إسلامشخصيات

حوار القبائل مع النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامهم


بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، استكمل محاوراته ولقاءاته مع بقية القبائل المختلفة، وهناك يعد المؤرخون عدداً كبيراً من اللقاءات التي تمت في مواسم مختلفة.

من بينها بنو حنيفة، بنو كعب، بنو كلب، وبنو عامر، ولكن الأمتع والأجمل أن تقرأ نص الحوار الجميل الذي تم بين بني شيبان وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

حوار النبي مع بني شيبان

هذا الحوار روي عن علي بن أبي طالب، قال أنه ذهب مع أبي بكر الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني شيبان، في أحد المواسم وجلس معهم.

كان سيد بني شيبان في تلك المرحلة هو هانئ بن قبيصة، وهانئ هذا هو حفيد هانئ بن مسعود الشيباني الذي سبق و تحدثنا عنه مرة في ذي قار، إذا تذكرون.

مضارب بني شيبان كانت في جنوب العراق، على أطراف جزيرة العرب، في تلك المرحلة عام 610 غالباً وقعت ذي قار.

أسباب معركة ذي قار

وسببها المباشر أن النعمان بن المنذر استجار بهانئ بن مسعود، وبعث أسلحة ومالاً.

تعرفون القصة كيف أن كسرى أراد هذه الأموال والأسلحة، فرفض هانئ بن مسعود واندلعت معركة كبيرة اسمها ذي قار وهو اليوم الذي انتصف فيه العرب من العجم.

هانئ بن مسعود له حفيد اسمه هانئ بن قبيصة، الآن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً في العام العاشر أو الحادي عشر من البعثة النبوية الشريفة في مكة، ومعه مجموعة من بني شيبان.

يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، بأننا جئنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نطعم الطعام إلخ.

تحدث عن مبادئ الإسلام وعن أخلاقياته، والجماعة اقتنعوا بها، لأنهم قوم يجاورون بالأساس الفرس، ولكن أيضاً لديهم ثقافة قريبة من الثقافة الدينية المسيحية المنتشرة في العراق.

ففكرة النبي وفكرة الرسالة وفكرة أن هناك مرسل من الله، هذه ليست غريبة عليهم، بل هم يتعايشون ويتخالطون يومياً مع نصارى العرب الذين يقيمون في العراق في تلك المرحلة.

مكانة بنو شيبان بين القبائل

هذه واحدة، ثانياً أن بنو شيبان بسبب مكانتهم التي كانت مهمة ومناعتهم وقوتهم وما إلى ذلك، كان لديهم نوع من الاستقلالية بمعنى بعيدين جداً عن قريش.

لا تستطيع قريش أن تفعل لهم شيئاً كثيراً، بإمكانهم أن يعبّروا عن آرائهم بطريقة أكثر حرية، مما تعبر عنه بقية القبائل القريبة من مكة والتي تحتاج إلى قريش في التجارة وفي كثير من الأشياء.

وعندما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم طلب من هانئ بن قبيصة أن يسلم، ويسلم الوفد، وأن يؤووه وأن ينصروه.

قال حديثاً جميلاً بلغة رائعة، قال له: يا محمد هذا أمر كبير لا نستطيع أن نحسمه في لقاء هو الأول من نوعه، نرجع إلى أهلنا و ترجع أنت إلى أهلك، ثم نفكر ونتحاور في هذا الأمر.

و بدأ يتكلم معهم وهنا تقييم موقف استراتيجي، هانئ بن قبيصة يعطي موقف استراتيجي عن طبيعة القبيلة وموازين القوى التي فيها، يقول: نحن بين أنهار كسرى وآبار العرب.

علاقة بنو شيبان بالفرس

أما ما يكون في علاقتنا مع كسرى فالذنب غير مغفور، لأنه اشترط علينا ألا نؤوي محدثاً، وألا نساند عليه أحد.

وأما مع العرب فالذنب في ذلك مغفور، فإن أردت أن ننصرك على ما يلينا من العرب ممكن، لكن إذا أردت أن نحميك بالاتجاهات كلها بما في ذلك الفرس نحن لا نستطيع.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال أن هذا الدين لا يمسك به إلا من أحاط به، نحن بالنهاية نتكلم عن الدين، لا يمكن تقسيم الولاء فيه باتجاه فارس وغيرهم.

لأنه لو دخل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المعادلة، لأصبح في النهاية ضمن الموازين الفارسية.

وصحيح أنه يأمن قبائل العرب، ولكن ما الذي ينفعه أن يكون جزءاً من حضارة هي في الأخير ليست لها علاقة بالدين.

ولذلك في هذه المرحلة النبي صلى الله عليه وسلم أعجب بحديثهم ومدحهم مع أبي بكر وعلي، كما يروي لنا علي بن أبي طالب في ذلك الحديث.

نبوءة النبي عن ملك فارس

وتكلم معهم في النهاية عن شيء، قال لهم: فإن ملّككم الله أرضهم وبيوتهم فهل ستسلموا؟ قالوا: نعم. قال: هو حادث.

تخيل في تلك المرحلة النبي صلى الله عليه وسلم الآن في مكة محاصر، ولا يجد حتى من الناس الذين يلحقونه في الشوارع، ويقولون لهم لا تتكلموا مع هذا الرجل هذا الساحر هذا مجنون إلى آخره.

يبشر بأنه سيفتح قصور كسرى وأرضه، التي كانت بالنسبة للعرب مسألة كبيرة جداً، هدف العام بالضبط.

الذي كانت الدولة الفارسية تنتصر فيها على الدولة الرومانية، وكانت هي أعظم قوة موجودة على الكرة الأرضية.

على كل حال إذاً هذا كان حديثاً جميلاً لكن هناك شيء آخر كان يحدث باستمرار.

لقاء النبي مع تجار يثرب

منذ سنوات النبي صلى الله عليه وسلم التقى بأناس قادمين من يثرب.

ما هي يثرب؟

مدينة زراعية تجارية بعيدة مسافة معقولة عن مكة، ليس كالطائف قريبة، ليست جزءاً من الجغرافيا السياسية لمكة.

إنما هي معبر لقوافل قريش في طريقها نحو الشام، ولذلك أهل يثرب لديهم قدرة استقلالية مختلفة عن مكة.

مكة تحتاجهم أكثر مما يحتاجون مكة، أما يثرب فلا تحتاج كثيراً لمكة، ليس فيها أي شيء تحتاجه. في هذه العلاقة ربما الحج على سبيل المثال لكن لا شيء آخر.

يثرب والحرب الأهلية

النقطة الثانية أن يثرب قد خرجت لتوها من حرب أهلية مدمرة، هذه الحرب كانت تندلع دوماً بين المكونين الأساسيين في يثرب وهم الأوس والخزرج قبيلتان تتنافسان بينهما ثارات وإشكالات كبيرة جداً.

قبل خمس سنوات من الهجرة النبوية، وقعت حرب اسمها حرب بعاث، وهي كانت حرب مهمة جداً.

تقول الأخبار، لما جاء بعض أهل يثرب من الخزرج إلى مكة، من أجل البحث عن حليف في مكة ضد الأوس، تحدث معهم النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: أفلا أدلكم على خير من ذلك؟ وشرح لهم الرسالة، لم يسلموا، لكن انتبهوا إلى شيئين الأول هم مجموعة من الخزرج.

من هم الخزرج

بشكل عام هي تلك القبيلة التي فيها بنو النجار، أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، ليسوا أخواله بمعنى لأمه آمنة بنت وهب لكن هم أخوال جده عبد المطلب، فهذه نقطة مهمة انتبه إليها.

ثانياً أنهم سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم كانوا مشغولون بالتحضير للحرب، فما حاولوا أن يدخلوا معه في نقاش كثير.

ولكن هناك مؤشر بسيط، أحدهم قال: لو أن هذا الرجل جاءنا، ربما يصلح ما بين الناس وتنتهي المعارك الطويلة التي بيننا، ومشى.

صلة النبي بأهل يثرب

هذا الكلام قبل خمس سنوات من الهجرة، الآن مرة ثانية، يتقصد النبي صلى الله عليه وسلم كل القادمين من يثرب ويتحدث إليهم بشكل مباشر ويلح.

ويثرب تعرف أنه زارها وهو في عمر صغير كان عمره 6 سنوات، ذهب مع أمه آمنة لزيارة أخوال جده بنو النجار في يثرب.

وتعرف أن عبد الله والده توفي عند بني النجار، ودفن عندهم. فذهبت به آمنة، زارت قبر والده في ذلك الوقت، وأقامت شهراً ثم عادت، وهي في الطريق توفيت ودفنت في الأبواء في طريق العودة إلى مكة.

النبي صلى الله عليه وسلم على صلة مصاهرة ونسب مع بني النجار، من بني الخزرج من المدينة يثرب، وبالتالي حاضرة في وعيه وذهنه ولم تكن مستبعدة.

لكن لم يفكر بتركيز التأثير عليها في تلك المرحلة بسبب الحروب، حرب بعاث هذه كانت مدمرة، والمشكلة أن حرب بعاث عندما انتهت الخاسر الأكبر فيها كان الخزرج.

الأوس كادوا أن يبيدوا الخزرج في مرحلة من المراحل، ولكن بعد ذلك تصالحوا وتوافقوا، لكن كانت الدماء وكانت الثارات لا زالت مشتعلة.

فلا تصلح في تلك المرحلة أن تكون مركزاً أساسياً للدعوة، ولكن التواصل معها بقي مستمراً.

أسعد بن زراره

يقال أن رجلاً وهو من أهم الأشخاص الذين سيلعبون دوراً مهماً في تحويل يثرب إلى الإسلام، هو أسعد بن زراره من بني النجار، من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.

جاء في مهمة ما إلى مكة مع شخص آخر، وجلس معهما النبي صلى الله عليه وسلم وتحدث معهما فأسلما وعادا هذا ربما يكون قبل بأربع سنوات من الهجرة.

وبدأ أسعد بن زراره يتكلم مع بعض الناس عن الإسلام، ثم عاد في السنة التي تليها مع ستة أشخاص، ثم أسلموا، كثير منهم كانوا أيضاً من الخزرج.

وعادوا في السنة التي تليها، عادوا أكثر، كانوا إثنا عشر هذه المرة، وهنا حدثت بيعة العقبة الأولى التي نعرف ،التي أسلم فيها الاثنا عشر.

وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان بالله لا يشركوا به شيئاً، وعلى أن يأتمروا بما أمر به الله، وأن ينتهوا عما نهى عنه الله.

لم يتحدث هنا عن عقد سياسي ولا عن حماية، ولا عن منعة، إنما تحدث عن مبادئ أساسية.

إثنا عشر مسلماً

هؤلاء الاثنا عشر عادوا بشيء مهم جداً، عادوا بسفير اسمه مصعب ابن عمير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان رجلا ًحسن المنطق حسن الوجه متكلماً لبقاً شاب من شباب قريش المميزين.

ومعه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الذي نعرفه في الواقعة المشهورة المذكورة في سورة عبس، عاد مع الوفد. وأقام في بيت أسعد بن زراره، وبدأ أسعد يأتيهما بوجوه القوم، وبدأت الدعوة.

في عام واحد استطاع هذا الفريق المكون من أسعد بن زراره وهو السفير المقيم في يثرب والسفير القادم من النبي صلى الله عليه وسلم السفيران مصعب وابن أم مكتوم بدآ يتحدثان مع وجهاء يثرب.

البيئة النفسية في يثرب

كانت بيئة في تلك المرحلة مضطربة بسبب الحروب والثارات والدماء والمئات من القتلى، أيضاً حزازات بدأت تنشب ما بين الفريقين وبين القبائل اليهودية.

القبائل اليهودية الثلاث المقيمة في يثرب، في حرب بعاث، بالمناسبة بنو النضير وبنو قريظة وقفوا مع الأوس ضد الخزرج، لأسباب كثيرة يطول شرحها.

ولكن في مرحلة ما اعتقد بنو الخزرج والأوس أن النفوذ الاقتصادي والنفوذ الموجود لليهود بدأ يتضخم على حسابهم، وبالتالي كان في حالة من الشعور بالإنكسار وحالة من شعور بضرورة بداية جديدة.

هنا جاء الخطاب الإسلامي لكي يغير كثيراً في نفوسهم، أولاً لكي يمسح الماضي القبيح من الدماء ومن الحروب، ثانياً لكي يعد بأمل جديد، ثالثاً ليؤسس لوحدة.

لأنه هنا الإسلام يقول لك لا فرق بين الأوس والخزرج، كل من يسلم أخ للمسلمين، بالتالي هذه الرسالة لبيئة تعاني من التمزق والانقسام ومن عفن الحروب.

ربما أنها فعلاً تكون بداية جديدة وانطلاقة مهمة ضرورية. ولذلك الإسلام انتشر بطريقة فيها قدر من المفاجأة.

بيعة العقبة الثانية

بمعنى أنه في عام واحد، يعود في العام الذي يليه، نتكلم على الثالث عشر للبعثة أي بعد سنة واحدة فقط من بيعة العقبة الأولى، يعود 73 من المسلمين من الأوس والخزرج ومعهم امرأتان.

ويبايع النبي صلى الله عليه وسلم، بيعة العقبة الثانية لكن المهم أن بيعة العقبة الثانية لم تكن كبيعة العقبة الأولى على الإيمان بالله ورسوله والإءتمار بأمره، بل كانت بيعة فيها قدر كبير جداً من السياسة.

 

بايع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المجموعة على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وأن يعلنوا في الدين، أن يمنعوه وينصوره مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم حماية تامة للرسالة وجزاؤهم في ذلك الجنة.

الكيان الجديد

هنا بدأت المسالة تتشكل أن هناك كيان ما في عقد سياسي، في تفاهم على تبعات هذا الإسلام.

الإسلام لم يعد تجربة آنية فردية، بإيمان بالله إنما الآن الإسلام هو موقف سياسي واستراتيجي ضد القبائل وضد قريش وغيرها ممن يعادون النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك أسعد بن زراره عندما بدأوا يريدون البيعة، أمسك بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر الأوس والخزرج، قبل أن تبايعوا تأكدوا مما تقولون.

أنتم تقولون إنكم ستنصرون محمداً على غيره من الناس، وسطكم السيوف وسيحاربكم الناس، وسيكون لذلك تبعات كبيرة، فهل أنتم واثقون مما تقولون؟

طبعاً أسعد ذكي يريد أن يعزز هذه النقطة، أن هذه البيعة ليس فقط مجرد تدين شخصي، إنما هذا موقف سينحاز فيه أهل يثرب إلى الدعوة الجديدة.

وأن هذه الدعوة ليست دعوة يثربية خاصة، بل سيكون لها تبعاتها على العرب جميعاً، وبالتالي هو يؤكد عليهم، هل أنتم مستعدون لدفع ثمن هذا الموقف الذي تتخذوه؟ قالوا أم اطعنا يا أسعد.

وذهبوا وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: والله لن نخسر بيعتك أبداً يا محمد، وبايعوه بحضور العباس بن عبد المطلب.

لماذا حضر العباس البيعة

العباس في ذلك الوقت لم يكن مسلماً، لكن الشيء المهم لماذا حضر العباس؟

العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، هو سيد بني هاشم بعد وفاة أبي طالب، حضر من أجل أن يحضر هذا العقد.

هذا العقد أصبح الآن ليس فقط مجرد عقد بين فرد هو محمد صلى الله عليه وسلم وبين أهل يثرب، بل أنه أصبح ذو بعد قبلي.

أنا زعيم بني هاشم جئت مع محمد لكي أشهد بيعة بموجبها تنصرونه وتؤيدونه، ولذلك يقول رواة السير فبايعوه على شرط العباس.

العباس جالس والعباس تحدث في تلك المناسبة، وذكرهم بأهمية هذا البعد المهم في حماية النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي أستطيع أن أقول بيعة العقبة الثانية كانت ميلاد لفكرة جديدة.

ليست فكرة الإيمان فحسب، وإنما فكرة وجود فئة منظمة ذات موقف استراتيجي سياسي مدركة لأبعاده قادرة على تطبيقه.

هذه هي النواة الأولى التي ستؤسس بعد قليل الدولة المسلمة، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب.

السلام عليكم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى