الهجرة إلى يثرب : عندما رأت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يتصل بشكل مستمر بيثرب والأوس والخزرج بدأت أخبارها تتسرب أثار ذلك فيها خوفاً.
معظم الدول والحكومات عندما تواجه بشخص أو مجموعة أو بحركة تحاول أن تكسر العرف السائد سواء كان ثقافياً أو سياسشاً أو احتكار سلطوي.
التفكير المباشر يكون عادة بالإقصاء ومن ثم الاحتواء ولكن على أبعد الحدود محاولة منع هذه المجموعة من الانتقال إلى مستوى خارج السيطرة.
في مكة كان النبي صلى الله عليه و سلم عملياً ضمن نطاق السيطرة القرشية، علاقاته واتصالاته ولقاءاته مكشوفة كلها لقريش.
وبالتالي تستطيع تقدير ما سيحدث والتعاطي مع الخطر الذي يمكن أن يؤديه الاتصال بالقبائل وأيضاً تستطيع عند اللزوم التدخل لمنع أية تبعات خطرة.
لكن لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة وفي هذه الحالة بدأوا يشعروا أن العلاقات مع يثرب بدأت بالاتجاه وأن بعض المسلمين بدأوا بالهجرة فعلاً.
الهجرة إلى يثرب
بدأت بأبي سلمة وأم سلمة وابنهما، خرجوا من مكة قبل العقبة الثانية بمعنى بدأ الصحابة فرادى في بعض الأحيان يهاجروا إلى يثرب عندما رأوا أن يثرب موطناً ايجابياً تجاه الدعوة، وبعض المسلمين بدأوا يأتوا من يثرب فهذا شجعهم على الهجرة.
قريش أحست بذلك، وتواصلت مع الأوس والخزرج، في بعض الروايات قالوا لهم والله ما من حي من أحياء العرب يحب أن تكون بيننا وبينكم سوء.
لأنكم طريق تجارتنا ونحن لا نريد أن يكون بيننا خلافات وهذا الرجل عصى قومه وسب آلهتنا وعمل كذا وكذا ارجوكم ابتعدوا عنه ولا تعطوه موطناً عندكم.
وفد الأوس والخزرج
نفى وفد الأوس والخزرج أن ذلك سيحدث، وللعلم أن الاتصال في تلك المرحلة كان في غاية السرية سواء في بيعة العقبة الأولى أو الثانية وما تلاها من أحداث تتعلق بالهجرة.
لما رأت قريش أن المسألة بدأت تتكاثر شعروا أنه لا بد من قرار حاسم، فدعي إلى انعقاد اجتماع طارئ في دار الندوة،
ودار الندوة كانت أحياناً تنعقد جزئياً وأحياناً كلياً، لكن في هذا اليوم انعقدت بكامل عضويتها.
بمعنى كل ممثلي القبائل والبطون الرئيسية ماعدا طبعاً بني هاشم بني المطلب، اجتمعوا في دار الندوة للتباحث في هذه المشكلة، لدرجة أنه سمي هذا اليوم بيوم الزحمة.
وذكر في التاريخ بهذا الاسم، اجتمعوا ليتحاورا ويتفاكروا في أمر محمد الذي ربما يهاجر بعد حين إلى يثرب والمسألة أصبحت واضحة أن الكثير أخذوا يهاجرون.
وبدأوا يفكرون في هذا الأمر فقدمت مجموعة من الاقتراحات، وبعضهم قال نحبسه حتى لا يهاجر قالوا لو حبستموه لخرج خبره إلى أصحابه وانتشرت الدعوة.
قالوا إذن ندعه يخرج لماذا لا نخرجه ونرتاح منه وإن خرج سيضيع في زحمة القبائل وخلافاتها، قالوا لو خرج لألب عليكم الناس ولشكل الأحلاف، وربما عاد عليكم مرة أخرى فلا بد لنا من حل آخر.
فهنا أبو جهل اقترح الاقتراح الشرير، لماذا لا يجتمع من كل بطن من بطون قريش رجلاً أو رجلين ونضرب محمداً ضربة سيف واحدة، فيتوزع دمه بين القبائل، فلا تدري بنو هاشم من أين تقتص وبالتالي بعد ذلك تفاوضهم نعطيهم الدية وتنتهي المشكلة.
الهجرة إلى يثرب ودار الندوة
طبعاً الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن ذلك في القرآن الكريم عندما قال:وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) الأنفال
ثلاث استراتيجيات كانت قريش فعلاً في كل النطاق القرشي والثقفي، هذا هو التعامل المعتاد الذي كان تجاه النبي صلى الله عليه وسلم والذي حاول النبي أن يخرج عنه، اجتمعوا والله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم وخرج من بينهم وهاجر مع أبي بكر.
أتوقف هنا قليلاً عند مشكلة قريش ..
الهجرة إلى يثرب ومشلكة قريش
لماذا تخاف قريش من خروج محمد صلى الله عليه وسلم؟
قريش قبيلة صغيرة عدداً وعدة، ليست بالقوية ليست من أهم قبائل العرب، لا تضاهي على الإطلاق قبائل ضخمة ومهمة مثل هوازن والتي هي قريبة من مكة ولكن قريبة أيضاً من الطائف.
ليست مثل غطفان، وهي قبيلة ضخمة تمثل بطوناً كثيرة مثل أسلم وأشجع وبنو سليم كلهم من قبيلة غطفان الضخمة التي كانت على أطراف المدينة باتجاه الشمال الشرقي.
وليست كذلك مثل تميم التي كانت ممتدة في نجد امتداداً كبيراً جداً في بعض الأحيان وصات حتى البحر وبعض الأحيان وصلت إلى حدود العراق إلى بني شيبان.
وليسوا كبني شيبان في جنوب العراق هي من قبائل العرب الكبرى، ليست كقضاعة التي كانت تمتد منازلها من شمال المدينة حتى الشام من بينهم جهينة وغيرها، والطريق التجارة الساحلي يعبر من أراضي قضاعة.
وخزاعة التي لم تكن القلوب بينهما صافية، فخزاعة عملياً في شمال مكة أي أنها بين مكة ويثرب، بمعنى إن أعاد النبي صلى الله عليه وسلم تموضعه الاستراتيجي من مكة إلى يثرب معنى ذلك أنه بإمكانه بناء تحالفات مع أناس كثر.
إذا تفاهم مع خزاعة لديهم مشكلة، إذا تفاهم مع قضاعة وقطع الطريق التجاري العابر على سيف البحر لديهم مشكلة.
الطريق التجاري إلى العراق
الأوس والخزرج عندما يقررون إغلاق الطريق التجاري الذاهب إلى العراق من يثرب أو إلى الشام إلى تبوك من يثرب أيضاً هناك مشكلة.
إذا تفاهموا مع غطفان التي ذات صلة مهمة بيثرب، لأن غطفان تأتي إلى يثرب لشراء الطعام والاتجار وما إلى ذلك، فالهجرة تفتح الباب على المجهول وعلى إعادة صياغة توازنات القوى في الجزيرة.
وما يدريك محمد نفسه من بني هاشم جماعته من قريش بالتالي هو ليس أقل شأناً ولا منزلة ولا مرتبة بين العرب من قريش الجالسة في داخل مكة.
فقد جمع الحسنيين، جمع أنه قرشي مع مجموعته المسلمة وجمع أنه في أرض منفتحة على الناس ومركز جديد بإمكانه بناء تحالفات جديدة.
بالتالي قريش تتقوقع على ذاتها في داخل مكة، عدتها وعددها لا يكفيها لتسيطر على النطاق التجاري اللازم باتجاه الشمال أو العراق، ولدى قريش تقدير موقف استراتيجي مهم.
خروج النبي إلى يثرب
لكن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى يثرب وبدأت الأمور تتغير باتجاه مهم في داخل مكة نفسها، بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثت مشكلة كبيرة في مكة حاولوا أن يطلقوا مجموعات للبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلقاء القبض عليه كما تعرفون ذهب إلى الغار وأعمى الله أبصارهم في غار ثور.
لكن الشيء المهم ما الذي فشل في مكة؟
فشلت استراتيجية أولئك الذين كانوا منذ البداية يقودون مكة نحو هذا الفشل المدوي، فأنت عندما تمر بمرحلة بعد ثلاثة عشر عاماً حاولت أن تفعل فيها اشياء كثيرة وفشلت.
في مجتمع لا مركزي والسلطة فيه ليست سلطة دولة ولا حكومة ولا سلطة ملك، إنما حقيقة هي تراضي بين الناس
وفي مجتمع كان في ذاته منقسماً، لأننا كنا نقول دائماً حتى المجتمع المشرك في مكة لم يكن مجتمعاً موحداً. الحاضنة
فكان هناك أناس ينزعون باتجاه بني مخزوم وآخرون ينزعون باتجاه بني عبد شمس، وكان هناك حلف المطيبين وحلف الحلاف، وبالتالي المشكلة في مكة أنها لم تكن على قلب رجل واحد.
وفي لحظة خروج محمد صلى الله عليه وسلم من مكة، بدأ التراجع كيف ولماذا فشل؟
من المسؤول عن الفشل، أبو جهل ومعه الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف زعيم بني جمح وعاصي بن وائل السهمي وغيرهم من الملأ من قريش، الذين قادوا المواجهة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
بالغلظة والفظاظة والحصار ثم محاولة القتل ولكنهم لم ينجحوا أبداً في تحقيق أهدافهم، لا هم منعوهم من نشر الدعوة ولا هم منعوهم من الهجرة، ولا استطاعوا استئصال الدعوة الإسلامية الدعوة مستمرة وهم فشلوا.
زعامات قريش
في تلك المرحلة بدأت قريش تعيد حساباتها الداخلية، وبدأت زعامة أبو جهل تأفل لأنه ينبغي أن يدفع ثمن هذه الهزيمة، لا سيما أن آخرين كانوا يتربصون به وببني مخزوم، لأنهم كانوا على غير وفاق لأسباب قبلية وتجارية وأخرى.
وعلى رأس المتربصين كان أبو سفيان وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة أي بني أمية من بني عبد شمس، أبناء عبد شمس انفكوا عن حلف المطيبين أبناء عمومتهم أبناء عبد مناف أيضاً عندما انضموا إلى الأحلاف.
لم ينضموا انضماماً حقيقياً لأنهم يعرفون أن بني مخزوم لا يحبونهم، بالتالي بقوا بطرف بعيد قليلاً ولذلك أبو سفيان موقفه في السيرة في الثلاثة عشر عاماً لا نذكر حدثاً معيناً أبو سفيان اشترك فيه مع أبو جهل بنفس المنهج.
حتى في الحصار تحدثنا في حلقة ماضية كيف أنه رفض أن يقاطع المسلمون وبنو هاشم بشكل تام، وأصر على دخول بعض الأمور التي جاء بها بنو هاشم.
هنا التركيبة النفسية للقيادة القرشية بدأت تتزعزع لأن الفشل واضح وبإمكان قيادات أخرى على الهامش أن تأتي إلى المركز، وتقول الآن علينا أن نغير استراتيجيتنا.
وأنا بتقديري هذه هي اللحظة التي انتصر فيها الملأ من قريش وبدأ البحث عن قيادة جديدة أكثر حكمة ودهاء في بداية الصراع مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما أن الصراع الآن ببداية قريش انتقل من شخص ومجموعة داخل المجتمع القرشي إلى مجموعة خرجت عن المجتمع القرشي.
تركيبة قريش
أصبح هناك علاقات خارجية الآن وأحلاف وهناك قبائل أوس وخزرج ويهود وقبائل أخرى مختلفة وثم هناك التجارة التي سوف تتضرر
فشخصية مثل أبو سفيان على سبيل المثال تاجر وبنفس الوقت له بعد ديبلوماسي هادئ وحمة أكبر بكثير من أبي جهل وقدرة أكبر على إدارة الأمور بتوازنات أعقد من السفاهة التي قاد بها أبو جهل وأمية بن خلف وغيرهم الذين قادوا بهذا المنهج السفيه
أعتقد أنه بدأت في تلك اللحظة تزرع في نفوس مكة أنه لا بد من قيادة جديدة ستتطور بعد قليل إلى شيء آخر وسرناه بشكل واضح بعد معركة بدر.
لكن من الآن فصاعداً نلحظ في مكة تغيرات أساسية نلحظ أن الوليد بن المغيرة قد مات، وهو كان زعيماً لقريش وكنانة والشخص الأكبر في دار الندوة.
من سيخلفه أخوه الأكبر من بعده وهو عتبة بن المغيرة بالضبط، عتبة بن الوليد وهو من بني عبد شمس، و أبي سفيان والوليد بن المغيرة كان زعيم بني مخزوم.
رئاسة دار الندوة الآن تلقائياً ستنتقل إلى عتبة يعني أبو سفيان، ويعني منهج جديد في التفكير و ستتراجع عن بني مخزوم ويعني حلف الأحلاف يعني بني جمح وبني و سهم وغيرهم.
مكة بدأت تتغير بطريقة جديدة في الوقت الذي بدأ يتمركز فيه النبي صلى الله عليه وسلم لبناء مجتمع آخر.
السلام عليكم ورحمة الله
المصادر
وضاح خنفر – الهجرة إلى يثرب
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com