إسلامشخصيات

الإمام البخاري – الجزء الرابع



أهلاً بكم مع روائع القصص، ومع قصص التابعين رحمهم الله تعالى، وما زلت معكم ومع هذا الإمام الجليل العظيم الإمام البخاري .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.

سبحان الله كلما قرأت سيرة الإمام البخاري ، أزداد به إعجاباً وكلما قرأت في كتبه، أعرف وأنظر فقط إلى عناوين، فقط عناوين الأبواب والفصول فأعرف مدى العمق.

وفي اختيار العنوان، يستخرج أحياناً قضية فقهية دقيقة لا يلتفت إليها أحد، فيثبتها بهذا الحديث، وأحياناً يكرر الحديث في مكان آخر، ليثبت به قضية فقهية أخرى.

عجيب هذا الرجل في علمه ودقته وفقهه، ومع ذلك رأينا كيف أنه لم يسلم من طعن الطاعنين، وكيف أنهم اتهموه بأن عقيدته فاسدة.

اتهامه في عقيدته

يقول أحمد بن سلمه، دخلت على الإمام البخاري فقلت: يا أبا عبد الله، هنا رجل مقبول بخراسان، جاء إلى نيسابور صار مقبولاً في نيسابور و يتكلم عنك كثيراً. يطعن بك كثيراً، فماذا ترى؟ ماذا نفعل؟

فقبض البخاري على لحية نفسه، ثم قال: وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد.

الله سبحانه وتعالى يعرف أن عقيدتي سليمة، وأني لم أعرف لما هذه الأقوال، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور، أشراً ولا بطراً. وإنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني.

ما رجعت إلى بخارى من أجل كثرة الخلاف الذي حدث حولي، لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما آتاني الله لا يغير.

ثم قال: يا أحمد إني خارج غداً، سأترك هذا البلد كلها تخلصوا من حديثه لأجلي، ما أحب أن يتكلم ويأثم هو بسببي.

يقول: خرج الإمام البخاري في اليوم الثاني، وخرجت معه، وجلي خارج المدينة ثلاثة أيام، يرتب أموره وينتهي من ارتباطاته ثم غادر.

الطعن فيه ورده على ذلك

واستمرت هذه المسالة في الطعن على البخاري، سبحان الله إلى هذا الزمان بعض الناس تتكلم على البخاري، وهو أعظم من ذلك، وسبحان الله الحاسدون لا يتوقفون.

ولذلك جاء محمد بن أبي حاتم، فقال: يا أبا عبد الله، فلاناً يكفرك، وصل ببعض الناس أن يقولوا أنه كافر.

فقال الإمام البخاري : رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. فأراد أن تصلنا الكلمة حتى يخشى الله عز وجل. 

وكان كثير من أصحابه يقولون له، إن بعض الناس يسبونك، يقعون فيك، فيرد بآية من القرآن الكريم: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً.

ويرد: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

سبحان الله، نحن نتعلم من البخاري كيف نتعامل مع خصومنا، كيف نتعامل مع الذين تقولوا علينا وألفوا الكلام علينا و سبونا وشتمونا، بل وكفرونا.

ماذا يعلمنا الإمام البخاري

على كل حال تعلمنا أخلاقنا ليس من هؤلاء، وإنما تعلمناها من الإمام البخاري ، كيف تتعامل مع مخالفيه، حتى أنه لما جاءه عبد المجيد بن إبراهيم، فقال:
كيف لا تدعوا الله على هؤلاء الذين يظلمونك، ويتناولونك، ويبهتونك، يقولون كلاماً كذباً ليس له أصل. فقال البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اصبروا، حتى تلقوني على الحوض.

وقال صلى الله عليه وسلم: من دعا على ظالمه فقد انتصر. فمن باب توفير الأجر إلى يوم القيامة ألا ندعو على خصومنا.

حفاوة العامة بالإمام

وروى أحمد بن منصور الشيرازي، قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما جاء البخاري، نصبت له القباب على مسافة ثلاثة أميال من المدينة.

واستقبله عامة أهل المدينة، ليس فقط العلماء حتى عموم الناس، حتى لم يبق أحد إلا استقبله، ونثر عليه الدنانير والدراهم.

وكان من عادتهم في ذلك الوقت إذا أحبوا أن يكرموا شخصاً ينثرون عليه السكر، فنثر عليه السكر الكثير.

وجلس الإمام البخاري في تلك المدينة عدة أيام، ثم جاء محمد بن يحيى الذهلي إلى أمير بخارى خالد بن أحمد، وكان الأمير يكره البخاري.

كان ينتظر أي سبب حتى يتخلص من البخاري، فلما جاء محمد بن يحيى الذهلي أمير بخارى خالد بن أحمد، فقال: إن هذا الرجل البخاري قد ظهر خلاف السنة.

فقرأ كتابه على أهل بخارى، وفيه مخالفات في السنة، فأمير بخارى نبه الناس بأن هذا حرام، فرفض الناس ذلك، وقالوا: لا نفارقه، هو من أعظم العلماء.

عندها أمر الأمير بخروجه من البلد، وكان يستطيع أن يقاوم، لكنه ما أراد أن يعمل مشكلة حول شخصه، وما أحب أن يفرق المسلمين فخرج.

هكذا كان رحمه الله، بعد الاستقبال العظيم الآن خرج مطروداً، فخرج معه ابراهيم بن معطل النسبي، فيقول: تقدمت إليه، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليوم، يوم خروجك مطروداً من هذه البلدة؟

من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر، كيف تلقاه،ما هذا التناقض الذي عند الناس. وقال الإمام البخاري : لا أبالي، الناس كلهم لا يهموني، إذا سلم من ديني.

لماذا الأمير خالد بن أحمد يكره الإمام البخاري

وبعث الأمير خالد بن أحمد إلى الإمام البخاري محمد بن إسماعيل: احمل إلي كتاب الجامع، الصحيح البخاري، أو كتابك في التاريخ، أو غيرهما. واقرأ علي.

فقال البخاري لرسول الوالي، قال: إني لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس. إن كان للأمير إلى شيء منه حاجة، فليحضر في مسجدي أو في داري.

وإذا لم يعجبه ذلك، فهو سلطان، فيمنعني عن الحديث أمام الناس، ويكون لي عذر يوم القيامة أني لا أكتم العلم.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سئل عن علم فكتمه، ألجم بلجام من نار.

فوصل الخبر إلى الوالي فغضب، لماذا لا يأتي هذا العالم، كل العلماء يأتون إلا هذا العالم، فكان هذا سبب غضب الوحشة بين البخاري وبين هذا الوالي.

لكن مات هذا الوالي واندثر ذكره، وباقي ذكر الإمام البخاري على مدى الزمان.

وفاته

مات الإمام البخاري رحمه الله، ليلة عيد الفطر، وكان عمره 62 سنة تقريباً.

يقول محمد بن أبي حاتم، سمعت أبا منصور، غالب بن جبريل، وكان البخاري ضيفاً عنده. يقول: أقام عندنا البخاري أياماً، واشتد به المرض.

فلما شعر بقرب المنية، تهيأ للركوب يريد أن يرجع لأهله، فلبس خفيه، فلما مشى قدر 20 خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده أحمله، ورجل آخر يقوده إلى الدابة ليركبها.

قال رحمه الله: أرسلوني، فقد ضعفت. ثم أخذ يدعو الله عز وجل، ثم جلس واستلقى وظل يدعو ومات وهو

يدعو رحمه الله تعالى، بعد أن أوصى، قال: كفنوني في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة.

انتشار خبر وفاته وأثر ذلك على الناس

ومات الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وصار موته حديث الناس، منهم من يقول كان قبره فوقه نور، ومنهم من يقول رائحة المسك من قبره.

وانتشر الأمر بين الناس، حتى صار الناس يأخذون من تراب قبره، فوضع حول قبره شبك، بعض الناس يتبركون، وهذا من الشرك لا يجوز التمسح والتبرك بهذه القبور.

على كل حال، وضع حوله شبك، وجاء بعض الناس الذين كانوا يسبون البخاري وكانوا يطعنون فيه لما وصلتهم هذه الأخبار عن ريح المسك الذي فاح منه عند موته لزمتهم التوبة والندم.

ولما وصلتهم الأخبار كيف مات، وهو يدعو الله عز وجل، على التوحيد هكذا انتصف له الله سبحانه وتعالى.

رفيقه في القبر

ثم إن هذا الرجل الذي كان عنده البخاري، أبو منصور غالي بن جبريل، صاحب الدار التي مات فيها البخاري، مات بعده بأيام، وأوصى أن يدفن إلى جنب البخاري.

هكذا عاش الإمام البخاري رحمه الله، عاش عيشة عظيمة، ليس فقط علم وإنما في خلق وفي دين، ويكفيه شرفاً أنه ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من إحدى ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

وأي علم أنفع مما تركه البخاري، فقد ترك لنا أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل،وهو كتاب الإمام البخاري ، فصار مرجع أهل السنة والجماعة.

وبعد أن تحدثنا عن هذا العالم الجليل، دعونا نتحدث عن عالم جليل آخر، هو من أشهر الفقهاء في زمانه فاق في علمه وفي فقهه إمام المدينة، الإمام مالك.

الليث بن سعد

لكن الفرق أن الإمام مالك كان له تلاميذ يدونون علمه وفقهه، وينشرونه في الآفاق، أما هذا العالم الجليل، فلم يقم تلاميذه به وهذا فيه درس العلماء.

العلم ليس فقط من كتب، وليس فقط بالحفظ، بعض إخواننا العلماء ما يكتب فلا ينتشر علمه، وبعضهم يكتب لكن ليس عنده تلاميذ وأنصار ومؤيدين، فلا ينتشر ويثبت فكره على مر الزمان.

وهذا العالم الجليل، يقول عنه الإمام الشافعي يقول: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

إذا هو الليث، الإمام الجليل الحافظ العظيم، شيخ الإسلام، الليث بن سعد بن عبد الرحمن، عالم الديار المصرية.

ولد في مصر في سنة 94 للهجرة، وبدأ فوراً منذ نعومة أظفاره يطلب العلم، وبدأ يرحل ويبحث عن العلماء الكبار يسمع منهم.

فسمع من عطاء بن أبي رباح شيخ العلماء، وابن أبي مليكة، ونافعة العمري وسعيد المقبري، وسمع من ابن شهاب الزهري، وسمع من أبي زبير المكي، وغيرهم.

وكانت له رحلات طويلة وكثيرة، وهذا مبدأ من مبادئ طلب العلم.

مبادئ يعلمنا إياها العلماء

ومن المبادئ التي نتعلمها، كيف يصل الإنسان إلى أعلى مراتب العلم، بأن يتعلم مباشرة على يد أكبر العلماء.

إذا وجد الإنسان فرصة أن يسافر فيتلقى العلم مباشرة من أعظم علماء زمانه، هذا أفضل من أن يتلقى العلم من علماء مدينته، التي قد يكون علماء المستوى العلمي محدود.

وهذا المنهج منهج طلب العلم، من أكابر علماء العصر، هو الذي رفع الليث بن سعد، رفعه درجة عالية.

يقول ابن بكير: سمعت الليث يقول: سمعت بمكة سنة 113 هجرية من ابن شهاب الزهري وأنا ابن عشرين سنة.

ويقول: كتبت من علم ابن شهاب علماً كثيراً، لم يكتفي فقط بالسماع، وإنما كان يكتب، فإذن يرحل في طلب العلم ويكتب من العلماء.

ودخلت على نافع، فسألني، فقلت: أنا مصري، فقال: من أي قبيلة؟ فقلت: من قيس، قال: ابن كم، قلت: ابن 20 سنة، فضحك وقال: لحيتك لحية ابن 40، وهو ابن عشرين سنة. 

حكايته في بغداد

خرج معه أبو صالح يروي القصة، يقول: خرجت مع الليث إلى العراق سنة 161 للهجرة، فخرجنا في شعبان وشهدنا الأضحى في بغداد.

يقول أبو صالح: قال لليث ونحن في بغداد: اسال عن منزل حسين الواسطي، واحد من أكبر العلماء، فقل له أخوك ليث المصري يقرئك السلام، ويسألك أن تبعث إليه شيئاً من كتبك.

يقول: فلقيت هشاماً، فدفع إلي شيئاً من كتبه، فكتبنا منه، وحضرنا عنده، وسمعتها مع الليث، فكان يبحث عن كبار العلماء ويحرص عليهم.

فبهذه الطريقة بالبحث عن أكابر العلماء والتلقي المباشر منهم صار الليث بن سعد فقيه مصر العظيمة، ومحدثها ورئيسها في جوانب الفقه والعلم.

حتى صار مرجع العلماء، وصار قاضي القضاة، ومرجع القضاة، وإذا احتاروا في قضية، رجعوا إلى رأيه وإلى مشورته.

ولذلك أبو جعفر المنصور أراد أن يجعله والياً على ذلك الإقليم الذي هو فيه من مصر، فطلب منه أن يتركه للعلم، واستعفى من المناصب الدنيوية.

هذا الليث بن سعد الذي وصل الى هذه المرتبة العالية من العلم والفضل، وللأسف يجهله الكثير من أبناء المسلمين.

شكر الله لكم حسن الاستماع لقصة الإمام البخاري والليث بن سعد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طارق سويدان

الإمام البخاري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى