في يوم من أيام معركة بدر، كان عمير بن وهب الجمحي، واحداً من قادة قريش الذين حملوا سيوفهم ليجهزوا على الإسلام، وكان حديد البصر محكم التقدير.
ومن ثم ندبه قومه ليستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للقائهم، ولينظر إن كان لهم من ورائهم كمين أو مدد.
انطلق عمير وصال بفرسه حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه، إنهم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون، وكان حدسه صحيحاً.
وسألوه هل وراءهم امتداد لهم، فأجابهم قائلاً: لم أجد وراءهم شيئاً، ولكن يامعشر قريش، رأيت المطايا تحمل الموت الناقع.
قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك، فانظروا رأيكم.
تأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء قريش، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون إلى مكة بغير قتال، لولا أبي جهل الذي أفسد عليهم رأيهم، وأضرم في النفوس نار الحقد، ونار الحرب التي كان وهو أول قتلاها.
شيطان قريش عمير بن وهب
كان أهل مكة يلقبون عمير بشيطان قريش، ولقد أبلى شيطان قريش يوم معركة بدر بلاءً لم يغن قومه شيئاً، فعادت قوات قريش إلى مكة مهزومة مدحورة.
وخلف عمير بن وهب في المدينة بضعة منه، إذ وقع ابنه في أيدي المسلمين أسيراً، وذات يوم جلس عمير إلى صفوان بن أمية، وقد فقد الثاني أباه أمية بن خلف، يجتران أحقادهما.
قال صفوان، وهو يذكر قتلى معركة بدر: والله ما في العيش بعدهم من خير، فقال عمير: صدقت، ووالله لولا دين علي لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله.
فإن لي عنده علة أعتل بها عليه، أقول قدمت من أجل ابني الأسير، فاغتنمها صفوان وقال لعمير: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، فقال له عمير: إذاً فاكتم شأني وشأنك،.
إسلام عمير بن وهب
جهز عمير بن وهب سيفه وشحذه، ومن ثم رحل إلى المدينة حتى قدمها، وبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين، يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به.
إذ نظر عمر بن الخطاب فرأى عمير بن وهب، قد أناخ راحلته على باب المسجد، متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، فهو الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحاً سيفه، قال صلى الله عليه وسلم: أدخله علي.
فأقبل عمر بن الخطاب على عمير بن وهب، حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، ثم جمع ثيابه عند صدره بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار:
دخوله على رسول الله
ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بحمالة سيفه في عنقه.
فلما رآه الرسول قال: دعه يا عمر، أدن يا عمير، فدنا عمير وقال: أنعموا صباحاً، وهي تحية الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة.
فقال عمير: أما والله ما محمد، إن كنت بها لحديث عهد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي بين أيديكم.
قال النبي: فما بال السيف في عنقك؟ قال عمير: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقني يا عمير ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت، لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً.
فتحمل لك صفوان دينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، عندئذ صاح عمير وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله ما أنبأك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، فقال الرسول لأصحابه: فقهوا أخاكم في الدين، وأقرئوه القرآن وأطلقوا أسيره.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحب إلي من عمير حين طلع علينا، ولهو اليوم أحب إلي من بعض ولدي.
عودة عمير بن وهب إلى مكة
وفي لحظات عرف عمير واجبه تجاه هذا الدين، بأن يخدمه بقدر ما حاربه، وأن يدعو إليه بقدر ما دعا ضده، وهكذا أقبل على رسول الله ذات يوم قائلاً:
يا رسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة>
فأدعوهم إلى الله تعالى ورسوله والإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم.
خروجه للمدينة
وفي تلك الأيام ومنذ فارق عمير مكة متوجهاً إلى المدينة، كان صفوان بن أمية الذي أغرى عمير بالخروج لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في شوارع مكة.
مختالاً ويمر على مجالسها وندواتها فرحاً، وإذا سئل عن سبب فرحه، كان يفرك كفيه في غرور ويقول: أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام، تنسيكم معركة بدر، وبقي على ذلك حتى علم أن عمير قد أسلم.
وذات يوم عاد عمير إلى مكة شاهراً سيفه متحفزاً للقتال، ولقيه أول ما لقيه صفوان بن أمية، وما كاد يراه حتى هم بمهاجمته، ولكنه لم يفعل واكتفى بالشتائم وذهب عنه.
عاد عمير مسلماً إلى مكة وقد صاح فور إسلامه قائلا:ً والله لا أدع مكاناً جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، وصمم على نذر حياته للدين الذي طالما حاربه.
وأخذ عمير يبشر بالإسلام ليل نهار علانية وجهاراً، وفي قلبه إيمان يفيض أمناً وهدى ونور، وعلى لسانه كلمات حق يدعو بها.
وفي بضعة أسابيع كان الذين هدوا إلى الإسلام على يد عمير بن وهب، يفوق عددهم كل تقدير يمكن أن يخطر ببال، وخرج بهم عمير إلى المدينة في موكب مشرق.
وهذا كان نبأ شيطان قريش الذي أحالته هداية الله إلى حواري باسل من حواري الإسلام، وظل واقفاً إلى جوار رسول الله في الغزوات والمشاهد، حتى رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم فتح مكة لم ينس عمير صاحبه وقريبه صفوان، فذهب إليه يدعوه إلى الإسلام، بيد أن صفوان كان قد شد رحاله إلى جدة ومنها إلى اليمن عبر البحر، ولكن عمير صمم على استرداد صفوان من يد الشيطان.
ذهابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فذهب مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه صلى الله عليك. فأمنه.
وخرج عمير إلى صفوان في البحر يدعوه للعودة، ولكنه خاف على نفسه من أن يؤذى، فأمنه عمير بن وهب بأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع معه حتى وقف به أمام النبي الكريم.
قال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدق، قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين، قال صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار أربعة أشهر.
وفيما بعد أسلم صفوان وسعد عمير بإسلامه، وواصل ابن وهب مسيرته المباركة إلى الله، متبعاً أثر الرسول العظيم، الذي هدى الله به الناس من الضلالة وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
المصدر