نهضة البرازيل : هل يمكن لفقراء بلد ما أن يضاعفوا ثروته خمس مرات؟ وفي ثمان سنوات فقط؟
إذا كنا نتحدث عن البرازيل، فالإجابة هي نعم. فكيف إذا علمت أن من قام بذلك، شخص لم يكمل تعليمه الإبتدائي، رجل عرف كيف يحل مشاكل الفقراء لأنه كان أشدهم فقراً.
إنه لولا دا سيلفا، نصير المحرومين. وتلك هي البرازيل، أرض المتناقضات.
فكيف نهضت البرازيل، بلاد السامبا، بفقرائها؟
تاريخ التناقض (قهوة بالحليب)
تعد البرازيل من الدول ذات المساحة الشاسعة، والثروات الهائلة، مما جعلها مطمعاً للاستعمار البرتغالي الذي حكمها ثلاثة قرون، ولم يرحل عنها بشكل كامل حتى عام 1827 ليخلف وراءه نخبة أرستقراطية ملكت العباد والبلاد، وجيوشاً من الفقراء والجياع.
متى تأسس النظام الجمهوري في البرازيل؟
تأسس النظام الجمهوري عام 1889 عهد جديد، لكنه لم يحمل جديداً لفقراء البرازيل ومعوزيها، فالحال بقي مأساوياً، حكومات عسكرية استبدادية، وحروب أهلية، وأزمات اقتصادية، وسيطرة لكبار تجار البن على البلاد.
عهد زاد الأثرياء ثراءً، والفقراء فقراً، وأبقى البرازيل دولة (قهوة بالحليب) نسبة إلى منتجيها الرئيسيين، البن والحليب.
بدايات نهضة البرازيل غير المتوازنة
بدأت البرازيل نهضتها الاقتصادية مبكراً مع الزعيم القومي، جيتوليو فارغاس عام 1930، الرجل الذي أراد أن يجعل من انقلابه العسكري، ثورة تنهض باقتصاد البلاد.
أسس فارغاس عام 1937 الدولة الجديدة، منهياً عهد اقتصاد السلعة الواحدة، ومعلناً انطلاق عصر التصنيع في البرازيل، الدولة الغنية بالنفط.
وأنشأ العديد من الشركات الوطنية، كشركة بتروبراس للبترول، والنتيجة إنجازات ضخمة حققها أبو الفقراء، لكنها لم تكن كافية لإنتشال أبنائه من فقرهم.
السنوات الذهبية (خمسون سنة في خمس سنين):
في عام 1956 تولى الرئاسة رجل سيبقى في ذاكرة البرازيليين طويلاً، اسمه جوسيلينو كوبيتشيك، وشعاره خمسون في خمس.
نجح كوبيتشيك بتحويل البرازيل إلى دولة صناعية ذات وزن، فازدهرت في عهده صناعة السيارات والسفن والصناعات الثقيلة، واستغل ثروة البرازيل المائية الضخمة لينشئ محطات الطاقة الكهرمائية، ومد الطرق السريعة رابطاً أطراف البرازيل ببعضها البعض.
جوسيلينو نقل عاصمة البلاد من ريو دي جانيرو الساحلية، إلى البرازيل الواقعة وسط البلاد، وذلك بهدف توجيه التنمية إلى الداخل البرازيلي الفقير.
برازيليا التي إعتبرتها اليونسكو إرثاً ثقافياً عالمياً، بناها معماريون برازيليون على شكل طائرة، لتكون أملاً يحلق في سماء البرازيليين، وليفتتحها جوسيلينو عام 1960.
خمس سنوات انتهت سريعاً ليتضخم حجم الإنجاز الكبير، نمو سنوي بلغ 7.9% من 10، زيادة في الإنتاج الصناعي بنسبة 80%، لتقفز أرباح الصناعة إلى نسبة 79%، ثلوج من الإنجازات ما لبثت أن ذابت، لتكشف ما تحتها من خسائر.
لقد كان نجاح جوسيلينو باهظ الثمن، فعدا عن التكاليف الضخمة لبناء العاصمة الجديدة، تركزت سياسة جوسيلينو الإقتصادية، على إنتاج سلع مرتفعة السعر.
وبسبب الفقر المستشري في البرازيل، انخفض الطلب كثيراً، فأدى ذلك إلى إرتفاع الديون الخارجية من 87 مليون إلى 297 مليون دولار، ووصل معدل التضخم عام 1963 إلى 81%، وانتشرت الإضطرابات في البلاد، وفي المحصلة اتسعت الهوة بين أثرياء البرازيل وفقرائها.
أزمة جديدة
مع وصول جواو غولارت إلى الرئاسة، حاول إعادة التوازن للاقتصاد، فتبنى سياسة اجتماعية موجهة للنهوض بالطبقات الدنيا، فثارت حوله اتهامات بالشيوعية، في ظل الحرب الباردة المستعرة حينها، فكان انقلاب عام 1964.
مع عودة العسكريين للسلطة، استمر الاقتصاد البرازيلي بالنمو بمعدل 10% سنوياً، واستمرت فجوة الفقر والثراء بالإتساع أيضاً، فخطة العسكريين ركزت دعمها على أثرياء البلاد، الذين لا يشكلون سوى 10% من السكان، معتقدة بذلك أنها ستزيد الطلب على السلع، فتنشط الصناعة.
لكن وفي أول الثمانينات ومع أزمة الديون العالمية، بدأ الوضع بالتفجّر، حيث وصل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وتصاعدت الديون بشكل كبير، توقف النمو وبدأ الاقتصاد بالانهيار، واستفحلت البطالة والفقر بصورة مخيفة.
نهضة البرازيل وبداية الأمل
عمّت البرازيل احتجاجات عارمة مطلع الثمانينات، تكللت بزوال الحكم العسكري وعودة الديمقراطية عام 1985، دستور جديد يرى النور وتعليم للجميع أصبح إلزامياً حتى سن السابعة عشر، بعد أن كان حكراً على عليّة القوم.
عادت الديمقراطية وهذا هو الخبر السعيد، أما الخبر السيء فكان وصول المحافظين الجدد للسلطة مطلع التسعينيات، هؤلاء سيتبنون سياسة ليبرالية متطرفة، خصخصت الاقتصاد وأوقفت الدعم عن الفقراء، وأبقت البرازيل تحت رحمة قروض صندوق النقد الدولي، وسياساته القاسية.
الحال الذي تمخضت عنه كارثة اقتصادية تمثلت ببلوغ التضخم 3000% عام 1993.
نهضة البرازيل وبوادر العدالة
البطل هذه المرة اسمه فرناندو كاردوسو، منصبه كان وزير المالية، وخطته إعادة الإستقرار.
في عام 1994 أطلق كاردوسو عملة جديدة هي الريال البرازيلي، حدد قيمتها بدولار واحد، فنجح بخفض التضخم إلى نسبة 2% وأوقف التدهور السريع في دخل الفقراء.
سياسة أوصلته إلى سدّة الحكم في البرازيل عام 1995، لكنها لم توصل البرازيليين إلى تحقيق الاكتفاء، واضطرت الحكومة إلى الإستدانة الخارجية مجدداً لسد العجز.
وب 93 مليار دولار ترك كاردوسو البرازيل، كأكبر دولة مدينة للصندوق، دولة على شفير الإفلاس، نمو لا يتعدى الصفر، وعجز عن سداد الديون، فقر مدقع تقابله نخبة فاحشة الثراء.
البرازيل إذاً بحاجة إلى حل ثوري، وإلى رجل يفكر خارج الصندوق، رجل سيخرج من بين الفقراء أنفسهم.
زعيم من الفقراء لكل البرازيليين
من ماسح أحذية إلى رئيس أكبر دولة في أميركا اللاتينية عام 2003، ومن مناضل ضد حكم عسكري، قضى في سجونه ثلاث سنوات عام 1981، إلى أكثر الزعماء شعبية ونصرة للمحرومين.
يقول لولا دا سيلفا متحدثاً ( أولئك الذين على مدى ثلاثين عاماً باعوا صورتهم للعالم على أنهم الآلهة، يلجأون الآن إلى الدولة لكي تنقذهم ).
أدرك لولا دا سيلفا أن البرازيل لم تكن تنقصها الأموال ولا الموارد، فالمشكلة تكمن في الأولويات، المشكلة تكمن في تحويل طاقة الحكومات السابقة نحو الأثرياء، معتقدة أنهم رافعة اقتصاد البلاد الوحيدة.
لولا دا سيلفا وجد أن ثروة البلاد الحقيقية تكمن في فقرائها، 95 مليون يد عاملة هي كنز البرازيل الحقيقي، كانت الفكرة العبقرية بسيطة، انهض بالفقراء لينهضوا هم باقتصاد البلاد.
خطة أرعبت الأغنياء ظناً منهم أنها ستسلبهم أموالهم، لكن لولا دا سيلفا كان مصمماً على خطته، أطلق دا سيلفا برنامجه الرائد معاش الأسرة الفقيرة، برنامج يمنح الأسرة الأكثر فقراً رواتب شهرية مقابل تعليم أطفالهم.
وبدأ برنامجاً للتدريب المهني، فأنشأ المدارس المهنية وجامعات التطوير التقني في كل أرجاء البرازيل. ووفر أكثر من 20 مليون فرصة عمل، ليُدخل ملايين الفقراء إلى سوق العمل.
الفقراء ثم الفقراء.. ثم الفقراء:
مشاريع لولا دا سيلفا الطموحة غطت حوالي 46 مليون شخصاً، أي ما يعادل ربع سكان البرازيل.
وبالرغم من أنها لم تكلف الدولة سوى ثلاثين مليار دولار سنوياً، إلّا أن نتائجها كانت فوق المبهرة. تحسنت القوة الشرائية للفقراء، فازداد الطلب على السلع وتحركت عجلة الاقتصاد بسرعة هائلة، لتلبية الحاجات المتزايدة للسوق.
الطفرة المعجزة:
خلال ثمان سنوات فقط، سددت البرازيل كامل ديونها لصندوق النقد الدولي، بل وأصبحت من أكبر مقرضيه، وارتفع الحد الأدنى للأجور من 200 إلى 510 ريال برازيلي.
وانخفضت معدلات البطالة من 9.2% من 10، إلى 6.2% من 10، وزادت الصادرات من 60.3 مليار دولار إلى 152.9 مليار دولار.
ونمت الإحتياطيات النقدية من 38 مليار إلى 275 مليار دولار، تخطى حوالي 28 مليون شخص خط الفقر، وبلغ عدد المرافق الإجتماعية أكثر من 7000 ، انخفض سوء التغذية عند الأطفال بنسبة 61%، وزادت معدلات الإلتحاق بالتعليم العالي بنسبة 63%.
وارتفعت الإستثمارات في الإسكان من 7 مليارات إلى 63.2 مليار دولار، ليحقق الناتج الإجمالي قفزة عمودية من نصف ترليون إلى ما يربو على تريليونين ونصف تريليون دولار.
هذه المرة لم يزدد الأغنياء غناً والفقراء فقراً، بل إزداد الجميع غنىً. ثمان سنوات فقط كافية بالنسبة للولا دا سيلفا، ليحول البرازيل من دولة على حافة الإنهيار، إلى سادس أكبر اقتصاد في العالم.
نهضة البرازيل وعودة الأزمة
عام 2010 انتهت ولاية لولا دا سيلفا، وانتخبت نائبته ديلما روسيف لقيادة البرازيل.
الرئيسة الجديدة سارت على نهج سلفها، ولكنها لم تكن بنفس كفاءته. تراجع النمو وانخفض الناتج المحلي للبرازيل.
وأُهدرت أموال كثيرة لإستضافة كأس العالم، وعمت المظاهرات البرازيل، وانتهى الأمر بإقالة روسيف عام 2016، على وقع قضايا فساد.
هذه القضايا ستلاحق لولا دا سيلفا أيضاً، الذي سيحكم بالسجن لمدة 9 أعوام، ولكنه رفض تسليم نفسه، وأعلن خوضه انتخابات الرئاسة عام 2018.
وانتظر الجميع فوز الرجل الأكثر شعبية في البلاد مجدداً بأرقام كاسحة، كما أظهرت استطلاعات الرأي، لكن تهديدات قادة الجيش بالتدخل، دفعت لولا دا سيلفا لتسليم نفسه إلى الشرطة.
وعلى إثر ذلك تم منعه من خوض السباق الرئاسي، وأجريت الانتخابات، ليفوز اليميني المتطرف والضابط المتقاعد، جائير بورتولانو برئاسة البرازيل.
وبذلك عاد الجنرالات المدعومين من النخبة الثرية، إلى الحكم، لتوضع التجربة البرازيلية الناجحة برمتها على مفترق خطير.
مفترق يكون فيه أبو الفقراء الذي وصفه أوباما بالسياسي الأشهر في العالم، في السجن الآن، وتكون فيه البرازيل برمتها أمام إمتحان العودة إلى الوراء.
لكنها ليست النهاية، كما قال دا سيلفا في آخر كلمة جماهيرية له، فهو أصبح فكرة، وتجربة البرازيل قد تصبح في قابل الأيام، الدليل الذي يستلهم العالم منه حلولاً للأزمات.
نهضة البرازيل