أقسمت يا نفس لتنزلن، لتنزلن أو لتكرهن، مالي أراكِ تكرهين الجنة، هل أنت إلا نطفة في شنة، وضع هذا النشيد الملتهب بشتى المشاعر، نهاية الصحابي عبد الله بن رواحة ، وختم آخر فصل من فصول سيرته الحافلة بالبطولات، والغنية بالمآثر والمفاخر، المشرقة بنور التقى وألق العبادة.
قصة اسلام عبد الله بن رواحة
كان عبد الله بن رواحة لما أهل نور النبوة على مكة، شاعر فحل من شعراء يثرب، وسيد مرموق من سادات الخزرج، فما إن بلغته دعوى الهدى والحق، حتى شرح الله صدره إلى الإسلام.
فوضع أسنانه ولسانه، في طاعة الله عز وجل، ومرضاة رسوله الكريم، ولقد نافح عن النبي الكريم، بشعره أعظم المنافحة وأقواها.
ذكر الصحابي الشاعر عبد الله بن رواحة في القرآن
وزاد عن دعوته ببيانه أصدق الذود وأنجعه، فأنزل الله فيه وفي صاحبيه حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، الاستثناء الخاص بالشعراء المؤمنين وأخيارهم.
فقال جل شأنه: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترى أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون)
ثم استثنى الله سبحانه كل من عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك، فقال جل شأنه:
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)
فهل هناك أكرم وأعز من أن ينزل الله في شأن امرئ قرآن، وأن يتلى النعت التابع له، الذي نعته الله به، آناء الليل وأطراف النهار، وأن تستمر تلاوته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
بيعة العقبة واسلام عبد الله بن رواحة
شهد عبد الله بن رواحة، بيعة العقبة، وجعله النبي الكريم، أحد النقباء الذين أمرهم على قومهم، فنعم المؤمر ونعم الأمير.
ومنذ أسلم الشاعر عبد الله بن رواحة، عزم على أن يجعل كل حياته في طاعة الله، فقضى جميع عمره وهو عابد ومجاهد، يقوم الليل ويصوم النهار.
وقال عنه أبي الدرداء رضي الله عنه: لقد رأيتنا مع النبي عليه الصلاة والسلام، في بعض أسفاره في يوم شديد الحر.
حتى إن الرجل لا يضع فوق رأسه من شدة الحر، وما في القوم صائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة.
المعارك التي شهدها عبد الله بن رواحة
وقد شهد عبد الله بن رواحة، مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، موقعة بدر، وأحد والخندق والحديبية وخيبر، فكانت أكرم الأيام وأعظم المواقف.
معركة بلاد الشام ضد الروم في مؤتة
وفي سنة ثمان للهجرة بعث الرسول الكريم، بثلاثة آلاف من جند المسلمين، إلى بلاد الشام لقتال الروم، وقد أمّر على الجيش مولاه زيد بن حارثة وقال:
إن قتل أو أصيب زيد، فقائد الجيش جعفر بن أبي طالب، فإن قتل أو أصيب جعفر، فقائد الجيش عبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب، فليختر المسلمين رجلاً منهم يجعلونه أميراً عليهم.
ولما همّ جيش المسلمين بمغادرة المدينة، جعل أهل المدينة يودعون جنود المسلمين عامة، ويخصون الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وداع أهل المدينة لجيش المسلمين
فلما ودعوا عبد الله بن رواحة، جعل يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟ قال: والله ما يبكيني حب الدنيا، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار، حيث يقول عز وجل:
(وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا) فأيقنت بالورود ولكني لست أدري بعده بالصدر، أي بالرجوع.
ولما تحرك الجيش قال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلى أهليكم، فعندما سمع عبد الله بن رواحة بأن يردوا إلى أهليهم، حتى أنشأ يقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبد
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبد
حتى يقال إذا مرو على جدثي أرشده الله من غاز وقد رشدا
ولما فصل الجيش عن المدينة، كان عبد الله بن رواحة، يردف وراءه فتى يتيم يعيش في حجره، هو زيد بن أرقم، فسمعه الفتى زيد، عبد الله بن رواحة يخاطب ناقته قائلاً:
إن أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاكِ ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي
فبكى الفتى لقوله هذا، فخفقه بن رواحة بالدرة وقال: ما عليك يا لكع ان يرزقني الله الشهادة، وترجع أنت على رحلي هذا إلى المدينة.
وصول جيش المسلمين إلى معان
ولما بلغ المسلمين أرض معان في الأردن، عرفوا أن ملك الروم نزل في منطقة البلقاء، غير بعيد عنهم، ومعه مئة ألف مقاتل من الروم.
ومعهم مثلهم من نصارى العرب من قبائل لخم وجذام وقضاعة وغيرها، أقام المسلمين في معان ليلتين، وطفقوا يوازنون بين عددهم القليل، وعدد عدوهم الروم الكثير.
وقالوا: نكتب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ونوقفه على الأمر، ثم نمضي إلى ما أمرنا به.
فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم إن التي تطلبون قد أدركتموها، أي الشهادة، ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا لله به، فانطلقوا، فهي إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة.
معركة مؤتة
فاستجاب الجيش إلى ما قاله بن رواحة، وشرع يعد العدة للقاء الروم، وفي اليوم التالي، نهد الألاف الثلاثة للقاء مئتي ألف، والتقى الجمعان عند قرية مؤتة.
استشهاد زيد بن حارثة
كان يتقدم جيش المسلمين زيد بن حارثة، وهو يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يقاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر، ورماح الروم تنهل من صدره.
استشهاد جعفر بن أبي طالب
تناول الراية جعفر بن أبي طالب، أخو علي رضوان الله عليهما، وصنوه في الشجاعة والبأس، وخاض المعركة كما لم يخضها أحد غيره.
فلما حمي الوطيس واشتدت وطأة الروم على المسلمين، وثب عن فرسه وعقر قوائمها بسيفه، وأوغل في صفوف الروم، وهو ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ثم اندفع يجول بسيف يمنة ويسرة، حتى قطعت يمينه فتناول الراية بشماله، ومضى يقاتل حتى قطعت شماله، فأخذ الراية بصدره وعضديه، ثم مازال يجالد حتى قتل.
استشهاد عبد الله بن رواحة
عند ذلك تقدم عبد الله بن رواحة وتناول الراية، بعد أن رأى مصرع صاحبيه عن كثب، فجعل يخاطب نفسه قائلاً:
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتي إن تفعلي فعلهما هديتي
ثم نظر إلى زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وهما مضرجين بدمائهما، فهابت نفسه الموقف بعض الهيبة.
وتردد بعض التردد فأهاب بها قائلاً:
اقسمت يا نفس لتنزلن لتنزلن أو لتكرهن
مالي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنة
وحمل الراية ونزل إلى ساحة المعركة، وهنا جاء بن عم له بعظم عليه شيء من اللحم، وقال له: شد بهذا صلبك فأنت لم تطعم شيئاً منذ ثلاث.
فأخذ العظم من يد ونهس منه بأطراف أسنانه، غير أنه ما لبث أن رأى مصارع المسلمين أمامه، فقال:
بئس الرجل أنت يا بن رواحة يقع هذا كله وأنت تأكل الطعام
ثم ألقى العظم من يده، وجرد سيفه وأوغل في صفوف الروم، لا يلوي على شيء، ثم إنه ما زال يقاتل، حتى هوى شهيداً.
رحم الله عبد الله بن رواحة، وصدق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة.