إسلامشخصيات

عروة بن الزبير حياته وخصاله

قصة عروة بن الزبير في كرمه وصبره :

ما كادت شمس الأصيل تلملم خيوطها الذهبية عن بيت الله الحرام وتأذن للنسمات الندية بأن تتردد في رحابه الطاهرة.

حتى شرع الطائفون بالبيت من بقايا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين، يعطرون الأجواء بالتهليل والتكبير ويترعون الأرجاء بصالح الدعاء.

وحتى أخذ الناس يتحلقون زمراً زمراً حول الكعبة المعظمة الرابضة وسط البيت في مهابة وجلال.

ويملأون عيونهم من بهائها الأسنى ويديرون بينهم أحاديث لا لغو فيها ولا تأثيم.

عروة بن الزبير والأمراء الثلاثة

وبالقرب من الركن اليماني جلس أربعة فتيان صباح الوجوه كرام الأحساب معطري الأردان، كأنهم بعض حمامات المسجد نصاعة أثواب وألفة قلوب.

عروة بن الزبير والأمراء الثلاثة

هم عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب بن الزبير وأخوهما عروة بن الزبير وعبد الملك بن مروان [1].

ودار الحديث رهواً بين الفتية الأبرار ثم ما لبث أن قال قائل منهم: ليتمن كل منا على الله ما يحب.

فانطلقت أخيلتهم تحلق في عالم الغيب الرحب ومضت أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر.

ثم قال عبد الله بن الزبير: أمنيتي أن أملك الحجاز وأن أنال الخلافة وقال أخوه مصعب: أما أنا فأتمنى أن أملك العراقين فلا ينازعني فيهما منازع.

وقال عبد الملك بن مروان: إذا كنتما تقنعان بذاك فأنا لا أقنع إلا بأن أملك الأرض كلها وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان.

وسكت عروة بن الزبير فلم يقل شيئاً، فالتفوا إليه وقالوا: وأنت ماذا تتمنى يا عروة؟ فقال: بارك الله لكم فيما تمنيتم من أمر دنياكم.

أما أنا فأتمنى أن أكون عالماً عاملاً يأخذ الناس عني كتاب ربهم وسنة نبيهم وأحكام دينهم وأن أفوز في الآخرة برضى الله وأحظى بجنته.

ثم دارت الأيام دورتها فإذا بعبد الله بن الزبير يبايع له بالخلافة عقب موت يزيد بن معاوية فيحكم الحجاز ومصر واليمن وخراسان والعراق.

ثم يقتل عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنى فيه ما تمنى.

وإذا بمصعب بن الزبير يتولى إمرة العراق من قبل أخيه عبد الله ويقتل هو الآخر دون ولايته أيضاً.

وإذا بعبد الملك بن مروان تؤول إليه الخلافة بعد موت أبيه وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد مقتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب على أيدي جنوده ويغدو أعظم ملوك الدنيا في زمانه.

فما كان من أمر عروة بن الزبير؟ تعالوا نبدأ قصته من أولها.

نشأة عروة بن الزبير

ولد عروة بن الزبير لسنة واحدة بقيت من خلافة الفاروق رضوان الله عليه في بيت من أعز بيوت المسلمين شأناً وأرفعها مقاماً.

فأبوه هو الزبير بن العوام حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من سل سيفاً في الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

وأمه هي أسماء بنت أبي بكر الملقبة بذات النطاقين، وجده لأمه هو أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.

وجدته لأبيه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالته هي أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها.

فقد نزل إلى قبرها حين دفنت بنفسه وسوى عليها لحدها بيديه، أفتظن أن بعد هذا الحسب حسباً وأن فوق هذا الشرف شرفاً غير شرف الإيمان وعزة الإسلام؟

سعي عروة بن الزبير لتحقيق الأمنية

ولكي يحقق عروة أمنيته التي تمناها على الله عند الكعبة المعظمة، أكب على طلب العلم وانقطع له، واغتنم البقية الباقية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فطفق يؤم بيوتهم ويصلي خلفهم ويتتبع مجالسهم حتى روى عن علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري.

وأسامة بن زيد وسعيد بن زيد وأبي هريرة وعبد الله بن عباس والنعمان بن بشير، وأخذ كثيراً عن خالته عائشة أم المؤمنين.

حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم ويستعين بهم الولاة الصالحون على ما استرعاهم الله جل وعز من أمر العباد والبلاد.

من ذلك أن عمر بن عبد العزيز حين قدم المدينة والياً عليها من قبل الوليد بن عبد الملك جاءه الناس فسلموا عليه.

فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة وعلى رأسهم عروة بن الزبير، فلما صاروا عنده رحب بهم وأكرم مجالسهم.

ثم حمد الله جل وعز وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون لي فيه أعواناً على الحق.

فأنا لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى على أحد أو بلغكم عن عامل لي مظلمة فأسألكم بالله أن تبلغوني ذلك.

فدعا عروة بن الزبير بخير ورجا له من الله السداد والرشاد.

اجتهاده في قراءة القرآن

وقد جمع عروة بن الزبير العلم إلى العمل فقد كان صواماً في الهواجر قواماً في العتمات، رطب اللسان دائماً بذكر الله تعالى.

وكان إلى ذلك خديناً لكتاب الله جل وعز عاكفاً على تلاوته، فكان يقرأ القرآن كل نهار نظراً في المصحف ثم يقوم به الليل تلاوة عن ظهر قلب.

ولم يعرف عنه أنه ترك ذلك منذ صدر شبابه إلى يوم وفاته غير مرة واحدة لخطب نزل به سيأتينا نبؤه بعد قليل.

إحسانه في الصلاة

ولقد كان عروة بن الزبير يجد في الصلاة راحة نفسه وقرة عينه وجنته على الأرض فيحسنها كل الإحسان ويتقن شعائرها أتم الإتقان ويطيلها غاية الطول.

روي عنه أنه رأى رجلاً يصلي صلاة خفيفة، فلما فرغ من صلاته دعاه إليه وقال له: يا ابن أخي أما كانت لك عند ربك جل وعز حاجة؟

والله إني لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كل شيء حتى الملح.

كرم عروة بن الزبير

وقد كان عروة بن الزبير رضوان الله عليه سخي اليد سمحاً جواداً.

ومما أثر عن جوده أنه كان له بستان من أعظم بساتين المدينة عذب المياه ظليل الأشجار باسق النخيل. وكان يسور بستانه طوال العام لحماية أشجاره من أذى الماشية وعبث الصبية.

حتى إذا آن أوان الرطب وأينعت الثمار وطابت واشتهتها النفوس، كسر حائط بستانه في أكثر من جهة ليجيز للناس من دخوله.

فكانوا يلمون به ذاهبين آيبين ويأكلون من ثمره ما لذ لهم الأكل ويحملون منه ما طاب لهم الحمل وكان كلما دخل بستانه هذا ردد قول الله جل وعز:

وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ

المحن التي أصابت عروة بن الزبير

وفي ذات سنة من خلافة الوليد بن عبد الملك شاء الله جل وعز أن يمتحن عروة بن الزبير امتحاناً لا يثبت له إلا ذوو الأفئدة التي عمرها الإيمان وأترعها اليقين.

فلقد دعا خليفة المسلمين عروة بن الزبير لزيارته في دمشق فلبى دعوته وصحب معه أكبر بنيه.

ولما قدم على الخليفة رحب بمقدمه أعظم الترحيب وأكرم وفادته أوفى الإكرام وبالغ في الحفاوة به، ثم شاء الله سبحانه بأن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

ذلك أن ابن عروة دخل على إصطبل الوليد ليتفرج على جياده الصافنات فرمحته دابة رمحة قاضية أودت بحياته.

إصابته بالآكلة

ولم يكد الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده حتى أصابت إحدى قدميه الآكلة، فتورمت ساقه وجعل الورم يشتد ويمتد بسرعة مذهلة.

فاستدعى الخليفة لضيفه الأطباء من كل جهة وحضهم على معالجته بأي وسيلة. لكن الأطباء أجمعوا على أنه لا مفر من بتر ساق عروة قبل أن يسري الورم إلى جسده كله.

فلم يجد بداً من الإذعان لذلك، ولما حضر الجراح لبتر الساق وأحضر معه مباضعه لشق اللحم ومناشيره لنشر العظم.

ماذا قال الطبيب لعروة بن الزبير

قال الطبيب لعروة: أرى أن نسقيك جرعة من مسكر لكي لا تشعر بآلام البتر المبرحة.

فقال: هيهات. لا أستعين بحرام على ما أرجوه من العافية. فقال له : إذن نسقيك المخدر فقال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي دون أن أشعر بألمه وأحتسب ذلك عند الله

ولما هم الجراح بقطع الساق تقدم نحو عروة طائفة من الرجال، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل له: لقد جيء بهم ليمسكوك فلربما اشتد عليك الألم فجذبت قدمك جذبة أضرت بك.

فقال: ردوهم لا حاجة لي بهم وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك بالذكر والتسبيح، ثم أقبل عليه الطبيب فقطع اللحم بالمبضع ولما بلغ العظم وضع عليه المنشار وطفق ينشره به.

وعروة يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر. وما فتئ الجراح ينشر وعروة يهلل ويكبر حتى بترت الساق بترا.

ثم أغلي الزيت في مغارف الحديد وغمست به ساق عروة لإيقاف تدفق الدماء وحسم الجراح.

فأغمي عليه إغماءة طويلة حالت دونه ودون أن يقرأ حصته من كتاب الله في ذلك اليوم. وكانت المرة الوحيدة التي فاته فيها ذلك الخير منذ صدر شبابه.

ولما صحا عروة دعا بقدمه المبتورة فناولوه إياها فجعل يقلبها بيده وهو يقول: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام قط.

ثم تمثل بأبيات لمعن بن أوس يقول فيها:

لعمرك ما أهويت كفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي

حكاية الرجل الضرير

قد شقَّ على الوليد بن عبد الملك ما نزل بِضَيفه الكبير من النوازل، فقد احْتسَب ابنه، وفقَدَ ساقهُ في أيَّام معدودات، فجعل يحتال لِتَعْزيَتِهِ وتصبيره على ما أصابه.

وصادف أن نزلَ بِدَار الخلافة جماعةٌ من بني عبسٍ فيهم رجلٌ ضرير، فسأله الوليد عن سبب كفّ بصره، فقال:

يا أمير المؤمنين، كان عمر إذا أصابتْهُ مصيبة لم يكن في بني عبْس رجلٌ أوْفَرُ مِنِّي مالاً، ولا أكثر أهلاً وولدًا.

فنزلْتُ مع مالي وعِيالي في بطْن واد من منازل قومي، فطرقنا سيْلٌ لم نرَ مثلهُ قطّ، فذهبَ السَّيل بما كان لي من مالٍ وأهل وولدٍ‍‍.

ولم يترك لي غير بعيرٍ واحد، وطفلٍ صغير حديث الولادة، وكان البعير صعباً فندَّ مِنشي، فتركْتُ الصبي على الأرض، ولَحِقْت بالبعير،

فلم أُجاوِز مكاني قليلاً حتى سمِعْت صَيْحة الطِّفل، فالْتَفَتُّ فإذا رأسهُ في فم ذئبٍ وهو يأكله، فبادرتُ إليه غير أني لم أستطع إنقاذهُ، إذ كان قد أتى عليه.

ولحقت بالبعير فلما دنوت منه، رماني برجلهِ على وجهي رميةً حطَمت جبيني، وذهبتْ بِبصري، وهكذا وجدْت نفسي قد غدوت في ليلة واحدة من غير أهل، ولا ولد، ولا مالٍ، ولا بصر.

فقال الوليد لحاجبه: انطلق بهذا الرجل إلى ضَيْفنا عروة بن الزبير، ولْيقصَّ عليه قصته؛ ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً.

صبره على ما ابتلاه

ولما حمل عروة بن الزبير إلى المدينة وأدخل على أهله بادرهم قائلاً: لا يهولنكم ما ترون فلقد وهبني الله عز وجل أربعة من البنين ثم أخذ منهم واحداً وأبقى لي ثلاثة، فله الحمد.

وأعطاني أربعة من الأطراف ثم أخذ منها واحداً وأبقى لي ثلاثة فله الحمد.

وأيم الله لئن أخذ الله مني قليلاً فلقد أبقى لي كثيراً ولئن ابتلاني مرة فلطالما عافاني مرات.

ولما عرف أهل المدينة بوصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير تسايلوا على بيته ليواسوا ويعزوا فكان من أحسن ما عزي به كلمة إبراهيم بن محمد بن طلحة حيث قال له:

أبشر يا أبا عبد الله قد سبقك عضو من أعضائك وولد من أبنائك إلى الجنة والكل يتبع البعض إن شاء الله تعالى.

ولقد أبقى الله لنا منك ما نحن إليه فقراء وعنه غير أغنياء من علمك وفقهك ورأيك، نفعك الله وإيانا به، والله ولي ثوابك والضمين بحسن حسابك.

نصائحه لأولاده عن العلم

ظل عروة بن الزبير للمسلمين منارة منارة هدى ودليل فلاح وداعية خير طوال حياته.

ولقد اهْتمَّ بأكثر ما اهتم بتربية أولاده خاصة، وسائر أبناء المسلمين عامة، فلم يترك فرصة لتوجيههم إلا اغتنمها ولم يدع سانحة لنصحهم إلا أفاد منها.

من ذلك أنه دأب على حض بنيه على طلب العلم إذ كان يقول لهم:

يا بنيّ، تعلَموا العلم، وابْذُلوا له حقَّه، فإنّكم إن تكونوا صِغارَ قوم، فعسى أن يجعلكم الله بالعلم كبراءهم. ثم يقول: واسَوْأتاه هل في الدنيا شيءٌ أقْبحُ من شيخ جاهل؟

وكان يدعوهم إلى عد الصدقة هدية تُهدى لله عز وجل فيقول: يا بنيّ، لا يَهْدِينَّ أحدكم إلى ربِّه ما يسْتحيي أن يُهْدِيَهُ إلى عزيز قومه.

فإن الله تعالى أعز الأعزاء، وأكرم الكرام، وأحقّ من يُختار له.

وكان يبصرهم بالناس وينفذ بهم إلى جوهرهم فيقول: يا بنيّ، إذا رأيتم من رجل فعلةَ خير رائعة فأمِّلوا به خيراً، ولو كان في نظر الناس رجل سوء فإن لها عنده منها أخوات.

وإذا رأيتم من رجل فِعلةَ شر فظيعة فاحذروه، وإن كان في نظر الناس رجل خير، فإن لها عنده أخوات أيضاً.

واعلموا أن الحسنة تدل على أخواتها، وأن السيئة تدل على أخواتها أيضا.

وكان يوصيهم بلين الجانب، وطيب الكلام، وبِشْر الوجه، فيقول: يا بني، مكتوب في الحكمة لِتكن كلمتك طيبة، ووجهك طلقاً، تكن أحب إلى الناس مِمن يبذل لهم العطاء.

نصائحه للناس للزهد في الدنيا

وكان إذا رأى الناس يجنحون إلى الترف، ويستمرئون النعيم، يُذكرهم بما كان عليه رسول الله من شظف العيش، وخشونة الحياة.

قال محمد بن المنكدر: لقيني عروة بن الزبير فأخذ بيدي وقال: يا أبا عبدالله، فقلت: لبيك، فقال: دخلت على أمي عائشةَ رضي الله عنها فقَالت: يا بني، فقلت: لبيك.

فقالت: والله إِن كنا لنمكث أربعين ليلة ما نوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنار مصباحاً ولا غيره.

فقلت: يا أم فيما كنتم تعيشون؟ فقالت: بالأسودين، التمر والماء.

وبعد فقد عاش عروة بن الزبير واحداً وسبعين عاماً مترعة بالخير حافلة بالبر مكللة بالتقى، فلما جاءه الأجل المحتوم أدركه وهو صائم.

ولقد ألح عليه أهله بأن يفطر فأبى. لقد أبى لأنه كان يرجو أن يكون فطره على شربة من نهر الكوثر في قوارير من فضة بأيدي الحور العين.

المصدر: صور من حياة التابعين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى