إسلامشخصيات

سعيد بن المسيب وحكايته مع عبد الملك بن مروان


سعيد بن المسيب

ما هي قصة سعيد بن المسيب مع أمير المؤمنين، ولماذا رفض تزويجها أمير بني أمية وزوجها لأبي وداعة؟

عقد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان العزم على حج بيت الله الحرام وزيارة ثاني الحرمين الشريفين والسلام على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

فلما أقبل شهر ذي القعدة، زمَّ الخليفة العظيم ركائبه، وتوجه إلى أرض الحجاز يصحبه السادة الأماجد من أمراء بني أمية ونفر من كبار رجال دولته وبعض أولاده.

ومضى الركب في طريقه من دمشق إلى المدينة المنورة من غير ريث ولا عجل، فكانوا كلما نزلوا منزلاً نصبت لهم الخيام، وفرشت لهم الفرش، وعقدت لهم مجالس العلم والتذكرة.

ليزدادوا تفقها في الدين، ويتعهدوا قلوبهم ونفوسهم بالحكمة والموعظة الحسنة.

سعيد بن المسيب في مسجد الرسول

ولما بلغ الخليفة المدينة المنورة، أمّ حرمها الشريف، وتشرف بالسلام على ساكنها رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وسعد بالصلاة في الروضة المطهرة الغراء.

فذاق من برد الراحة، وسلام النفس ما لم يذق مثلهما من قبل، وعزم على أن يطيل إقامته في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

وكان من أشد ما استأثر باهتمامه في المدينة المنورة حلقات العلم التي كانت تعمر المسجد النبوي الشريف، ويتألق فيها العلماء الأفذاذ من كبار التابعين كما تتألق النجوم الزهر في كبد السماء.

فهذه حلقة عروة بن الزبير، وتلك حلقة سعيد بن المسيب، وهناك حلقة عبد الله بن عتبة.

وفي ذات يوم صحا الخليفة من قيلولته في وقت كان لا يصحو فيه عادةً، فنادى حاجبه وقال: يا ميسرة.

قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: امض إلى مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وادع لنا أحد العلماء ليحدثنا.

من يبتغي شيئاً يأتي إليه

مضى ميسرة إلى المسجد النبوي الشريف، وأجال نظره فيه فلم ير غير حلقة واحدة توسطها شيخ نيف على الستين من عمره، فيه بساطة العلماء وعليه هيبتهم ووقارهم.

فوقف غير بعيد من الحلقة، وأشار للشيخ بإصبعه، فلم يلتفت إليه الشيخ ولم يأبه له. فاقترب منه وقال: ألم تر أني أشير إليك؟ قال: إلي أنا؟ قال: نعم. قال: وما حاجتك؟

قال: استيقظ أمير المؤمنين وقال: امض إلى المسجد وانظر هل ترى أحداً من حدّاثي، فآتني به. فقال له الشيخ: ما أنا من حداثه؟ فقال له ميسرة: ولكنه يبتغي محدثاً يحدثه.

فقال الشيخ: إن من يبتغي شيئاً يأتي إليه، وإن في حلقة المسجد متسعاً له إذا كان راغباً في ذلك. والحديث يؤتى إليه ولكنه لا يأتي،

فعاد الحاجب أدراجه وقال للخليفة: ما وجدت أحداً في المسجد غير شيخ أشرت إليه فلم يقم، فدنوت منه وقلت: إن أمير المؤمنين استيقظ في هذا الوقت وقال لي انظر هل ترى أحداً من حداثي في المسجد فادعه لي.

فقال لي في هدوء وحزم: إنني لست من حداثه، وإن في حلقة المسجد متسعاً له إن كان راغباً في الحديث.

فتنهد عبد الملك بن مروان، وهب قائماً واتجه إلى داخل المنزل وهو يقول: ذلك سعيد بن المسيب، ليتك لم تأته ولم تكلمه.

ما قصة ابنة سعيد بن المسيب

فلما ابتعد عن المجلس وصار في الداخل، التفت أصغر أولاد عبد الملك إلى أخ له أكبر منه وقال:

من هذا الذي يمتنع على أمير المؤمنين ويستكبر على المثول بين يديه وحضور مجلسه؟ وقد دانت له الدنيا، وخضعت لهيبته ملوك  الروم؟

فقال الأخ الأكبر: ذاك الذي خطب أمير المؤمنين بنته لأخيك الوليد، فأبى أن يزوجها منه.

فقال الأخ الأصغر: أبى أن يزوجها من الوليد بن عبد الملك؟ وهل كان يروم لها بعلاً أسمى من ولي عهد أمير المؤمنين؟ وخليفة المسلمين من بعده؟ فسكت الأخ الأكبر ولم يجبه بشيء.

فقال الأخ الأصغر: إذا كان قد ضن بابنته على ولي عهد أمير المؤمنين، فهل وجد لها الكفء الذي يليق بها؟ أم إنه حال دونها ودون الزواج كما يفعل بعض الناس، وتركها قعيدة بيت؟

فقال له أخوه الأكبر: الحق أني لا أعرف شيئاً من خبرها وخبره معها. فالتفت إليهما أحد الجلّاس من أبناء المدينة وقال: إذا أذن لي الأمير قصصت عليه خبرها كله.

فقد تزوجت فتى من فتيان حينا يقال له أبو وداعة، ولزواجه منها قصة طريفة رواها لي بنفسه.

حكاية أبي وداعة مع سعيد بن المسيب

فقال له الأخوان: هاتها، فقال الرجل حدثني أبو وداعة قال: كنت كما تعلم ألازم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للعلم، وكنت أداوم على حلقة سعيد بن المسيب.

وأزاحم الناس عليها بالمناكب، فتغيبت عن حلقة الشيخ أياماً، فتفقدني، وظن أن بي مرضاً، أو عرض لي عارض. فسأل عني من حوله، فلم يجد عند أحد منهم خبراً.

فلما عدت إليه بعد أيام حيّاني ورحب بي، وقال: أين كنت يا أبا وداعة؟ فقلت: توفيت زوجتي، فاشتغلت بأمرها. فقال: هلا أخبرتنا يا أبا وداعة فنواسيك، ونشهد جنازتها معك، ونعينك على ما أنت فيه.

فقلت: جزاك الله خيراً وهممت أن أقوم، فاستبقاني حتى انصرف جميع من كان في المجلس، ثم قال لي: أما فكرت في استحداث زوجة لك يا أبا وداعة؟

فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني ابنته وأنا شاب نشأ يتيماً، وعاش فقيراً؟ فأنا لا أملك غير درهمين، أو ثلاثة دراهم.

فقال: أنا أزوجك ابنتي. فانعقد لساني وقلت: أنت؟ أتزوجني ابنتك بعد أن عرفت من أمري ما عرفت؟ فقال: نعم. فنحن إذا جاءنا من نرضى دينه وخلقه زوجناه، وأنت عندنا مرضي الدين والخلق.

ثم التفت إلى من كان قريباً منا وناداهم، فلما أقبلوا عليه، وصاروا عنده حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه.

وعقد لي على ابنته وجعل مهرها درهمين اثنين، فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح، ثم قصدت بيتي.

سعيد على الباب

كنت يومئذ صائماً فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة، ما الذي صنعت بنفسك؟ ممن تستدين؟ وممن تطلب المال؟

وظللت على حالي هذه حتى أذن للمغرب فأديت المكتوبة، وجلست إلى فطوري، وكان خبزاً وزيتاً، فما أن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع.

فقلت: من الطارق؟ فقال: سعيد. فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب. ذلك أنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد.

ففتحت الباب فإذا بي أمام سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: أبا محمد هلا أرسلت لي فآتيك.

فقال : بل أنت أحق بأن آتي إليك اليوم. فقلت تفضل علي، فقال: كلا، وإنما جئت لأمر، فقلت: وما هو يرحمك الله؟

فقال: إن ابنتي أصبحت زوجة لك بشرع الله منذ الغداة، وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك، فكرهت أن تبيت أنت في مكان وزوجتك في مكان آخر، فجئتك بها.

فقلت: ويحي جئتني بها؟ فقال: نعم، فنظرت فإذا هي قائمة بطولها. فالتفت إليها وقال: ادخلي إلى بيت زوجك يا بنتي على اسم الله وبركته.

فلما أرادت أن تخطو تعثرت بملاءتها من الحياء حتى كادت تسقط على الأرض. أما أنا فقد وقفت أمامها مشدوهاً لا أدري ما أقول.

زواج أبو وداعة من ابنة بن المسيب

ثم إني بادرت فسبقتها إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فنحيتها من ضوء السراج حتى لا تراها. ثم صعدت إلى السطح وناديت الجيران.

فأقبلوا علي وقالوا: ما شأنك؟ فقلت: عقد لي سعيد بن المسيب على ابنته اليوم في المسجد، وقد جاءني بها الآن على غفلة، فتعالوا آنسوها حتى أدعو أمي، فهي بعيدة الدار.

فقالت عجوز منهن: ويحك أتدري ما تقول؟ أزوجك سعيد بن المسيب ابنته، وحملها لك إلى البيت بنفسه؟ وهو الذي ضن بها على الوليد بن عبد الملك؟

فقلت: نعم، وها هي ذي عندي في بيتي. فهلموا إليها وانظروها. فتوجه الجيران إلى البيت وهم لا يكادون يصدقونني، ورحبوا بها، وآنسوا وحشتها وما هو إلا قليل حتى جاءت أمي.

فلما رأتها التفتت إلي وقالت: وجهي من وجهك حرام إن لم تتركها لي حتى أصلح شأنها، ثم أزفها إليك كما تزف كسائر النساء. فقلت: أنت وما تريدين، فضمتها إليها ثلاثة أيام، ثم زفتها إلي.

فإذا هي من أبهى نساء المدينة جمالًا، وأحفظ الناس لكتاب الله عز وجل، وأرواهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرف الناس بحقوق الزوج.

فمكثت معها أياماً لا يزورني أبوها أو أحد من أهلها، ثم إني أتيت حلقة الشيخ في المسجد، فسلمت عليه فرد علي السلام، ولم يكلمني.

فلما انفض المجلس، ولم يبق غيري قال: ما حال زوجتك يا أبا وداعة؟ فقلت: هي على ما يحب الصديق ويكره العدو، فقال: الحمد لله.

فلما عدت إلى بيتي، وجدته قد وجه إلينا مبلغاً وفيراً من المال لنستعين به على حياتنا؟

فقال ابن عبد الملك، عجيب أمر هذا الرجل، فقال له رجل من أهل المدينة: وما وجه العجب فيه أيها الأمير؟ إنه امرؤ جعل دنياه مطية لأخراه، واشترى لنفسه ولأهله الباقية بالفانية.

فوالله إنه ما ضن على ابن أمير المؤمنين بابنته، ولا رآه غير كفء لها، وإنما خاف فتنة الدنيا.

سبب رد ابن المسيب أمير المؤمنين

ولقد سأله بعض أصحابه فقال: أترد خطبة أميرالمؤمنين، وتزوج ابنتك من رجل من عامة المسلمين؟ فقال: إن ابنتي أمانة في عنقي، وقد تحريت فيما صنعته لها صلاح أمرها.

فقيل له: وكيف؟ فقال: ما ظنكم بها إذا انتقلت إلى قصور بني أمية وتقلبت بين رياشها وأثاثها وقام الخدم والجواري بين يديها. ثم وجدت نفسها بعد ذلك زوجة للخليفة، أين يصبح دينها يومئذ؟

فقال رجل من أهل الشام: يبدو أن صاحبكم طراز فريد من الناس. فقال الرجل المدني: والله ما عدوت الحق أبداً.

فهو صوّام نهار قوّام ليل، حج نحواً من أربعين حجة، وما فاتته التكبيرة الأولى في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أربعين عاماً.

ولا عرف عنه أنه نظر إلى قفا رجل في الصلاة أبداً، لمحافظته على الصف الأول

وقد كان في وسعه أن يتزوج بمن يشاء من نساء قريش، فآثر بنت أبي هريرة رضي الله عنه على سائر النساء.

وذلك لمنزلته من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وسعة روايته لحديثه، وشدة رغبته في الأخذ عنه.

ولقد نذر سعيد بن المسيب نفسه للعلم منذ نعومة أظفاره، فدخل على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وتأثر بهن.

وتتلمذ على يدي زيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وسمع من عثمان، وعلي وصهيب، وغيرهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

وتخلق بأخلاقهم، وتحلى بشمائلهم، ولقد كانت له كلمة يرددها على الدوام وهي قوله: ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصيته.

المصدر: كتاب صور من حياة التابعين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى