كارلوس غصن اللبناني الذي شغل العالم بعبقريته وحيلته : أن تكون مديراً تنفيذياً في ثلاث شركات سيارات عالمية ويصل راتبك إلى 17 مليون دولار.
وتحصل على وسام شرف امبرطوري لا يتوج به غيرك من الأجانب عادة فأنت بالتأكيد عبقري.
ولكن أن تعتقل بعد سنوات من الخدمة وتتهم بالاختلاس ثم بعملية تهريب لا تحدث إلا في الأفلام فأنت تستحق لقب جيمس بوند.
يمكن وصف كارلوس غصن بأنه يحقق الأرباح الكثيرة في أي إدارة.
من هو كارلوس غصن
كارلوس غصن لبناني الأصل ولد عام 1954 في البرازيل، وقضى طفولته فيها درس في لبنان ثم أتم تعليمه العالي في فرنسا.
بدأ سيرته المهنية مع شركة ميشلان الفرنسية لصناعة إطارات السيارات، ترقى فيها إلى المنصب تلو المنصب حتى عين مديراً لقسم الأبحاث والتطوير.
قبل أن يتم عامه الثلاثين وفي عام 1984 انتقل كارلوس إلى البرازيل ليعمل رئيساً تنفيذياً لعمليات الشركة التي تدعى coo في أمريكا الجنوبية.
وهنا بزغت براعته، فقد تمكن من تحويل القطاع الخاسر في الشركة إلى قطاع رابح.
وبعد سنتين فقط من توليه المنصب تعلم اللغة الإنجليزية لتضاف إلى رصيده اللغوي إلى جانب العربية والفرنسية والبرتغالية.
وفي 1989 انتقل إلى أمريكا ليعين رئيساً ومدير عمليات فرع ميشلان في ولاية كارولينا، وبعد عام أصبح مديراً تنفيذياً للشركة في أمريكا الشمالية كلها.
كارلوس قاتل النفقات
في عام 1996 أصبح كارلوس نائب الرئيس التنفيذي في شركة رينو الفرنسية للسيارات ومديراً لقسم الشركة في أمريكا الجنوبية.
وخلال عام واحد تمكن من إعادة هيكلة شاملة لعملياتها وتحقيق أرباح كبرى، وهنا حصل على لقبه الشهير قاتل النفقات.
بسبب إتباعه النهج الإداري الذي يركز على تقليل النفقات وزيادة المبيعات في آن واحد وذاع صيت كارلوس وبدأت رحلة الصعود الكبرى.
المنقذ العربي الذي أدهش اليابانيين
في عام 1999 كانت شركة نيسان اليابانية للسيارات تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب الديون الهائلة التي تقدر بقيمة 20 مليار دولار.
حيث السيارات تصنع ولا تباع، وكانت كل التحليلات تقول أن شركة نيسان ستغرق لا محالة ما عدا تحليلات كارلوس غصن.
باعتباره نائب رئيس شركة رينو وافق على شراء 36.5% من أسهم شركة نيسان بمبلغ 5.4 مليار دولار وأنشأ تحالف السيارت الفرنسي الياباني رينو نيسان.
وفي شهر أكتوبر تشرين الأول من العام نفسه أطلق خطة الإنقاذ متعهداً بتحقيق الأرباح في العام المالي التالي مباشرة وخفض الديون والخسائر.
وخلال ثلاث سنوات بدأت الخطة بتغيير التفكير الإداري الياباني التقليدي مع حرص كارلوس غصن على عدم الصدام مع الثقافة اليابانية المنغلقة إلى حد ما.
بدأ كارلوس بتخفيض الإنفاق إلى الحد الأدنى فأغلق خمس مصانع وألغى نحو 21 ألف وظيفة للعاملين في الشركة وقام بتقليل عدد الموردين وحاملي الأسهم.
واستبدل نظام الترقية الياباني التقليدي القائم على سنوات الخبرة والأقدمية الوظيفية نظام الترقية القائم على مؤشرات الأداء.
كما بدأ بتحويل ثقافة الشركة من اليابانية الخالصة إلى الإنجليزية بهدف الإنتشار عالمياً بواجهة جديدة وخلال السنة الأولى حقق الأرباح بقيمة 2.7 مليار دولار.
بعد أن كانت شركة نيسان تخسر 6.46 مليار دولار سنوياً وبعد مرور ثلاثة أعوام على بدء خطة الإنقاذ عادت شركة نيسان واحدة من أكثر شركات السيارات الربحية.
وبعد ثلاث سنوات أخرى أصبحت ثاني أكبر شركة سيارات في اليابان وتضعف رأس مالها خمس مرات وكان إنجاز عظيم دفع اليابانيين إلى إطلاق لقب المنقذ الأجنبي على كارلوس غصن.
أوسمة وكتب بطولية
في عام 2004 وبسبب تأثير كارلوس وشهرته تم تقليده ميدالية الشريط الأزرق تكريماً له على إنجازاته الاستثنائية في خدمة اليابان.
ليكون أول مدير أعمال أجنبي يحصل على هذه الميدالية على الإطلاق وصدر كتاب مانغا بعنوان القصة الحقيقية لكارلوس غصن الذي يبرز قصة بطل غامض يأتي من بلاد بعيدة.
وفي عام 2005 رقي كارلوس غصن ليصبح رئيس شركة رينو الفرنسية ومديرها التنفيذي وهو في الوقت نفسه الرئيس التنفيذي لشركة نيسان.
ليصبح بذلك أول شخص في العالم يدير شركتين في قائمة فورتشن جلوبال 500 التي تضم أقوى 500 شركة في العالم.
ولاحقاً عين كارلوس غصن نائباً لرئيس مجلس إدارة شركة أفتوفاز الروسية واستولى على منصب رئيس مجلس الإدارة في عام 2016.
بعد أن سيطر تحالف رينو نيسان على صناعة السيارات الروسية في العام 2014 وبقدوم عام 2016 استحوذت نيسان على حصة مقدارها 34% من أسهم شركة ميتسوبيشي اليابانية.
ليتحول التحالف الثنائي بين رينو ونيسان إلى تحالف ثلاثي يشمل شركة نيسان وشركة رينو وشركة ميتسوبيشي ويكون كارلوس غصن هو الرابح الأكبر.
ملامح من حياة كارلوس غصن
بلغ الرجل عنان السحاب من الشهرة والعالمية وربما كان يجسده كل إداري في العالم ولكن في ظل تلك الإنجازات كانت ملامح حياة كارلوس غريبة.
مبدئياً يوصف كارلوس غصن بأنه متسلط إدارياً فهو يعيش حياة رفاهية بشكل لا يتماشى مع طبيعة المجتمع الياباني.
فقد شوهد في عام 2004 يركب سيارة من نوع بورش الفارهة بما يخالف العرف الياباني وانتقده الإعلام المحلي حينها على عدم ركوبه سيارة من نوع نيسان.
يملك كارلوس غصن يختاً فخماً تصل قيمته إلى 10 ملايين دولار كما أن راتبه خرافي وهو 17 مليون دولار سنوياً.
فمن شركة رينو 8.5 مليون دولار ومن شركة نيسان 6.5 مليون دولار ومن ميتسوبيشي 2 مليون دولار وهذا الراتب يعادل 11 ضعف راتب رئيس مجلس إدارة شركة تويوتا اليابانية.
العديد من المنشآت كان يشغلها وتؤمنها له شركاته التي يديرها مثل طائرة خاصة تصل قيمته إلى قرابة 70 مليون دولار.
راتب غصن الكبير تعرض لانتقادات كبيرة أبرزها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصفه بالمفرط.
السقوط من القمة
في أواخر 2018 اعتقل كارلوس غصن عند هبوطه في مطار طوكيو واتهم بمخالفات مالية وإساءة استخدام أصول الشركة لمصلحته الشخصية.
شركة نيسان التي أنقذها هي من رفعت الدعاوى القضائية عندما قيل أنها تحقيقات داخلية أجريت داخل الشركة توصلت إلى أن الرجل يخفي حساباته المالية عن المراجعة.
فقد قام باختلاس ملايين الدولارات وبعد ثلاثة أيام من الإعتقال أقاله مجلس إدارة نيسان من منصبه وتلاه إجراء مماثل من ميتسوبيشي.
أما شركة رينو فقد تمهلت بقبول الإستقالة حتى بدايات عام 2019 وبذلك أصبح الأجنبي المنقذ خارج مناصبه الإدارية في التحالف الثلاثي الذي أنشأه بنفسه.
أخلي سبيل كارلوس غصن بعد 100 يوم من الاعتقال ثم اعتقل مجدداً في نيسان من عام 2019 وهو إجراء غير مسبوق لمن أخلي سبيله بكفالة.
وجهت إلى كارلوس غصن اتهامات جديدة تتعلق بخيانة الثقة واستخدام أصول الشركة للمصلحة الشخصية فضلاً عن التورط في قضية مدفوعات سرية بأكثر من 30 مليون دولار لموزع نيسان في سلطنة عمان.
لكنه خرج في الشهر نفسه بكفالة أيضاً تقدر ب 9 ملايين دولار ورفض الإتهامات وعد ما يتعرض به من تهم فساد مالي ما هي إلا من قبل مجلس إدارة نيسان.
وقد عرف عنه عدم الإستسلام ولجوئه لخيارات قد تعد مجنونة في الإدارة التقليدية لكن لم يعرف أحد أن مهارات الرجل تتجاوز عالم الإدارة والأعمال.
الهروب الأخير من اليابان إلى لبنان
احتفل كارلوس غصن برأس السنة في لبنان بعد عملية هروب تشبه أفلام جيمس بوند بتاريخ 29 ديسمبر عام 2019 خرج من منزله على الرغم من أنه وضع تحت الإقامة الجبرية.
وكانت الرواية الأكثر ترجيحاً لهروبه هي أنه التقى مع شخصين أمريكيين في أحد الفنادق ثم استقل ثلاثتهم القطار السريع إلى أوساكا غرب اليابان.
ومن فندق بجوار المطار خرج الأمريكيان وعمهما صناديق كبيرة في أحدهما أخفى كارلوس غصن نفسه ومن هناك صعدوا على طارئة خاصة إلى إسطنبول.
ومن إسطنبول غادر بطائرته الخاصة الأخرى إلى بيروت مستخدماً جواز سفره الفرنسي.
ولكنه لم يؤكد تلك الرواية عدا موضوع طائرته الخاصة من إسطنبول إلى بيروت وجواز سفره الفرنسي.
ولكن الأكيد أن عملية الهروب بحد ذاتها كانت معقدة جداً ومخطط لها بعناية لأنه من المستحيل تجاوز كل الأنظمة الأمنية اليابانية.
أين الحقيقة
بعد وصوله إلى بيروت عقد كارلوس غصن مؤتمراً صحفياً تلته عدة مقابلات تلفزيونية وفي جميعها أكد غصن على انه لم يهرب من العدالة أبداً ولكنه هرب من أجل العدالة.
متهماً النظام القضائي الياباني بأنه منحاز ولا يمكن الوثوق به وبأن حصوله على البراءة سيتطلب خمس سنوات على الأقل.
مشيراً إلى أن 99.4% من القضايا يخسرها المتهمون ويكسبها الإدعاء العام في ذلك البلد أي اليابان وأعلن تعرضه لمؤامرة يقودها ثلاث مديرين يابانيين في شركة نيسان.
تعاونوا مع مسؤولين في الحكومة لتلفيق الاتهامات واتهم الادعاء العام بأنه متواطئ معهم، اليابان وصفت الخطوة بأنها جريمة أخرى.
وطالبت دولة لبنان بتسليمه الهارب من العدالة ولكن لبنان طالبت بإرسال ملف التحقيق لمتابعة القضية على أراضيها.
المستقبل أمام كارلوس غصن
لا شك أن خيار اللجوء إلى لبنان ذكي لأسباب كثيرة منها أن لبنان ليس من عادتها تسليم مواطنيها إلى دول أجنبية.
أضف على ذلك أن دولة لبنان أثبتت أنها البلد الوحيد الذي وقف إلى جانب كارلوس غصن في الأزمة ليس فرنسا ولا البرازيل وهذا ما قاله كارلوس بنفسه.
ولكن لم ينتهي الأمر هنا سيكون كارلوس غصن أمام محاكمة على ارض عربية هذه المرة إذا ما قامت اليابان بتسليم ملفات القضية كافة للجانب اللبناني.
وسيبقى كارلوس بريئاً طالما لم تثبت إدانته وربما هو محظوظ إذ إنه لا يحمل الجنسية اليابانية، والإدانة أو البراءة ستحتاج الكثير من الوقت.
ولكن ليس هذا هو أهم ما في الأمر، لاحظ أن القضية لم تعد جنائية فقط لقد أصبحت سياسية وبإمتياز.
ولو كانت القضية جنائية بحتة فعلياً كما تقول اليابان مع افتراض أن العدالة اللبنانية ناجزة فإن كارلوس سيدان في لبنان ويسجن فيه.
ولكن لو كان في القضية الأصلية 1% من الإعتبارات السياسية فإن كارلوس غصن سيكون بطل القصة في النهاية إضافة إلى أننا أمام شخص ذكي جداً.
فلو تابعت تصريحاته للصحافة فلن تتمكن من إدانته بشيء لقد تمكن من الإجابة بطلاقة مبهرة ودقة عالية بأربع لغات مختلفة في مؤتمره الصحفي البرتغالية والفرنسية والعربية والإنجليزية.
لقد تمكن من توجيه رسالة أخرى إلى اليابانيين بأن اليابان بلد يهتم بالرمزيات ويعد نفسه أفضل دول العالم وفي نظام العدالة والنظام الشرطي والأمني.
لذلك فإن الهروب من اليابان يعني أكثر بكثير من مجرد فرار شخص مطلوب للعدالة.
وقد يفهم الأمر على أنه إثبات جديد من كارلوس غصن على أنه قادر على كشف الثغرات الأمنية أيضاً وليس فقط الثغرات الإدارية في كوكب اليابان.
المصدر يوتيوب قناة ميدان