الفتوحات الإسلامية وما الهدف منها :
اختلفت أهداف و دوافع الدول والحضارات عبر التاريخ في فتوحاتها وحروبها، فالإمبراطورية الفارسية مثلاً كان ملوكها يعتبرون أنفسهم آلهة، أو ظلاً للآلهة على الأرض وأرادوا الهيمنة على الحضارات القديمة وطرق التجارة فيها.
الإمبراطوريات المترامية
أما القائد الإغريقي الشهير، الأسكندر الأكبر فقد تمكن من بناء إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت من حدود مِصر الغربية إلى جبال الهمالايا في الهند. وكان هدفه من ذلك الانتقام من الفرس الذين أرادوا احتلال اليونان في السابق، فتمكن بالفعل من تدمير الإمبراطورية الفارسية الأخمينية التي أحرقت جيوشها في السابق مدينة أثينا، ثم تطور الأمر مع الأسكندر ليصبح الهدف في فتوحاته هدفاً شخصياً، خاصةً بعد أن أقنعه كهنة الفراعنة والفرس الذين احتل بلادهم، أقنعوه أنه ألهٌ بعث من السماء، بعد أن جبل هؤلاء الكهنة المنافقون على عبودية ملوكهم السابقين وتأليه كل من يحكمهم.
هذا الأمر لم يعجب الجنود الإغريق الذين حاربوا مع الإسكندر، الذين تعودوا على الحرية التي أنشأتها أثينا في السابق، فأعلنوا رفضهم لألوهية قائدهم الإسكندر، وأبدوا عصيانهم لأوامره في استكمال فتوحاتهم في قلب القارة الآسيوية، بعد أن أدركوا أن تلك الفتوحات كانت لهدف شخصي، كانت لمجد الإسكندر الشخصي، قبل أن يتم إغتيال الإسكندر في أرض العراق بالسم، على الأرجح من قبل جنوده الإغريق.
الرومان
في حين بدأ التاريخ الفعلي لإنشاء الإمبراطورية الرومانية بعد أن داهمهم القائد القرطاجي الشهير حنبعل في عقر دارهم بفيلته التي جاء بها من وسط أفريقيا لتدمير عاصمة الرومان روما.
فتحول الرومان بعدها من الدفاع إلى الهجوم، واحتلوا تونس وأكملوا بعدها احتلال سائر دول البحر المتوسط.
أما الألمان النازيون، فقد احتل زعيمهم معظم القارة الأوروبية من منطلق عنصري يؤمن بتفوق العنصر الآري على بقية الأجناس البشرية.
أما الأمر بالنسبة لأمة الإسلام فقد كان الأمر مختلفاً، فالمسلمون الأوائل كانوا يؤمنون أن رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم آخر رسول على الأرض، وأن هناك رسالة إلهية حمل هو وأتباعه على مهمة إبلاغها إلى بقية البشر، إبلاغ وليس إجبار.
وملخص هذه الرسالة: هو تحرير البشر من عبادة غيرهم من البشر أو غيرهم من المخلوقات بشكل عام، وقصر تلك العبادة على عبادة الله وحده.
الفتوحات الإسلامية ورسائها
باختصار كانت الرسالة الإسلامية هي تحرير البشر وجعلهم أحرار لا يركعون سوى لخالقهم، هذه الرسالة بطبيعة الحال كانت تحتاج إلى مناخ من الحرية يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام وبقية المسلمين بتبليغها لبني البشر دون تهديدٍ لحياتهم، وهو الأمر الذي عبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل صلح الحديبية مباشرةً لطلبه للهدنة مع قبيلة قريش التي كانت تحاربه، فقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل واضح أن يتركوا له حرية الدعوة دون قتال.
كما عبر عنه بقوله: “ يخلوا بيني وبين الناس ” أي أن يتركوا حرية دعوة الناس لهذه الرسالة، التي كلف بتبليغها لجميع بني الإنسان.
لذلك كان من أول الأمور التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عقد الهدنة وضمانة لعدم غدر أصحابه من قبل قريش هو أن أرسل الرسائل إلى ملوك العالم وزعمائهم يدعوهم فيها إلى رسالة الإسلام.
دعم حريات الشعوب
ولكن أصحاب النفوذ الذين كانوا يرون من هذه الرسالة تهديداً لمصالحهم الشخصية التي بنوها على جهل الناس وعبوديتهم لهم، هؤلاء قاموا بمحاربة هذه الرسالة وعملوا على عدم وصولها إلى شعوبهم، ومن هنا كان وجود القوة العسكرية ضرورياً لمحاربة المستبدين، وليس لمحاربة الشعوب أو فرض الرسالة عليهم كما يعتقد البعض.
كان هدف تلك الفتوحات يقتصر على دعم حرية الناس إلى معرفة رسالة الإسلام وليس فرضه عليهم، والدليل على ذلك من القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتسع المقام هنا لذكرها أو شرحها، ليس فقط لضيق الوقت ولكن أيضاً لأن المتطرف أو الكاره للإسلام لن يجد صعوبة في تفسيرها حسب فهمه الفاسد عن الإسلام وحكمه المسبق على هذا الدين، لذلك سأكتفي هنا برد تاريخي مبني على حقائق تاريخية موثقة، لا مجال لنكرانه.
فلو افترضنا جدلاً صحة إدعاء هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه جاؤوا بالسيف لإجبار الناس على اتباع الإسلام، إذا افترضنا صحة هذا الإدعاء، فمن أين جاء الملايين من غير المسلمين الذين يعيشون الآن بسلام تحت حكم المسلمين في البلدان التي عاش فيها أجدادهم بسلام وأمان منذ مئات السنين.
وكيف يفسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي!
أي أن ذلك اليهودي كان يعيش بسلام في دولة محمد صلى الله عليه وسلم متمتعاً بحريته الدينية، ليس ذلك فحسب بل كان رسول الإسلام بنفسه يتعامل معه إنسانياً وتجارياً.
لو كان زعمهم ذلك صحيحاً، فلماذا لم يجبر الرسول ذلك اليهودي على اتباع الإسلام!
ولماذا لم يقتله أو يستولي على ماله، بدلاً من أن يرهن درعه عنده!
نصارى نجران
وماذا عن نصارى نجران الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاورهم بنقاشٍ حضاري في مسجده ويسمع منهم بكل صراحة وحرية بأنهم يكذبونه ولا يعتقدون بصدقه أو بصدق رسالته.
لماذا لم يجبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على اتباع الإسلام بدلاً من محاورتهم وتركهم يرحلون بسلام إلى أرضهم!
ولماذا ما تزال الكنائس موجودة في العالم الإسلامي!
ولماذا كتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمسيحيي القدس بما عرف بالتاريخ بـ العهدة العمرية التي تعهد بموجبها بحماية المقدسات الدينية لهم، لماذا لم يهدم الكنائس ولماذا لم يرتكب المجازر بحقهم كما فعل ذلك الفرس المجوس قبل ذلك بسنوات قليلة عندما احتلوا القدس من الرومان.
الفاروق عمر بن الخطاب
الفاروق عمر رضي الله عنه عندما أدركه وقت الصلاة وهو في ضيافة بطريرك كنيسة القيامة أعتذر عن قبول عرض بطريرك كنيسة القيامة عن الصلاة بها، ليس لأن صلاة المسلمين لا تجوز في الكنيسة بل لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يخشى من أن يقوم المسلمين بالصلاة في نفس الموضع الذي صلى فيه ويتخذوه كـ مسجدٍ لهم، فخشيَ أن يهدد هذا الأمر المسيحيين في كنيستهم بعد رحيله من الحياة، ففضل الصلاة خارج الكنيسة في الموضع الذي بنى عليه المسلمون الآن المسجد العمري.
بالمناسبة” مفتاح كنيسة القيامة أعظم كنائس المسيحيين ” موجود منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا عند عائلة مسلمة، إستئمنها صلاح الدين الأيوبي عليه منذ فتح القدس في زمنه، منذ ما يقرب من ألف عام، و أحد أفراد هذه العائلة المسلمة هو الذي يفتح باب كنيسة القيامة كل صباح.
أما اليهود فلم يضمن المسلمون العيش بسلام لهم وحسب بل قام المسلمون أيضاَ بإنقاذ غيرهم من اليهود الذين كانوا يتعرضون للقتل والتعذيب في محاكم التفتيش المسيحية الكاثوليكية في إسبانيا، فنقل عمالقة البحرية الإسلامية الأخوان برباروسا وغيرهم من قادة البحرية الإسلامية عشرات الآلاف من اليهود من إسبانيا ونقلوهم إلى دولة الخلافة العثمانية التي عاش اليهود على أرضها بسلامٍ لمئات السنين.
ما هدف الفتوحات الإسلامية
الفتوحات الإسلامية لم تكن لإجبار الناس على الإسلام، وإنما كانت تهدف بشكل أساس لمحاربة الملوك المستبدين الذين كانوا يستعبدون شعوبهم، ويرون أن رسالة الإسلام بما تحمله من قيم العدل والمساواة والحرية تتنافى بطبيعتها مع رغباتهم الاستبدادية، وتهدد عروشهم التي بنيت بالأساس على الظلم والاستبداد، لذلك لم يرغب هؤلاء الملوك أن تصل الرسالة إلى شعوبهم لأنها تشكل خطراً وجودياً لحكمهم الاستبدادي، القائم على تقديس الشخص الواحد.
وقد أدرك القائد العربي الكبير المثنى ابن الحارث الشيباني، أدرك هذا الأمر مبكراً حتى قبل إسلامه، عندما أعتذر في جاهليته عن إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم وحمايته في ديار بني شيبان في العراق خوفاً من الإمبراطورية الفارسية، التي كانت ديار بني شيبان على حدودها، فبعد أن استمع قادة بني شيبان إلى ما يدعو إليه الإسلام من قيمٍ ومبادئ من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعتذر المثنى ابن الحارث الشيباني الذي كان بمثابة وزير الدفاع في القبيلة، أعتذر عن قبول طلب الرسول صلى الله عليه وسلم إيوائه ونصرته.
وقال له المثنى بكل وضوح: أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه يا أخا قريش، مما تكرهه الملوك، وبالفعل فقد صدق قول المثنى، فقد أعلن كل من إمبراطور الفرس و إمبراطور الرومان البيزنطيين، الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته.
اضطهاد الروم للشعوب
فقد كان الرومان يحتلون أغلب أراضي حوض البحر المتوسط، مصر والشام وأغلب دول أفريقيا، والأناضول وغيرها من الأراضي والجزر في البحر المتوسط، وكان المسلمون يواجهون تلك الإمبراطورية الظالمة في كل الأماكن، ويحررون تلك المناطق من الاحتلال الروماني الذي كان يمارس أبشع أنواع المذابح والظلم في حق تلك الشعوب، ولا يتسع الوقت هنا لذكر بعض تلك الفضائح.
ولكن أن نقول أن الرومان كانوا يضطهدون سكان مصر من الأقباط الذين كانوا واقعين تحت الاحتلال الروماني.
كان الرومان يلقون بهم في أوعية مليئة بالزيت المغلي، بل إن بابا الأقباط بنيامين الأول كان هارباً من ظلم الرومان لمدة 13 عاماً، حتى جاء المحرر العربي العملاق الإسلامي الكبير” عَمرو ابن العاص ” رضي الله عنه وأرضاه، جاء ليحرر أهل مصر الأقباط من ظلم الرومان المستبدين الذين أذاقوهم أنواع العذاب، ويحرر عمر بن العاص بنفسه بابا الأقباط بنيامين الأول بعد سنوات طويلة قضاها طريداً للرومان.
الكتب التاريخية
كما جاء في أشهر الكتب التاريخية الكتاب الذي يؤرخ لتلك الفترة كتاب (السنكسار) الذي جاء فيه حرفياً ما يلي: أما عمرو بن العاص فإذ علم باختفاء البابا بنيامين أرسل كتاباً إلى سائر البلاد المصرية يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلام، فليحضر أماناً مطمئناً ليدبر شعبه وكنائسه.
فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضى ثلاثة عشر سنة هارباً، وأكرمه عمرو بن العاص إكراماً زائداً، وأمر أن يتسلم كنائسه وأملاكها، انتهى النقل من هذا الكتاب القبطي.
لذلك فإن بعض العنصريين من تلك البلدان ممن يصفون الفتوحات الإسلامية التي حررت أجدادهم، يصفونها أنها كانت احتلالاً عربياً، يغيب عنهم أن بلادهم كانت بالأصل محتلة لمئات السنين من قبل الرومان، وأن العرب المسلمين من الفاتحين الأوائل إنما قاموا بتحرير أجدادهم من ظلم الرومان، قبل أن يعجب أغلب أجدادهم برسالة النبي العربي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ويعلنوا إسلامهم عن قناعة وينضموا إلى جيش الفاتحين المسلمين الذي استمر بتحرير بقية شعوب الأرض.
ونختم الحديث عن الفتوحات الإسلامية الكبيرة بما كتبه القائد البريطاني الشهير ( ألفريد مارشال بنرر مونتغومري ) وهو أحد أشهر قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ” بالمناسبة مونتغومري كان القادة الذين شاركوا في إنزال النورماندي الذي كان نقطة فاصلة في الحرب العالمية الثانية، مونتغومري فسر أسباب نجاح الفتوحات العربية الإسلامية بأن الإسلام كان يعتبر محرر للشعوب من العبودية، وذكر ذلك في كتابه الرائع ( History of Warfare ) تاريخ الحرب، في هذه الموسوعة الرائعة التي كتبها مونتغومري بعد تقاعده.
قال مونتغومري: وقد وصلت الفتوحات الإسلامية مدىً لم تصله في أي عهدٍ سابق، وذلك ليس فقط لأنهم كانوا أكثر عدداً بل ولأيضاً لأنهم كانوا يستقبلون في كل مكان يصلون إليه كـ محررين للشعوب من العبودية، وذلك لما اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة، فزاد إيمان الشعوب بهم علاوةً على تميزهم في نفس الوقت بالصلابة والشجاعة والقتال، وقد أدى كل ذلك إلى اعتناق كل الشعوب التي انتصر عليها العرب الدين الإسلامي.
الفتوحات الإسلامية لجهاد الترباني