إسلامشخصيات

قصة سعيد بن جبير والحجاج


الشيخ سعيد الكملي

سعيد بن جبير هو الإمام الحافظ الفقيه المحدث المقرئ المفسر التابعي الشهيد، أبو محمد وأبو عبد الله الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي.

كان أسود اللون حبشي الأصل، ولازم ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه فأكثر عنه. وروى عن عائشة وعن أبي هريرة وعن أبي موسى الأشعري وعن عدي بن حاتم وعن غيرهم.

كثرة تعبد سعيد بن جبير

وكان عالماً واسع العلم، بل قال بعض من ترجم له: كان أعلم التابعين على الإطلاق، وكان يقال أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس.

وأعلمهم بالتفسير مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير . وكان رحمه الله عابداً مجتهداً في العبادة كثير العبادة.

كان في كل عام يحرم مرتين، مرة في الحج ومرة في العمرة، كل سنة. وكان كثير الصلاة بالليل فإذا صلى بالليل بكى، فما زال ذلك دأبه حتى عمشت عيناه.

وقام ليلة في الكعبة، فصلى في ركعتين، قرأ فيهما القرآن كله.

وقرأ ليلة في صلاة الليل بآية من كتاب الله يرددها، قول ربنا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )، يرددها حتى قام بها ليلته كلها.

وكان له ديك، إذا صاح الديك ليلاً قام سعيد بصياح الديك فيصلي ما كتب الله له أن يصلي، وفي ليلة لم يصح ذلك الديك، فلم يستيقظ سعيد بن جبير حتى أصبح.

فشق ذلك عليه أن فاتته الصلاة بالليل، فقال: ما شأن ذلك الديك؟ ما له؟ قطع الله صوته. فما سُمع له صوت بعدها. فقالت أمه له: يا بني لا تدعو على شيء بعدها.

وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي.

سعة علمه

 وكان طلّابة للعمل، كان إذا أتى ابن عباس قال: كنت آتي ابن عباس فأكتب في لوحي حتى أملأه، ثم أكتب في كفي حتى أملأها، ثم أكتب في نعلي حتى أملأها.

ولذلك كان ابن عباس إذا جاءه أهل الكوفة يستفتونه، قال لهم: اتستفتوني وفيكم بن أم دهماء؟ يقصد سعيد بن جبير .

وقال ابن عباس مرة لسعيد بن جبير: قم فحدّث الناس. قال: أحدث وأنت هاهنا؟ فقال له ابن عباس: أليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد؟ فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت فعلمتك.

وأصابه يوماً سواد من قدر، قدر عندهم في الدار كان يطبخ فيه شيء، فأنظر فيه سعيد بن جبير فأصابه سواد من ذلك القدر، ولم يشعر بالسواد الذي أصابه.

فرأته ابنته ورأت السواد، فقالت له: ما هذا الذي بوجهك؟ فأغمي عليه. فلما أفاق قيل له: ما شأنك؟ قال: خشيت أن يكون الله سوّد وجهي قبل الآخرة.

تأويله رؤيا عبد الملك بن مروان

وكان رحمه الله عالماً بتأويل الرؤيا، قال له مرة الخليفة عبد الملك بن مروان، يقص له رؤيا قال: إني رأيت كأني أبول في المحراب أربع مرات.

فقال له سعيد بن جبير : يملك من ولدك لصلبك أربعة، وكذلك كان. فقد ملك بعده ابنه الوليد، ثم سليمان، ثم هشام، ثم يزيد.

فتنة القرّاء وقيامه على الحجاج

وشهد سعيد بن جبير الفتنة المعروفة عند المؤرخين بفتنة القراء، هذه الفتنة التي كان خرج فيها عبد الرحمن بن الأشعث البصري.

خرج على الحجاج، وخرج معه أهل البصرة، ومعهم العبّاد والقرّاء والفقهاء والمحدثون. واجتمع لعبد الرحمن جيش عظيم، وكانت بداية خروجهم على الحجاج سنة 81.

فخرج معه سعيد بن جبير وحضر معه وقعاته كلها، وحضر معه وقعة دير الجماجم وهذه مشهورة جداً، واستحرّ القتال بينهم إلى سنة 83.

والتقوا الحجاج ما يقرب من تسعين وقعة، أكثرها كانت على الحجاج، إلا الأخيرة كانت له.

وقتل مع عبد الرحمن بن الأشعث كثير من الفقهاء، وفرّ كثير منهم. قتل معه أبو البختري الطائي مولاه، وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفرّ سعيد بن جبير .

وفر الشعبي، وفر مطرف بن عبد الله بن الشخير، ومكث سعيد بن جبير فاراً أكثر من 12 سنة وهو فار من الحجاج.

حبسه لدى الحجاج

في سنة 94 ولّي خالد بن عبد الله القسري مكة، وكان سعيد بن جبير مختبئاً فيها، فقال له أحد أصحابه واسمه ابن حصين: إن هذا الرجل قادم ولا آمنه عليك، فاطعني واخرج.

فقال له سعيد بن جبير : لقد فررت حتى استحييت من الله. فجاء خالد بن عبد الله القسري مكة، فأخذ سعيد بن جبير ، وبعث به إلى الحجاج.

لما أخذ سعيد، قال لبعض من كان معه: ما أراني إلا مقتولاً، وذلك أني كنت أنا وصاحبان لي قد دعونا الله لما وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة فرزقها صاحبي، وأنا انتظرها.

ثم لما بلغ العراق، وأدخل سجن الحجاج، رآه أحدهم فبكى. فقال له سعيد بن جبير : ما يبكيك؟ قال أبكي لما أصابك. قال: لا تبكي فقد سبق في علم الله أن هذا يكون. ثم قرأ قول ربنا:

( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها )

ودخل عليهم إما الأعمش أو الشعبي، وهما في السجن. فقال لهم: أتى بكم شرطي من مكة. أفلا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟ فقال له سعيد بن جبير : فمن كان يسقه إذا عطش؟

محكمة الحجاج لمن خرج عليه

كان الحجاج إذا أدخل عليه بعض هؤلاء الذين كانوا خرجوا مع عبد الرحمن بن الأشعث، كان يسألهم يقررهم بالكفر، يقول لهم: أكفرت بخروجك علينا؟

فإن أقر على نفسه بالكفر، أطلقه. وإن جحد الكفر، وأبى أن يقر على نفسه الكفر، ضرب عنقه.

فأدخل على الحجاج سعيد بن جبير وطائفة. فقدّم إليه شاب وشيخ، فقال للشاب: أكفرت بخروجك علينا؟ قال: نعم. فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى لنفسه بالكفر.

فالتفت الشيخ إلى الحجاج وقال له: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو كان شيء أعظم من الكفر لرضيت به. فقال: أطلقه.

ثم قدّم إليه رجلان، فقال لأولهما: على دين من أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين. فقال: اضربوا عنقه.

ثم أوتي بالقاني فقال له: على دين من أنت؟ فقال: على دين أبيك الشيخ يوسف. فقال له الحجاج: أما والله قد علمته صواماً قواماً، أرسلوه.

فلما أطلقوه، التفت هذا الذي أطلق إلى الحجاج، فقال له: قد سألت صاحبي على دين من أنت، فقال على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فأمرت به فضربت عنقه.

ثم سألتني فقلت على دين من أنت؟ فقلت لك على دين أبيك الشيخ يوسف.

والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفى. فقال: اضربوا عنقه.

ثم قّدم إليه الشعبي، فقال له: أمؤمن أنت أم كافر؟ فقال الشعبي: أصلح الله الأمير، أجدب بنا الجناب، ونبا بنا المنزل، واكتحلنا السهر، وهبطتنا فتنة، لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.

فقال له الحجاج: صدق والله، ما بروا بخروجهم علينا ولا قووا، خلوا عنه.

ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله بن شخير، فقال له: أمؤمن أنت أم كافر؟ فقال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، ونكث البيعة وفارق الجماعة، وروع المسلمين لجدير بالكفر. فقال الحجاج: صدق خلوا عنه.

قتل الحجاج سعيد بن جبير

ثم قدّم إليه سعيد بن جبير ، فقال: أنت سعيد بن جبير ؟ قال: نعم. قال: بل أنت شقي بن كسير. فقال سعيد: أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال له الحجاج: شقيت وشقيت أمك.

فقال سعيد: الشقاء لأهل النار. فقال له الحجاج: أمؤمن أنت أم كافر؟ قال: ما كفرت منذ أمنت بالله. فقال: اضربوا عنقه. فقتلوه. ندم الحجاج بعد ذلك على قتل سعيد بن جبير .

دخل عليه مرة أحد كتبته في قبة الحجاج، وكان لتلك القبة أربعة أبواب، فدخل ذلك الكاتب من باب خلفي، لم يعلم الحجاج بدخول كاتبه، فسمعه الكاتب يقول: مالي ولسعيد مالي ولسعيد، ندماً على ما فعل.

قال الكاتب: فخرجت من غير أن يشعر بي، خوفاً إذا شعر بي أن يضرب عنقي.

حزن العلماء على مقتل سعيد

قال ميمون بن مهران لما بلغه مقتل سعيد بن جبير : والله لقد قتل، وما أحد على وجه الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه.

ولما بلغ الحسن البصري مقتل سعيد بن جبير قال: اللهم آت على فاسق ثقيف، والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في دمه لكبهم الله في النار، لقد كان يختم القرآن في كل ليلتين.

ومات رحمه الله سنة 93 وقيل سنة 94 .

من آثاره

من مأثور كلامه رحمه الله، أنه كان يقول: الخشية هي التي تحجز بينك وبين معصية الله، وذكر الله هو طاعته، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطع الله، فلم يذكره، وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.

وكان يقول: مثل من قرأ القرآن ولم يفهمه، كمثل رجل أتته رسالة من أعز الناس عليه، ولا يعرف القراءة ولم يجد من يقرؤها، فهو فرح بها لا يعرف ما فيها.

رواية أخرى عن لقائه بالحجاج

قد تجد في كثير من كتب التراجم قصة طويلة في أخذ سعيد بن جبير وقتله.

يقولون أنه لما أخذ في مكة، وسير به إلى الحجاج، ذلك الجمع الذين كان فيهم سعيد والحرس الذين كانوا معه، ومن أخذوا معه، جن عليهم الليل في الطريق، وهم بجنب دير راهب من الرهبان.

قصته مع الأسد واللبوة

فعرض عليهم الراهب أن يبيتوا عنده، وألا يبيتوا خارج الدير. قال: فإن الأسد واللبوة يأويان إلى جانب الدير. فقبلوا وأبي سعيد بن جبير وأبى الدخول إلى الدير.

فقالوا له: إن اللبوة والأسد يفترسانك. فقال: إن ربي يمنعني منهما، ويجعلهما يحرسانني. فقالوا له: أأنت نبي من الأنبياء؟

قال: بل أنا عبد ضعيف. وأبى الصعود. فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى أتت اللبوة. قالوا: فجعلت تتحكك بسعيد بن جبير وتتميح به وربضت غير بعيد منه.

ثم أتى الأسد ففعل مثلما فعلت اللبوة والناس تنظر إليه من أعلى الدير. قالوا: فلما رأى الراهب ذلك أقبل إلى سعيد فأسلم.

ولما رأى الحرس الذين أتوا به، أقبلوا يبكون ويقبلون يديه ورجليه ويعتذرون ويقولون: قد حلفنا الحجاج بالطلاق إن أمسكناك لا نتركك حتى ندخلك عليه. قال: أمضوا إلى شأنكم فإني لائذ بخالقي.

دخول سعيد بن جبير على الحجاج

فلما أُدخل على الحجاج، قال: أنت سعيد بن جبير ؟ قال: نعم. قال: بل أنت شقي بن كسير. فقال سعيد: أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال له الحجاج: شقيت وشقيت أمك.

قال له: الغيب يعلمه غيرك. فقال له: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، فقال له سعيد: لو علمت أن ذلك منك لاتخذتك إلهاً. فقال له الحجاج: فما تقول في محمد؟ قال: نبي الرحمن.

قال: فما تقول في علي؟ أفي الجنة هو أم في النار؟ فقال سعيد: لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت. قال: فما تقول في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل. قال: فأيهم أعجب لك؟ قال: أرضاهم لربي.

قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عنده. فأمر الحجاج بالجواهر والياقوت والزبرجد، فوضعت أمام سعيد بن جبير .

فنظر إليه سعيد وقال: إن كنت جمعتها لفتتدي بها من فزع يوم القيامة فشيء صالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت.

فأمر الحجاج بعود وناي، فنُفخ في الناي، وضُرب بالعود. فبكى سعيد بن جبير .

فقال: ما يبكيك؟ قال : ذكرت بالنفخ بالناي النفخ بالصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة.

فقال له الحجاج: اذبحوه . فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.

فقال الحجاج: كبوه على وجهه في الأرض. فقال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. فقال الحجاج: اضربوا عنقه. فقال سعيد بن جبير : اللهم لا تسلطه على أحد غيري.

فأرى في عيونكم أنا قصة مؤثرة، وهي كذلك لو كانت صحيحة، وإلا فهي قصة غير صحيحة. لذلك قال الذهبي: هذه قصة منكرة.

ولماذا ذكرتها لكم؟ لكثرة من يذكرها من الناس والوعّاظ، وتجدها في التلفزيون والكتب وغيرها. والناس أفرح بالخيالات والأكاذيب والخرافات، مما وقع وصدق.

والله أعلم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى