زيد بن الخطاب الصحابي الشهيد : جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وحوله جماعة من المسلمين، وبينما الحديث يجري، أطرق الرسول لحظات، ثم وجه الحديث لمن حوله قائلاً:
إن فيكم لرجلاً، ضرسه في النار، أعظم من جبل أحد
فظل الخوف بل الرعب من الفتنة في الدين، يراود ويلح على جميع الذي شهدوا، هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كل منهم يخشى أن يكون هو، الذي يتربص به سوء المنقلب، وسوء الختام، ولكن جميع الذين وجه إليهم الحديث يوم إذٍ، ختم لهم بخير، وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله.
وما بقي منهم حي، سوى أبو هريرة والرجال بن عنفوة، ولقد ظل أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفاً، من أن تصيبه تلك النبوءة، ولم يهدأ له بال، حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعيس.
الردة في زمن زيد بن الخطاب
ارتد الرجال عن الاسلام، ولحق بمسيلمة الكذاب، وشهد له بالنبوة، هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم، بسوء المنقلب وسوء المصير.
والرجال بن عنفوة، ذهب إلى الرسول مبايعاً ومسلماً، ولما تلقى منه الإسلام، عاد إلى قومه، ولم يرجع إلى المدينة، إلا إثر وفاة الرسول، واختيار الصديق خليفة على المسلمين.
ونقل إلى أبي بكر، أخبار أهل اليمامة، والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الصديق، أن يكون مبعوثه إليهم، يثبتهم على الإسلام، فأذن له الخليفة.
وتوجه الرجال إلى أهل اليمامة، ولما رأى كثرتهم الهائلة، ظن أنهم الغالبون، فحدثته نفسه الغادرة، أن يحجز له مكان في دولة الكذاب، التي ظنها مقبلة وآتيه.
فترك الإسلام، وانضم إلى صفوف مسيلمة، الذي سخى عليه بالوعود، وكان خطر الرجال على الإسلام، أشد من مسيلمة ذاته.
ذلك أنه استغل إسلامه السابق، والفترة التي عاشها في المدينة أيام الرسول، وحفظه لآيات كثيرة من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.
استغل ذلك كله استغلالاً خبيثاً، في دعم سلطان مسيلمة، وتوكيد نبوته الكاذبة، وسار بين الناس يقول لهم، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إنه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوة والوحي بعده، هو مسيلمة.
ولقد زادت أعداد الملتفين حول مسيلمة، زيادة كبيرة بسبب أكاذيب الرجال، واستغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالإسلام وبالرسول.
وكانت أنباء الرجال تبلغ المدينة، فيتحرق المسلمون غيظاً، من هذا المرتد الخطر، الذي يضل الناس ضلالاً بعيداً.
والذي يوسع بضلاله دائرة الحرب، التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها، وكان أكثر المسلمين تغيظاً وتحرقاً للقاء الرجال، صحابي جليل، تتألق ذكراه في كل كتب السيرة والتاريخ، تحت هذا الاسم الحبيب.
زيد بن الخطاب
زيد بن الخطاب، لا بد أنكم قد عرفتموه، إنه أخو عمر بن الخطاب الأكبر، جاء الحياة قبل عمر وسبقه إلى الإسلام، كما سبقه إلى الشهادة في سبيل الله.
كان زيد بن الخطاب بطلاً، وكان العمل الصامت جوهر بطولته، وكان إيمانه بالله وبرسوله وبدينه إيماناً وثيقاً، ولم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا غزوة.
وفي كل مشهد، لم يكن يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن الشهادة، وفي يوم أحد، حين حمي القتال بين المشركين والمؤمنين.
راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب، وأبصره أخوه عمر بن الخطاب، وقد سقط درعه عنه، وأصبح أدنى منالاً للأعداء.
فصاح به عمر: خذ درعي يا زيد فقاتل بها، فأجابه زيد: إني أريد من الشهادة، ما تريدها يا عمر، وظل يقاتل بغير درع في استبسال عظيم.
زيد بن الخطاب وبغضه للكذب والنفاق
قلنا أنه رضي الله عنه، كان يتحرق شوقاً للقاء الرجال، متمنياً أن يكون الإجهاز على حياته الخبيثة، من حظه وحده.
فالرجال في رأي زيد، لم يكن مرتداً فحسب، بل كان كذاباً منافقاً ووصولياً، ولم يرتد عن اقتناع بل عن وصولية ونفاق بغيض.
وزيد في بغضه النفاق والكذب، مثل أخيه عمر، فكلاهما لا يثير اشمئزازه ولا بغضائه، مثل النفاق الذي تزجيه النفعية الهابطة، والأغراض الدنيئة.
ومن أجل تلك الأغراض المنحطة، لعب الرجال دوره الآثم، فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة إرباء فاحشاً، وقدم بيديه إلى الموت والهلاك، أعداد كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردة.
ولقد أعد زيد نفسه، ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة، بل من هو أكبر منه خطراً، الرجال بن عنفوة.
معركة اليمامة
بدأ يوم اليمامة مكفهراً شاحباً، وجمع خالد بن الوليد جيش الإسلام، ووزعه على مواقعه، ودفع لواء الجيش إلى زيد بن الخطاب الصحابي
وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة، قتالاً ضارياً، ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون.
رأى زيد مشاعر الفزع، تراود بعض أفئدة المسلمين، فصعد على ربوة وصاح في أخوانه:
أيها الناس، عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما، والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي.
ونزل من فوق الربوة عاضاً على أضراسه، زاماً شفتيه لا يحرك لسانه بهمس، وتركز مصير المعركة لديه، في مصير الرجال.
فراح يخترق الجيوش كالسهم، باحثاً عن الرجال حتى أبصره، وهناك راح يأتيه من يمين ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه.
غاص زيد وراءه حتى يدفعه الموج إلى السطح، من جديد فيقترب منه زيد ويبسط إليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم، يبتلع الرجال مرة أخرى.
فيتبعه زيد ويغوص وراءه، كي لا يفلت منه، وأخيراً أمسك بخناقه، وطوح بسيفه رأسه المملوء غروراً وكذباً وخسة.
فوز المسلمين في معركة اليمامة
بسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كلها يتساقط، فدب الرعب في نفس مسيلمة والمحكم بن الطفيل، ثم طار نبأ مقتل الرجال، في جيش مسيلمة كالنار في يوم عاصف.
لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرجال بن عنفوة والمحكم بن الطفيل، سيقومون غداة النصر، بنشر دينهم وبناء دولتهم.
وها هو ذا الرجال قد سقط صريعاً، إذاً فنبوة مسيلمة كاذبة، هكذا أحدثت ضربة زيد بن الخطاب، كل هذا الدمار في صفوف مسيلمة.
أما المسلمون فما كاد الخبر يذيع بينهم، وتشامخت عزائمهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد حاملاً سيفه، غير عابئ بجراحه.
رفع زيد بن الخطاب ذراعيه إلى السماء مبتهلاً لربه، شاكراً نعمته، ثم عاد إلى سيفه وصمته، فلقد أقسم بالله من لحظات، أن لا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة.
ولقد أخذت المعركة تمضي لصالح المسلمين، وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع، هنالك وقد رأى زيد رياح النصر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاماً أروع من هذا الختام.
فتمنى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة، وهبت رياح الجنة فملأت نفسه شوقاً، وعينيه دموعاً وعزمه إصراراً.
وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم، وسقط البطل الصحابي شهيداً، بل صعد شهيداً عظيماً ممجداً سعيداً.
نبأ استشهاد زيد بن الخطاب
عاد جيش الإسلام إلى المدينة ظافراً، وبينما كان عمر بن الخطاب، يستقبل مع الخليفة أبو بكر العائدين الظافرين.
راح يرمق بعينين مشتاقتين، أخاه العائد، وكان الصحابي زيد طويلاً بائن الطول، فكان تعرف العين عليه أمراً ميسوراً.
ولكن قبل أن يجهد عمر بصره، اقترب إليه من المسلمين العائدين، من عزاه في زيد، فقال عمر:
رحم الله زيداً سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي.
وعلى كثرة الانتصارات التي راح الإسلام يظفر بها وينعم، فإن زيد لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة.
وكان يقول دائماً: ما هبت الصبا، إلا وجدت منها ريح زيد.
أجل إن الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة، ونضيف للعبارة الجليلة هذه كلمات، لتكتمل معها جوانب الصورة، ما هبت رياح النصر على الإسلام، منذ يوم اليمامة، إلا وجد الإسلام فيها ريح زيد، وبطولة زيد وعظمة زيد، بورك آل الخطاب، تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبوركوا يوم أسلموا، وبوركوا أيام جاهدوا واستشهدوا، وبوركوا يوم يبعثون.