اليمن ..
سورة البروج في القرآن الكريم، تحمل دلالات في غاية الأهمية، تاريخياً واستراتيجياً، وتنزلها على النبي الكريم، وعلى قريش في ذلك الوقت.
أعطى مؤشرات استراتيجية عن الطريقة التي ستتعامل بها الرسالة الجديدة مع الواقع، في العالم في تلك المرحلة.
لماذا البروج؟
تكلمت سورة البروج عن واقعة في غاية الأهمية في تاريخ جزيرة العرب، بل وتاريخ التجارة العالمي.
وهي حادثة نجران، وحرق المسيحيين في نجران، من خلال شخصية كانت تقود اليمن وهو غوناواس، والذي يسمى في المصادر البيزنطية دانياس.
(قتل أصحاب الأخدود)
وأصحاب الأخدود هم الذين حرقوا، وحرقوا بقرار من دانياس، الذي كان يحكم اليمن، من الملوك الحميريين.
وكان بتوجيه من السلطات الفارسية، فإن نجران أصبحت في لحظة ما، منطقة تقوم بها التجارة الحرة العابرة على الحدود.
ولكن كان يسيطر عليها المسيحيين، كثير منهم من الحبشة، وأيضاً الكنيسة الموجودة فيها، كانت ذات صلات مع القسطنطينية.
يعني أن نجران أصبحت مدينة في غالبية توجهاتها، كانت قريبة من الدولة البيزنطية والروم، والفرس الذين كانوا يسطرون على اليمن.
كانوا يعرفون أنهم أغلقوا البحر الأحمر، في مواجهة السفن البيزنطية، فإن نجران ستقوم بتزويد الشام والمناطق الخاضعة إلى الدولة البيزنطية، بالبضائع عبر الطريق البري.
التجارة العابرة من قريش ومن اليمن
وهنا نتكلم عن بداية القرن السادس الميلادي، وعن اللحظة التي كانت قريش تستعد بها، لكي تصبح طريق التجارة العابر، في الجزيرة العربية، وتصبح مكة المركز الأساسي.
أي أن نجران كانت المركز التجاري قبل مكة، مركز من أجل التجارة مهم، بنقل البضائع في الصحراء.
لا سيما بعد أن ينغلق البحر الأحمر أمام السفن البيزنطية، والذي يقوم بذلك هم المسيحيين، وهؤلاء موالون لدولة الحبشة والقسطنطينية.
دانياس ملك الدولة الفارسية، جاءته التوجيهات بأن يقضي على التجارة العابرة إلى الصحراء، وهذا قرار كانت السلطات الفارسية، عندما سيطرة على اليمن، تسعى إلى القيام به.
حرق المسيحيين في اليمن
وهنا نعود إلى العام 528 فكان دانياس، قد هاجم عدة مدن كان يقيم فيه المسيحيين، في مأرب وفي ظفار يرين، ولكن المعركة الأكبر كانت في نجران على الحدود مع اليمن.
وخير دانياس أهل نجران بعد الاستسلام، بين الارتداد عن المسيحية، أو حرق، وفعلاً قد حرق كما ثبت الآن من خلال الحفريات التي وجدت في اليمن.
والتي تعود إلى عهد دانياس، ويقال أنها كتبت بإشراف منه، بأنه تم قتل تقريباً 12 ألف من المسيحيين من أهل نجران.
المسيحيين يشتكون إلى الامبراطور في بيزنطة
بعض المسيحيين الذين هربوا من حرق دانياس في اليمن، إلى البيزنطية واشتكوا إلى الامبراطور جاستن.
وكانت البيزنطية قد حولت الديانة المسيحية، إلى محلق في الدولة، بمعنى أنها راع للديانة المسيحية، خاصة المسيحية الأرثوذكسية.
واستغلت الدولة البيزنطية هذه الفرصة، من أجل الدخول في الجزيرة العربية، ومهاجمة اليمن، بذريعة حماية المسيحيين.
سيطرة الدولة البيزنطية على اليمن
ولكن نعرف أنه كان لدى الدولة البيزنطية مصالح أخرى، وهي فتح طرق التجارة من جديد عبر البحر الأحمر، إلى موانئ عدن.
كتب جاستن إلى ملك الحبشة، أكسوم النجاشي، وقال له يجب أن ننقذ اخواننا المسيحيين، وزوده بأسطول من السفن، وقاد الأحباش حرباً في اليمن.
بدأت الحرب عام 523 وقتل دانياس، في عام 525 واستولى الأحباش على اليمن، وقامت الدولة الحبشية، أو الموالية للعهد الحبشي في اليمن.
أرياط والي على اليمن ومساعده أبرهة
أرياط أصبح والياً على الحبشة، ونحن نعرف قصة أبرهة في التاريخ الإسلامي، وهو الذي قاد الجيش لكي يدمر الكعبة، وقد وثق القرآن ذلك في سورة الفيل.
وفيما يتعلق في نجران، عندما سيطر الأحباش على اليمن، وأنهوا مرحلة الحكم أو النفوذ الفارسي في اليمن، واستبدلوه بنفوذ الدولة البيزنطية.
كانت هناك استحقاقات لعملاء الدولة البيزنطية في اليمن، فكان لا بد اقفال الطريق أمام التجارة العابرة من اليمن إلى الصحراء باتجاه فارس.
أبرهة الحبشي والياً على اليمن
وكان أرياط ضعيفاً، فلم يستطع القيام بهذه المهمة، فانقلب عليه أبرهة وسيطر على الحكم، دون استشارت ملك أكسوم النجاشي، فغضب النجاشي عليه.
فكان أبرهة ذكياً وداهية، فتواصل مع الدولة البيزنطية، والدولة البيزنطية تريد أن يكون من يحكم اليمن، قادراً على تأدية ما يريدونه من مصالح.
فالمصلحة الأولى هي فتح الطريق في البحر الأحمر، أمام السفن البيزنطية، وإغلاق الطريق البري أمام التجارة المتجهة إلى بلاد فارس.
شروط الدولة البيزنطية المرسلة إلى أبرهة ليصبح حاكم اليمن
بعث الامبراطور جستنيان وهو اين أخ الامبراطور جاستن، إلى أبرهة يقول إذا قمت بما نريد، سنعتبرك الحاكم الفعلي في اليمن.
وهي أن تفتح البحر الأحمر أمام السفن البيزنطية، وتمنع التجارة العابرة من اليمن إلى الصحراء باتجاه فارس، وتصالح مع ملك أكسوم النجاشي.
فهي الحليف الاستراتيجي في المنطقة، فبنى أبرهة الكنيسة الكبيرة في ذلك الوقت، وسماها المؤرخون كنيسة بني قليس، وهي كلمة حبشية تعني الكنيسة.
وهذه الكنيسة أهداها إلى ملك أكسوم النجاشي، فكان الملك إلى حد ما أن يتصالح أيضاً، لأنه لا يريد أن يخسر نفوذه في اليمن، فكانت مناسبة للتصالح مع أبرهة.
الحملة العسكرية على طرق التجارة
وأقام أبرهة الحملة العسكرية على طريق المدن، التي تقوم بالتجارة مع بلاد فارس، فبدأ بمدينة الطائف.
فكانت الطائف من المدن التي تقوم بممارسة التجارة على هذا الطريق، فاستسلمت الطائف له، ثم تحول أبرهة إلى مكة.
أبرهة وحادثة تدمير الكعبة المشرفة في مكة
أراد أبرهة تدمير الكعبة في مكة، لسبب أساسي فهو يعرف أن رمزية مكة، ليست فقط في التجارة، بل هي رمزية لأنها المكان الذي يحج إليه العرب من كل مكان.
ويضيفون إلى مكة بعداً لا يمكن أن تنافسه، لا الطائف ولا تبوك ولا خيبر ولا يثرب، وكلها مدن تقع على الطريق البري.
وكل هذه المدن ذهب إليها الحملة العسكرية التابعة إلى أبرهة، كما ورد في تاريخ الدولة البيزنطية.
فذهب أبرهة إلى مكة وأراد تدمير الكعبة، ليلغي رمزية مكة، ويحولها إلى أحد المدن الصغيرة، على خط التجارة، وبالتالي تفقد أهميتها الاستراتيجية.
هزيمة أبرهة في مكة والكعبة المشرفة
طبعاً قد هزم في مكة كما نعلم في حادثة الفيل، والغريب أنه قد وجدت مجموعة من الأحافير، تعود إلى مرحلة أبرهة الحبشي.
فقد أرخ لنفسه عن الحملة العسكرية تلك، وذكر بأن الحملة وصلت إلى تبوك، ولكنه لم يذكر على الإطلاق حادثة الفيل في مكة.
وبعض المؤرخين من المستشرقين، قالوا أن هذا صحيح، وأن الكلام الموجود في القرآن الكريم، غير صحيح.
والحقيقة كان من عادة الملوك، أنهم إن أرخوا لأنفسهم، أنهم يذكرون الانتصارات ولا يذكرون الهزائم.
لذلك نفسر أن مسألة مكة غائبة عن سيرة أبرهة الذاتية كما أمر بها أن تكتب، لأنها كانت هزيمة، ولو كان التقرير الذي رفع إلى الدولة البيزنطية في هذا الأمر.
وأغفل في التقرير ذكر الحملة العسكرية على مكة والكعبة، فهذا مفهوم، فلا أحد يكتب أنه قد هزم، لذلك كتب أبرهة انتصاراته فقط.
هزيمة أبرهة بمحاولته السيطرة على طرق التجارة
كانت طرق التجارة في الصحراء لا يمكن إيقافها، والغرض الأساسي من وجود أبرهة في اليمن، ودعم البيزنطيين له كان لأجل السيطرة على هذا الطريق.
ولكنه قد فشل فشلاً ذريعاً، ولم تستطع الدولة البيزنطية إكمال هذه المهمة، وصحيح أن البحر الأحمر أصبح أكثر حركة أمام السفن البيزنطية.
ولكن الطريق البري الذي كان يعبر من اليمن مروراً بطريق مكة والصحراء، خيبر وتبوك ويثرب، فهذا لم يتم إلغاءه.
فكانت الدولة البيزنطية تفشل دائماً في التدخل في الجزيرة العربية، فقد فشلوا سابقاً ومرة ثانية في أيام أبرهة.
سيطرة الدولة الفارسية على اليمن
وكان التدخل المباشر لقوة الدولة الفارسي بقيادة سيف بن يزن، الذي ثار على النفوذ الحبشي، فكان أبرهة قد توفي، وجاء بعده ابنه الأول ثم الثاني.
وأتى سيف بن ذي يزن، بقوة فارسية رست في ميناء عدن، ثم حاربت الاحباش وسيطرة على اليمن، ونصبت سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن.
ثم فرضت سيطرة مطلقة على اليمن، فأصبحت تحت سلطة الدولة الفارسية، يحكمها أمير فارسي اسمه بازان، لديه قوة من الجيش فارسية.
سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن
وانقطع نفوذ الدولة البيزنطية على اليمن، ولكن في هذه المرحلة، حملت عودة سيف بن ذي يزن إلى مكة أخباراً سعيدة.
فنحن نعرف قصة سيطرة سيف بن ذي يزن في 575 ميلادي، فقد قاد عبد المطلب جد النبي الكريم، فداً من قبائل قريش، لتهنئة سيف بن ذي يزن، باستعادة اليمن.
وذلك لأنه إذا أصبحت اليمن تحت النفوذ الفارسي، فإن التجارة التابعة إلى الدولة البيزنطية في البحر الأحمر، سوف تتعثر.
استعادة طرق التجارة من اليمن
وستزدهر التجارة البديلة في الصحراء، أي أن الطريق العابر إلى مكة، سيصبح أكثر طلباً من ذي قبل.
لأن الشام ومصر ترغب في البضائع التي تأتي من اليمن، فكانت المعادلة بسيطة وسهلة، فكلما تعثرت سفينة البحر الأحمر، ازدهرت سفينة الصحراء العابرة من مكة.
لذلك شعر أهل مكة بالسعادة لسيطرة الدولة الفارسية على اليمن، وبهذا سيكون عليه تزويد باقي الدول بالبضائع المتنوعة من اليمن، وبثمن أرخص.
ازدهار طرق التجارة من اليمن مروراً بمكة
وكان هذا بدء العهد الذهبي لممارسة التجارة في مكة، نهاية القرن السادس الميلادي، كانت مكة قد دخلت عهداً جديداً من الازدهار الاقتصادي.
فكانت قوافل التجارة تعبر عبر الصحراء، التي تأتي من اليمن، باتجاه الشام وبلاد فارس، بكميات أكبر وبضائع أفضل.
وأصبح الثراء في مكة، هو السمة الغالبة على رجالاتها، وناسها، وساداتها، لتدخل مكة في عالم جديد، يمهد لظهور البعثة النبوية الشريفة، بعد سنوات من الفقر.