كان الصحابي جليبيب رضي الله عنه، يوم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فتى يافع لم يتجاوز العاشرة من عمره.
فما إن اكتحلت عيناه بمرأى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، حتى حل في السويداء من قلبه، وشغف فؤاده بحبه، وشغل به عن صحبه.
ولم يكن لدى الصحابي جليبيب أهل ولا مال، فإتخذ من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه، مقام ومن أهل الصفة أهل وخلان.
فكان يتبلغ معهم بما يهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من طعام، وبما يتصدق به عليهم، ذوو الإحسان.
الدعابة وخفة الظل
وقد كان جليبيب خفيف الظل حلو الدعابة، فكان يغدو على بيوت الأنصار في يثرب، فينثر فيها ما يعجبهم من طرفة، ويعطر أجوائها، بما يرويه لهم من الدعابة.
وكان لا يغلق دونه باب، ولا تحتشم منه امرأة، لأنه كان صغيراً، لم يبلغ الحلم بعد، ثم شب جليبيب، وبلغ مبالغ الرجال.
فطفق الأزواج ينبهون زوجاتهم وبناتهم، إلى أن جليبيب، لم يبق صغيراً كما عهدنه من قبل، وأن عليهن أن يستترن منه، وأن لا يأذن له بالدخول عليهن.
سعي النبي الكريم لتزويج جليبيب
وفي ذات يوم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جليبيب: ألا تتزوج يا جليبيب، فقال: ومن يزوجني يا رسول الله؟ فأنا شاب فقير، لا نفقة عندي ولا صداق،
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا أبتغي لك الزوجة الصالحة، والله تعالى هو الذي يغنيكما من فضله.
وقد كان من عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا كانت عندهم بنت، يريدون تزويجها، أو أيم توفي عنها زوجها.
أن لا يزوجوها من أحد، إلا بعد أن يعرضوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يعلموا إن كانت له بها حاجة، أم لا.
ومضت مدة لم تعرض فيها امرأة، على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، تصلح من أجل جليبيب.
اختيار زوجة جليبيب
فلما أبطأ ذلك عليه، بادر إلى رجل من الأنصار، وقال: يا فلان، زوجني ابنتك فلانة، فاستطار الرجل فرحاً بما سمع.
وقال: نعم يا رسول الله، نعم ونعمة عين أكرم، بك يا رسول الله من صهر وأعزز، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:
إني لست أريدها لنفسي، فخمد الرجل من فرحته، وقال: لمن تريدها يا رسول الله؟ فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: لجيبيب.
فذهب البشر، الذي كان يطفح على وجه الرجل، وقال: أنظرني يا رسول الله، حتى أستشير أمها، فأنا لا أريد أن أقطع في أمر كهذا، من دونها.
ومضى الرجل إلى بيته، حزين النفس، فقد كان يعلم علم اليقين، بأن زوجته لا ترضى، بفتى مثل جليبيب، بعلاً لابنتها.
وكان في الوقت ذاته، لا تطيب نفسه، بأن يرد الرسول عليه الصلاة والسلام خائباً، مهما كان مطلبه عزيزاً.
فلما بلغ البيت، نادى زوجته وقال: يا أم فلانة، فأقبلت عليه وهي تقول: لبيك، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب ابنتك.
فقالت: ابنتي؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتي؟ يا سعدها، مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، مرحباً به، نعم نزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل فوق الشرف من شرف، فقاطعها الرجل وقال: ولكنه لا يريدها لنفسه، فسكنت المرأة وقالت في خيبة: فلمن يريدها إذاً؟ قال: لجليبيب.
فقالت لجيبيب؟ لا لعمر الله، لا أزوجها من جليبيب، فقال الرجل: ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: قل له ما تشاء، تقدم له بما يحضرك من عذر.
تتمة
فما أنا بالتي ترضى جليبيب زوجاً لابنتها، ولا صهراً لها، وحمي الحوار بين الزوجين، وارتفع صوتهما، فالزوج يسترضي امرأته ويلينها.
والزوجة تشتد على زوجها، وتصر، فلما يئس من اقناعها، وهم بالمضي إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، لإبلاغه القرار.
بادرت إليه ابنتهما، وكانت قد سمعت أطراف من الحوار الذي دار بينهما، وقالت: من خطبني إليكم؟ فقالت الأم: خطبك النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب.
وقد رفضت أن أزوجك منه، فابنة في مثل شبابك وجمالك، وحسبك جديرة بأكرم الأزواج، فقالت الفتاة: ويحكم، أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره.
والله ما أنا بالتي ترفض طلباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أجيبوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
أعطوني إلى جيبيب، وثقوا بأن الله لن يضيعني أبداً، فسكتت الأم على مضض، ومضى الأب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
أنت وما تريد يا رسول الله، زوج ابنتنا من جليبيب، فانبسطت أسارير الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا لابنة الرجل قائلاً: اللهم صب عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كدا.
زواج جليبيب
وزوجها صلى الله عليه وسلم من جليبيب، ولم يمض على فرحة جليبيب بعروسه، غير أيام معدودة، حتى دعا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى غزوة في سبيل الله.
فبادر الصحابي جليبيب إلى تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وجهز نفسه، وودع عروسه، ومضى في صحبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ولما أنجز النبي صلى الله عليه وسلم غزوته، وأفاء الله عليه بالنصر، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا يا رسول الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: ولكني أفقد جليبيب، فاطلبوه، فطفق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبحثون عن الصحابي جليبيب في ساحة المعركة.
وفاة الصحابي جليبيب في المعركة
فإذا هو قد أردى سبعة من المشركين بسيفه، ثم خر صريعاً إلى جانبهم، وهو مقبل غير مدبر، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:
ها هو ذا الصحابي جليبيب، إلى جانب سبعة، قتلهم من المشركين، ثم قتل، فقام إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف فوقه، وقال: قتل سبعة، ثم قلتوه، هذا مني، وأنا منه، هذا مني وأنا منه.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام، بأن يحفروا له قبراً، فلما أتموا ذلك، قام النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وحمله على ساعديه، ووضعه بيديه الشريفتين في مثواه، وأهال عليه التراب.
ولما انقضت عدة زوجة الصحابي جليبيب، أقبل عليها الناس يخطبونها لأنفسهم، إقبالاً عظيماً، حتى إنه ما كان في الأنصار أيم، أكثر منها خُطاباً ولا رُغاباً.
فالناس كانوا يعلمون، أن رسول الله صلى الله عليه سلم، قد دعا لها الله، بأن يصب عليها الخير صبا، وأن لا يجعل عيشها كدا.
رضي الله عن الصحابي جليبيب، وجمعنا به وبالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وصحابته وآل بيته، في جنته ودار كرامته.