لمنظومة خلقها الله سبحانه وتعالى.
منظومة متكاملة واحدة متجانسة أصلها تسخير من الكون إلى الإنسان في قدرته على الاختيار ثم في متابعته للهدى الذي أودعه الله فيه.
منهج يختلف عما تألفه قريش
هذا المنهج لم يكن معتاداً في ذلك الوقت، قريش تناقش أنسابها، وأحسابها وتجارتها وأموالها، وأحلافها وآلهتها وأشعارها وخطبها.
هي تعيش عالماً آخر، بينما في جانب من جوانب ذلك المجتمع القرشي، تتشكل عصبة من الناس، تلقى خطاباً يختلف تماماً عن الخطاب السائد في المجتمع القرشي.
خطاب يأتي من عالم السماء، ولكنه يربط السماء بالأرض بمعقولية مناسبة، يصبح للإنسان قدرة أن يفهم ما الذي يدور من حوله.
فلا يتيه في عوالم الغيب، ولا يحتاج إلى الكهنة والمشعوذين، ولا يحتاج إلى الجن والشياطين، لأن شيئاً معقولاً قد بدا له واضحاً جلياً بفعل الهدي الذي جاء من عالم السماء.
كان لا بد أن يعيش هذا الفريق أو المجموعة المسلمة، تلك الفترة من التهيئة النفسية وكذلك الإعداد الذهني ومن الرؤية الجديدة التوحيدية المتجهة إلى الله المتصالحة مع الكون.
وهذا يذكرنا بمنهج إبراهيم عليه السلام، إبراهيم عليه السلام الذي أراه الله ملكوت السموات والأرض، والذي استخدم الحجج الدامغة ضد أديان قومه ومعتقداتهم.
أيضاً بنفس الأسلوب والطريقة في التأمل في الكواكب والقمر والشمس والوصل إلى قناعة واحدة أنها كلها في النهاية جزء من تركيبة كونية لها خالق واحد.
نأتي إلى الفريق.
من هو الفريق الأول المؤسس؟
الفريق كان، أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، زوجته، وآل بيته الأقربين، أسرته الصغيرة.
علي بن أبي طالب، الذي كان يعيش في حضانته، وكان صغيراً في السن، عشر سنوات على أكثر الأقوال.
ثم زيد بن محمد والذي دعي بعد ذلك بزيد بن حارثة، وكان قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم. أي أسرته الصغيرة، الزوجة وابن العم، والإبن بالتبني.
ثم من بعد ذلك، صاحبه الأقرب، أبو بكر الصديق، وهو صاحب قديم، ثقة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدوق، لم يتردد أبداً في أن يؤمن بالرسالة فور سماعها.
ثم عثمان بن عفان، زوج ابنته، صلى الله عليه وسلم، زوج رقية، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد الله، قليل من الصحابة المقربين من هذه المجموعة الصغيرة.
مرتبطين ببيت النبوة إما بنسب أو بقرابة أو بصحبة. فكان لهذا الفريق وظيفتان رئيسيتان:
وظيفة الفريق الأولى
أنه في جانب منه، كانوا يقدمون الدعم النفسي والسكينة للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك متوفر في بيته الصغير، خديجة وابن عمه، وزيد والمقربين منه من أصحاب كأبي بكر وعثمان.
وظيفة الفريق الثانية
وأيضاً كان هذا الفريق يقدم النصح والاستشارة للنبي صلى الله عليه وسلم، في كيفية التواصل مع الناس.
أبو بكر الصديق
هنا أستحضر أن أبا بكر تحديداً كان من أعلم قريش بالأنساب. كان عالماً بالنسب، وكما تعلمون كان النسب كل شيء في تلك المرحلة.
أنساب الناس لا تعني من هم آباؤهم وأمهاتهم فقط، ولكن الأنساب أيضاً تتناول التحالفات والمصاهرات.
تتناول كذلك العلاقات التي كانت تقوم بين البطون والأفخاذ والقبائل والعشائر المختلفة في مكة ومن حولها، وبالتالي هذه المعلومات في غاية الدقة والأهمية.
أيضاً تتناول عدد هذه القبائل، وعدتها وقوتها، وما إلى ذلك من مسائل. فإن أردت أن تبني دعوة كما دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأنت بحاجة ماسة لهذه المعلومات حتى تقيم أوضاع القبائل والبطون والمجموعات، ثم تبني استراتيجية في التواصل معها.
عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف
أيضاً، كان لدينا عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، متصلين بمجتمع التجار ورجال الأعمال، ولذلك لديهما القدرة على التوقع والتنبؤ وايضاً على تقديم النصح والشورى بما يتعلق بهذه المجموعة.
الفريق الفريد
كان لدينا في هذا الفريق من هم من الموالي ومن العبيد وكانوا كلهم متصلون بدوائرهم، أي أنه يمثل بحق مجموعة فردية متصلة ببعضها البعض.
ولا تشبه شيئاً من عادات قريش ولا من قبليتها وتراتبيتها الطبقية، من هنا كانت هذه المجموعة البداية الرئيسية في السنوات الثلاث الأولى.
حتى يكون للرؤية البديعة الجميلة القوية الجديدة العالمية المنفتحة على الكون أن يكون لها حملة من قوم أيضاً يمثل الفريق كل الشرائح، ويتصفون بسمات قادرة على أن تنقل هذه الرؤيا للدائرة الأوسع.
ستبدأ الدائرة الأوسع بالحديث إلى العشيرة القريبة من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تنتقل بعد ذلك لتتسع وتتسع، لتشمل دوائر أكبر في مرات قادمة، سنناقشها إن شاء الله.
السلام عليكم ورحمة الله