سعد بن أبي وقاص : لهذه الآيات الكريمات قصة فذة رائعة، اصطرعت فيها طائفة من العواطف المتناقضة في نفس فتى طري العود، فكان النصر للخير على الشر، وللإيمان على الكفر.
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لقمان 15
الفتى سعد بن أبي وقاص
أما بطل القصة فهو فتى من أكرم فتيان مكة نسباً، وأعزهم أماً وأباً، ذلك الفتى هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
كان سعد حين أشرق نور النبوة في مكة، شاباً ريان الشباب، غض الإهاب، رقيق العاطفة، كثير البر بوالديه، شديد الحب لأمه خاصة.
وعلى الرغم من أن سعد بن أبي وقاص كان يومئذ، يستقبل ربيعه السابع عشر، فقد كان يضم بين برديه الكثير من رجاحة الكهول وحكمة الشيوخ.
فلم يكن مثلاً يرتاح إلى ما يتعلق به لذاته من ألوان اللهو، وإنما كان يصرف همه إلى بري السهام، وإصلاح القسي، والتمرس بالرماية.
حتى لكأنه كان يعد نفسه إلى أمر كبير، ولم يكن أيضاً يطمئن إلى ما وجد عليه قومه، من فساد العقيدة وسوء الحال.
حتى لكأنه كان ينتظر أن تمتد إليهم يد قوية حازمة حانية، لتنتشلهم مما يتخبطون فيه، من ظلمات.
بدء ظهور الإسلام
وفيما هو كذلك، شاء الله جل وعز أن يكرم الإنسانية كلها، بهذه اليد الحانية البانية، وهي يد سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفي قبضتها الكوكب الإلهي، الذي لا يخبو، كتاب الله، فما أسرع أن استجاب سعد بن أبي وقاص لدعوة الهدى والحق.
حتى كان ثالث ثلاثة أسلموا من الرجال، أو رابع أربعة، ولذا كان كثيراً يقول مفتخراً: لقد مكثت سبعة أيام وإني لثالث الإسلام.
وكانت فرحة الرسول الكريم بإسلام سعد بن أبي وقاص كبيرة، ففي سعد من بواكير الرجولة، ما يبشر بأن هذا الهلال، سيكون بدراً كاملاً في يوم قريب.
نسب سعد بن أبي وقاص
ولسعد من كرم النسب، ما قد يغري فتيان مكة، بأن يسلكوا سبيله، ينسجوا على منواله، ثم إن سعد فوق ذلك كله من أخوال النبي الكريم.
فهو من بني زهرة، وهم أهل آمنة بنت وهب، أم النبي الكريم، قد كان الرسول الكريم يعتز بهذه الخؤولة.
فقد روي أن النبي الكريم، كان جالساً مع نفر من أصحابه، فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلاً، فقال لمن معه: هذا خالي فليرني امرؤ خاله.
لكن إسلام سعد بن أبي وقاص لم يمر سهلاً هيناً، وإنما عرض الفتى المؤمن لتجربة من أقسى التجارب قسوة وأعنفها عنفاً.
وبلغ من قسوتها وعنفها، أن أنزل الله سبحانه في شأنها قرآناً، فلنترك لسعد الكلام ليقص علينا خبر هذه التجربة الفذة.
قصة إسلام سعد بن أبي وقاص
قال سعد بن أبي وقاص: رأيت في المنام، قبل أن أسلم بثلاث ليال، كأني غارق في ظلمات بعضها فوق بعض.
وبينما كنت أتخبط في لججها، ظهر لي قمر فاتبعته، فرأيت نفراً أمامي قد سبقوني إلى ذلك القمر، رأيت زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب وأبا بكر الصديق.
فقلت لهم: منذ متى أنتم ها هنا؟ فقالوا: الساعة، ثم أني عندما طلع علي النهار، بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مستخفياً.
فعلمت أن الله أراد بي خيراً، وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات إلى النور، فمضيت إليه مسرعاً، حتى لقيته في شعب جياد وقد صلى العصر، فأسلمت.
فما تقدمني أحد سوى هؤلاء النفر، الذين رأيتهم في الحلم، ثم تابع سعد بن أبي وقاص رواية قصة إسلامه.
غضب والدته عليه بسبب إسلامه
فقال: وما أن سمعت أمي بخبر إسلامي، حتى ثارت ثائرتها، وكنت فتى براً بها محباً لها، فأقبلت علي تقول:
يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته؟ فصرفك عن دين أمك وأبيك؟ والله لتتركن دينك الجديد، أو لا آكل ولا أشرب.
حتى أموت، فيتفطر فؤادك حزناً علي، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت، وتعيرك الناس بها أبد الدهر.
فقلت: لا تفعلي يا أماه، فأنا لا أدع ديني لأي شيء، لكنها مضت في وعيدها، فاجتنبت الطعام والشراب، ومكثت أياماً على ذلك.
لا تأكل ولا تشرب فهزل جسدها ووهن عظمها، وخارت قواها، فجعلت آتيها ساعة بعد ساعة، أسألها أن تتبلغ بشيء من طعام أو قليل من شراب، فتأبى ذلك أشد الإباء.
وتقسم أن لا تأكل أو تشرب حتى تموت، أو أدع ديني، عند ذلك قلت لها: يا أماه إني على شديد حبي لك لأشد حباً لله ورسوله.
ووالله لو كان لك ألف نفس، فخرجت منك نفس بعد نفس، ما تركت ديني هذا لشيء، فلما رأت الجد مني، أذعنت للأمر، وأكلت وشربت على كره منها فأنزل الله فينا قوله عز وجل:
}وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{
غزوة بدر
لقد كان يوم إسلام سعد بن أبي وقاص؛ رضي الله عنه، من أكثر الأيام براً بالمسلمين وأجزله خيراً على الإسلام.
ففي يوم بدر، كان لسعد وأخيه عمير، موقف مشهود، فقد كان عمير يومئذ، فتى لم يجاوز الحلم إلا قليلاً.
فلما أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام، يعرض جند المسلمين قبل المعركة، توارى عمير أخو سعد بن أبي وقاص، خوفاً من أن يراه الرسول الكريم فيرده، لصغر سنه.
لكن الرسول الكريم أبصره ورده، حتى رق له قلب النبي وأجازه، عند ذلك أقبل عليه سعد بن أبي وقاص فرحاً، وعقد عليه حمالة سيفه عقداً لصغره.
وانطلق الأخوان مجاهدان في سبيل الله حق الجهاد، فلما انتهت المعركة عاد سعد إلى المدينة وحده، أما عمير فقد خلفه شهيداً على أرض بدر واحتسبه عند الله.
غزوة أحد
وفي غزوة أحد حين زلزلت الأقدام، وتفرق المسلمون عن النبي الكريم، حتى لم يبق إلا في نفر قليل لا يتمون العشرة.
وقف سعد بن أبي وقاص يناضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوسه فكان لا يرمي رمية، إلا أصابت من مشرك مقتل.
ولما رآه الرسول الكريم يرمي هذا الرمي، جعل يحضه ويقول له: ارمي سعد ارمي فداك أبي وأمي.
فظل سعد بن أبي وقاص يفتخر بها طوال حياته ويقول: ما جمع الرسول لأحد أبويه إلا لي، وذلك حين فداه بأبيه وأمه معاً.
معركة القادسية
ولكن سعد بن أبي وقاص؛ بلغ قمة مجده، حين عزم الفاروق على أن يخوض مع الفرس حرباً تزيل دولتهم، وتسل عرشهم وتجتث جذور الوثنية، من على ظهر الأرض.
فأرسل كتبه إلى عماله في الآفاق، أن أرسلوا إلي كل من كان له سلاح أو فرس، أو نجدة أو رأي، أو مزية من شعر أو خطابة، أو غيرها مما يجدي على المعركة.
فجعلت وفود المجاهدين تتدفق على المدينة من كل صوب، فلما تكاملت، أخذ الفاروق يستشير أصحاب الحل والعقد، فيمن يوليه على الجيش الكبير ويسلموا إليه قيادة.
فقالوا بلسان واحد: الأسد عادياً سعد بن أبي وقاص، فاستدعاه عمر رضوان الله عليهما، وعقد له لواء الجيش.
سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين
ولما هم الجيش الكبير بأن يفصل عن المدينة، وقف عمر بن الخطاب يودعه ويوصي قائده فقال: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله.
فإن الله عز وجل لا يمحو السيئة بالسيء، ولكنه يمحو السيئة بالحسنة، يا سعد إن الله ليس بينه وبين أحد نسب، إلا الطاعة، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.
الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالتقوى ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي عليه فالتزمه فإنه الأمر.
ومضى الجيش المبارك وفيه تسعة وتسعون من بدر، وثلاث مائة وبضعة عشر، ممن كانت لهم صحبة فيما بين بيعة الرضوان فما فوق ذلك.
وثلاث مائة ممن شهدوا فتح مكة مع رسول الله الكريم، وسبع مائة من أبناء الصحابة، مضى سعد بن أبي وقاص وعسكر في جيشه في القادسية.
اليوم الحاسم في معركة القادسية
ولما كان اليوم الأخير من معركة القادسية، عزم المسلمون على أن يجعلوها القاضية، فأحاطوا بعدوهم إحاطة القيد بالمعصم.
ونفذوا إلى صفوفه من كل صوب، مهللين مكبرين، فإذا رأس رستم قائد جيش الفرس، مرفوع على رماح المسلمين، وإذا بالرعب والهلع يدبان في قلوب أعداء الله.
حتى كان المسلم يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما قتله بسلاحه، أما الغنائم فحدث عنها ولا حرج، وأما القتلى فيكفيك أن تعلم أن الذين قضوا غرقاً فحسب، قد بلغوا ثلاثين ألفاً.
وفاة سعد بن أبي وقاص؛
عاش سعد بن أبي وقاص طويلاً، وأفاء الله عليه من المال الشيء الكثير، لكنه حين أدركته الوفاة، دعا بجبة من صوف بالية وقال:
كفنوني بها، فإني لقيت بها المشركين يوم بدر، وأريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضاً.