طاووس بن كيسان : ما كاد خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك، يلقي رحاله في أكناف البيت العتيق الحرام، لأداء مناسك الحج، ويبل أشواقه إلى الكعبة المعظمة، حتى التفت إلى حاجبه وقال:
ابتغ لنا عالماً يفقهنا في الدين ويذكرنا في هذا اليوم الأغر، من أيام الله عز وجل، فمضى الحاجب إلى وجوه أهل الموسم، وطفق يسألهم عن بغية أمير المؤمنين، فقيل له:
هذا طاووس بن كيسان سيد فقهاء عصره، وأصدقهم لهجة في الدعوة إلى الله، فعليك به.
فأقبل الحاجب على طاووس بن كيسان فقال: أجب دعوة أمير المؤمنين أيها الشيخ، فاستجاب طاووس بن كيسان له من غير ابطاء.
ذلك أنه كان يؤمن بأن على الدعاة لله تعالى، أن تعرض لهم فرصة إلا اغتنموها، وألا تسنح لهم بادرة إلا ابتدروها.
وكان يوقن أن أفضل كلمة تقال هي كلمة حق، أريد بها تقويم إعوجاج ذوي السلطان، وتجنيبهم الحيف والجور، وتقريبهم من الله تعالى.
لقاء طاووس بن كيسان وأمير المؤمنين
مضى طاووس بن كيسان مع الحاجب إلى أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك، فلما دخل على أمير المؤمنين، حياه فرد أمير المؤمنين التحية بأحسن منها.
وأكرم استقبال زائره وأدنى مجلسه، ثم أخذ يسأله عما أشكل عليه من مناسك الحج، وينصت إليه في توقير وإجلال.
فقال طاووس بن كيسان: فلما شعرت أن أمير المؤمنين قد بلغ بغيته، ولم يبقى في جعبته ما يسأل عنه، قلت في نفسي.
إن هذا المجلس لمجلس يسألك الله عنه يا طاووس، ثم توجهت إليه وقلت: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير بئر في قعر جهنم، وقد ظلت تهوي في هذه البئر، سبعين خريفاً.
حتى بلغت قرارها، أتدري لمن أعد الله هذه البئر من آبار جهنم يا أمير المؤمنين؟ فقال من غير روية: لا، وسأله: ويلك لمن أعدها؟ فقلت: أعدها الله عز وجل لمن أشركه في حكمه فجار.
فدخلت إلى سليمان لذلك رعدة ظننت معها أن روحه ستصعد من بين جنبيه، وجعل يبكي ولبكائه نشيج يقطع نياط القلوب، فتركته وانصرفت وهو يجزيني خيراً.
رسالة طاووس بن كيسان إلى عمر
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، بعث إلى طاووس بن كيسان يقول: أوصني يا أبا عبد الرحمن.
فكتب إليه طاووس رسالة في سطر واحد قال فيها: إذا أردت أن يكون عملك خيراً كله، فاستعمل أهل الخير والسلام، فلما قرأ عمر بن عبد العزيز الرسالة قال: كفى بها موعظة، كفى بها موعظة.
هشام بن عبد الملك وطاووس بن كيسان
ولما آلت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك، كانت لطاووس بن كيسان معه مواقف مشهورة مأثورة، منها أن هشام قدم البيت الحرام إلى الحج.
فلما في الحرم، قال لخاصته من أهل مكة: التمسوا لنا رجلاً من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا له: إن الصحابة يا أمير المؤمنين، قد لحقوا بربهم واحداً إثر آخر، حتى لم يبق منهم أحد.
فقال: إذاً فمن التابعين، فأوتي بالتابعي طاووس بن كيسان، فلما دخل على هشام بن عبد الملك، خلع نعليه بحاشية بساطه، وسلم عليه من غير أن يدعوه بأمير المؤمنين.
وخاطبه باسمه دون أن يكنه، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس، فاستشاط هشام غضباً، حتى بدا الغيظ في عينيه.
ذلك أنه رأى في تصرفاته تلك اجتراء عليه، ونيلاً من هيبته أمام جلسائه ورجال حاشيته، بيد أنه ما لبث أن تذكر أنه في حرم الله عز وجل.
مواعظ طاووس بن كيسان إلى هشام بن عبد الملك
فرجع إلى نفسه وقال لطاووس: ما حملك يا طاووس على ما صنعت؟ فقال طاووس: وما الذي صنعته؟
فعاد إلى الخليفة غضبه وغيظه وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، وسمتني باسمي، ولم تكنني، ثم جلست من غير اذني.
فقال طاووس بهدوء: أما خلع نعلي بحاشية بساطك، فأنا أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، فلا يعاتبني ولا يغضب علي.
وأما قولك بأني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين، فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كاذباً إذا دعوتك بأمير المؤمنين.
وأما ما أخذته علي من أني ناديتك باسمك، ولم أكنك، فإن الله عز وجل، نادى أنبياءه بأسمائهم فقال: يا داوود يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب وتب.
وأما قولك إني جلست قبل أن تأذن لي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس، وحوله قوم قيام بين يديه.
فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عد من أهل النار، فأطرق هشام بن عبد الملك رأسه إلى الأرض خجلاً، ثم رفع رأسه وقال:
عظني يا أبا عبد الرحمن، فقال طاووس: اني سمعت علي بن أبي طالب، يقول: إن في جهنم حيّات كالقلال وعقارب كالبغال، تلدغ كل راعٍ لا يعدل في رعيته، ثم قال وانصرف.
وكان طاووس يقبل على بعض أولي الأمر تذكيراً لهم وتوجيها، فكان يعرض عن بعضهم الآخر، تبكيتاً وتأنيباً.
طاووس بن كيسان في اليمن
وحدث ابن طاووس بحديث قال: خرجنا ذات سنة مع أبي حجاج من اليمن، فنزلنا في بعض المدن، وعليها عامل يقال عنه، ابن نجيح.
وكان من أخبث العمال وأكثرهم جرأة على الحق، وأشدهم إيغالاً في الباطل، فأتينا مسجد البلد، نريد أداء الصلاة.
فإذا ابن نجيح قد علم بقدوم أبي طاووس، فجاء إلى المسجد وقعد بين يديه وسلم عليه، فلم يجبه أبي وأدار به ظهره.
فأتاه عن يمينه وكلمه، فأعرض عنه، فعدل إلى يساره وكلمه، فأعرض عنه أيضاً، فلما رأيت ذلك قمت إليه ومددت يدي نحوه، وسلمت عليه وقلت له:
إن أبي لم يعرفك، فقال: بل إن أباك يعرفني، وإن معرفته بي هي التي جعلته يصنع ما رأيت، ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئاً.
فلما عدنا إلى المنزل، التفت إلي أبي وقال: يا لكع تسلق هؤلاء بألسنة حداد في غيبتهم، فإذا حضروا خضعت لهم بالقول؟ وهل النفاق غير هذا؟
مواعظ طاووس بن كيسان
وكان طاووس لا يخص الخلفاء والولاة بمواعظه، وإنما بذلها لكل من آنس به حاجة إليها، أو رغبة فيها، من ذلك ما رواه عطاء بن أبي رباح قال:
رآني طاووس بن كيسان في موقف لم يرتح له، فقال: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق في وجهك بابه، وأقام دونك حجابه، وإنما أطلبها ممن أشرع لك أبوابه، وطالبك بأن تدعوه، ووعدك بالإجابة.
وكان يقول لابنه: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم، وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال، فإنك إن صحبتهم نسبت إليهم، وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وأن غاية المرء تمام دينه وكمال خلقه.
عبد الله بن طاووس بن كيسان
وقد نشأ ابنه عبد الله بن طاووس، على ما رباه عليه أبوه، وتخلق بأخلاقه، وسار بسيرته، ومن ذلك أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور.
استدعى عبد الله بن طاووس بن كيسان، ومالك بن أنس لزيارته، فلما دخلا عليه وأخذا مجلسيهما عنده، التفت الخليفة إلى عبد الله بن طاووس وقال:
اروي لي شيئاً مما كان يحدثك به أبوك، فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة، رجل أشركه الله عز وجل ي سلطانه، فأدخل الجور في حكمه.
فقال مالك بن أنس: فلما سمعت مقالته هذه، ضممت علي ثيابي خوفاً من أن يصيبني شيء من دمه، بيد أن أبا جعفر أمسك ساعة لا يتكلم، ثم صرفنا بسلام.
وقد امتدت حياة طاووس بن كيسان، حتى بلغ المئة، أو جاوزها قليلاً، غير أن الكبر والشيخوخة لم ينالا شيئاً من صفاء ذهنه، وحدة خاطره وسرعة بديهته.
طاووس الشيخ الكبير الجليل
حدث عبد الله الشامي قال: أتيت طاووس في بيته لآخذ عنه، وأنا لا أعرفه، فلما طرقت الباب، خرج إلي شيخ كبير، فحييته وقلت: أأنت طاووس بن كيسان.
فقال: بل أنا ابنه، فقلت: إن كنت ابنه فلا آمن أين يكون الشيخ قد هرم وخرف، وإني قصدته من أماكن بعيدة لأفيد من علمه.
فقال عبد الله: ويحك، إن حملت كتاب الله لا يخرفون، أدخل عليه، فدخلت على طاووس وسلمت وقلت، لقد أتيتك طالباً علمك، راغباً في نصحك.
فقال: سل وأوجز، فقلت: سأوجز ما وسعني الإيجاز إن شاء الله، فقال: أتريد أن أجمع لك صفوة ما في التوراة والزبور والانجيل والقرآن؟
فقلت: نعم، فقال: خف الله تعالى خوفاً بحيث لا يكون شيء أخوف لك منه، وارجه رجاء أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لتنفسك.
وفاة طاووس بن كيسان في موسم الحج
وفي ليلة العاشر من ذي الحجة سنة ست ومئة، أفاض الشيخ طاووس بن كيسان، مع الحجيج من عرفات إلى المزدلفة، للمرة الأربعين.
فلما حط رحاله في رحابها الطاهرة، وأدى المغرب مع العشاء، وأسلم جنبه إلى الأرض، يلتمس شيئاً من الراحة.
أتاه اليقين، فلقيه بعيداً عن الأهل والوطن، تقرباً لله ملبياً محرماً، رجاءً لثواب الله، خارجاً من ذنوبه كما ولدته أمه بفضل الله.
فلما طلع عليه الصبح، وأرادوا دفنه، لم يتمكنوا من إخراج جنازته لكثرة ما ازدحم عليها من الناس، فوجه إليهم أمير مكة، حرساً ليذودوا الناس عن الجنازة.
حتى يتاح لهم دفنها، وقد صلى عليه خلق كثير، لا يحصي عددهم إلا الله، وكان في جملة المصلين، خليفة المسلمين، هشام بن عبد الملك.