نتحدث الآن قليلاً عن مكة من حيث التنظيم السياسي والإداري لها، قلنا أن قصي بن كلاب، الذي عاش في نهاية القرن الرابع الميلادي.
هو الذي جمع قريش حول الكعبة، الحرم، وأسكنها البطاح، لأن الكثير من القبائل التي كانت تسكن في تلك المنطقة، كانت تسكن في الجبال.
وكانت تحرم الأرض المحيطة بالحرم، الكعبة، باعتبار أنها أرض مقدسة، لذلك كان يأت الناس في النهار، ثم يغادرونها في الليل.
التنظيم الإداري لقصي بن كلاب في مكة
دار الندوة
وقصي قرر قراراً استراتيجياً حاسماً وهو أن يأتي ببطون قريش المختلفة، ويسكنها في البطاح، أي حول البيت، لدرجة أنه بنى داره بالقرب من الكعبة.
والتي سميت بعد ذلك دار الندوة، وهذا القرار لم يكن سهلاً، فقد عورض وخاف الناس، أن ينزل عليهم عقاب من آلهتهم، لكنه أصر.
رفد الحجيج بالطعام والشراب
ثم اتخذ قرار آخر مهم، فقد حول شرعية سيطرته على مكة، إلى خدمة للحجيج، لأنه يعلم أن وجود مكة معتمد على الحجيج.
ويقول المؤرخون أنه قام بفعلة جميلة، بعدما سيطر على مكة، قال: العرب ربما الآن تعيب علينا أننا قد أخذناها من بني خزاعة.
فقالوا له: ماذا نفعل؟ قال: اذبحوا الجذر، أي اذبحوا الجذور وضعوها على أفواه الطرق، التي تؤدي إلى مكة.
وقابلوا الحجيج بالماء والزبيب، لأنهم مسافرين في الجوع والعطش، على أبواب مكة الخارجية، وصنع طعاماً ووضعه في جانب الكعبة، وماء.
واستقبل الحجيج استقبال فاره، فكانت مفاجأة سارة، وكان يقال لهم من قبل من يعطوهم الطعام، اليوم مكة تدار من قبل قبيلة قريش، وقصي زعيمنا.
شرعية حكم قبائل قريش في مكة لقصي بن كلاب
فظنوا أن سيطرة قريش هي خدمة لهم، فأعطته قريش الشرعية لقصي، وخسرت خزاعة هذه المكانة الرفيعة.
قصي هو الذي أسس الملفات الخمس الكبرى داخل قريش، الحجابة، ثم سقاية الحجيج، الطعام، الندوة، اللواء وهي مسألة الحرب.
هاشم بن عبد مناف
ولما مات قصي، أوكلوا ذلك إلى ابنه عبد الدار، ولكنه كان ضعيفاً، فكان يقوم بذلك أخوه عبد مناف.
وعندما جاء هاشم بن عبد مناف، ورث عن أبيه نفس الملفات الخمس، وقال: إذا كنت أقوم بذلك لماذا لا تسند لنا، هذه المناصب بدل أن تكون لعبد الدار.
فحصل الخلاف داخل قريش، وأدى إلى أول شق في الحكم العائلي، ثم أدت إلى شق في داخل صف قريش.
حلف المطيبين وحلف الأحلاف
تحزب الناس إلى حزبين، طائفة اجتمعت مع ابناء عبد مناف وقالوا أن ذلك من حقهم، وطائفة وقفت مع ابناء عبد الدار.
فكان بني عبد مناف، هم من مجموعة من بني أسد من بني زهرة وبني تيم، وتحالفوا فيما بينهم في لقاء قرب الكعبة في مكة.
فجاءوا بالطين وغمسوا أيديهم ومسحوها على جدار الكعبة، وسمي بحلف المطيبين، بالمقابل استنهض بنو عبد الدار أحلافهم.
فجاءوا معهم بنو سهم وبني جمح وبني مخزم، والتقوا وذبحوا جذورا ووضعوا الدم في وعاء، وغمسوا أيديهم ومسحوها على الكعبة، وسمي حلف الأحلاف.
التقسيم الإداري والسياسي لحكم مكة
وكاد الحلفان أن يقتتلا، وقد وقع بينهم الصلح، فأخذ بنو هاشم السقاية والرفادة، وبنو عبد الدار الحجابة واللواء والندوة.
وكان معظم المال ينفقه بنو هاشم بسبب وظائفه التنظيمية، ولكن الوظائف الرمزية الشرفية كانت بيد بني عبد الدار.
حلف المطيبين كان حلفاً خادماً للناس، والتقى على القيم، حلف الأحلاف حلف التقى على السؤدد والسمعة وعلى المكانة.
مكة بدون ملك
إذا كانت مكة من دون ملك، والرئاسة فيها للأكثر بذلاً وسخائاً وحكمة وروية، هاشم كان بمثابة الملك، ولكنه لم يكن صاحب سلطة تنفيذية.
بل سلطته كانت بحنكته ورويته، وتأليف القلوب، إنما في فترة متأخرة، كان هناك عثمان بن الحويرث وكان مسيحياً.
جاء إلى قيصر وقال له: ملكني على مكة، وإذا فعلت ذلك سيكون لك ما لكسرى في صنعاء، وأعطاه ذلك.
فجاء إلى مكة، وقال لهم يا أهل مكة، أن أصبحت ملكاً عليكم، فإن وافقتم سأكون شفيق ورفيق بكم، وقيصر مهم بسبب تجارة الروم معكم.
فسكتوا وقالوا: غداً نتوجك، وفي اليوم الثاني صاح عثمان وقال: يا لعباد الله أفي مكة ملك؟ فانحاش الناس وقالوا: لا والله لا يكون في مكة ملك، مكة لقاح لا يملكها أحد.
وبهذا لم يكن في مكة ملك، لأن دار الندوة كبرلمان، تمثل قراراً تنفيذياً، وقادرة على فرض الرأي بالاجماع.
فلم تخضع مكة لا إلى الحبشة مثل اليمن، ولا لفارس كما خضعت الكثير من الجزر العربية، ولا للروم كما الشام ومصر.
كانت مكة مدينة عدم انحياز، وكان هذا من تقدير الله سبحانه، لأنها ولد فيها النبي، الذي قاد تيار جديد خارج عن التحزب الفارسي الرومي.