شخصيات

قصة الأمير عبد القادر الجزائري

الأمير عبد القادر الجزائري : في مرتفعات منطقة كاشرو يتم افتتاح نصب تذكاري يرمز إلى الأمير عبد القادر الجزائري، في سنة 1949 وبينما تقبل الجزائر على حرب استقلال عظيمة، ستعصف بوجود فرنسي دام أكثر من مائة عام.

يقف الفرنسيون احتراماً للنصب التذكاري للرجل الذي قالت عنه الصحافة الأوروبية أنه حارب الفرنسيين بشرف.

على هذا النصب التذكاري حفرت عبارة تقول: لو أنصت لي المسلمون والمسيحيون لجعلت منهم أخوة ظاهراً وباطناً التوقيع الأمير عبد القادر .

كيف بدأت ملحمة الأمير عبد القادر الجزائري

الأمير عبد القادر الجزائري

يقال أن القصة بدأت في 30 من أبريل عام 1827 عندما صفع داي الجزائر بمروحته القنصل الفرنسي بير دوفال ولكن جذور القضية أكثر تعقيداً.

دخلت فرنسا القرن التاسع عشر بعد ثورة عنيفة منهكة مفلسة عاجزة عن توفير ثمن حاجياتها من الحبوب.

قبلت الجزائر إقراض القمح لجارتها الأوروبية التي تعيش اضطرابات لا تنتهي، وعرفت مجازر قام بها روبسبير.

وكذلك عرفت تقلبات عالمية كبرى نظراً لتحالف كل القوى الرجعية في ألمانيا والنمسا والمجر وبريطانيا ضد هذه الثورة الجديدة.

الدولة الوحيدة في العالم التي أيدت هذه الثورة هي الجزائر، إلا أن ربع قرن سيمر دون أن تسدد فرنسا ديونها.

بل إن الملك الفرنسي شارل العاشر رفض بكل تعجرف الاعتراف بهذا الدين الذي فاوضته أولى حكومات الثورة.

هذا الغذاء والمال الذي تحول فيما بعد إلى نذير شؤم على الجزائريين، لأن هذه الديون كان المفروض أن تدفعها فرنسا ماطلت في دفعها رغم تخفيضها من 42 مليون فرنك إلى 3 مليون فرنك.

امتنعت الدولة الفرنسية عن دفعها بعملية تشويه للاتصالات التي حدثت بين بكري بوشناق وبين القنصل دوفال.

بداية احتلال فرنسا للجزائر

كان الإنزال في عام 1830 إيذاناً ببدء حملة الجزائر، تقدمت القوات الفرنسية في البر ومع تقدمها بدا واضحاً أن الجنود يحتقرون الأهالي.

تواترت المذابح وعمليات النهب وانتهاك الأعراض، ثم بعد ذلك ارتكبت فرنسا أول جزرة في تاريخها هي مجزرة العوفية.

وهي قبيلة قتل أفرادها عن بكرة أبيهم، حينما هجم عليهم دو ريفيكو وقوته العسكرية، وتمكنوا من قتلهم كلهم.

بل وأكثر من ذلك ومن خلال وثائق الفرنسيين، أنهم بقروا بطون النساء وقطعوا أقراط النساء من آذانهن وباعوها للسفير الدانماركي.

بدأت القبائل في رص صفوفها والتنظم لمقاومة الغزاة في مناطق عديدة، في الشرق تحت لواء أحمد باي آخر حكام مدينة قسنطينة العثمانيون.

أما في الغرب فقد اختار الثوار قائداً شاباً عمره 24 عاماً هو الأمير عبد القادر.

نشأةالأمير عبد القادر الجزائري

هذا القائد الذي لن ينساه التاريخ الأوروبي بسهولة فضلاً عن التاريخ الجزائري.

هو عبد القادر بن محي الدين يقال أنه من قبيلة آمازيغية كبرى، كما يقال أيضاً أن أجداده هم فقهاء من الجزيرة العربية سكنوا مرتفعات الجزائر منذ ألف عام.

ولد عبد القادر عام 1808 في قيطنا قرب مدينة معسكر بالغرب الجزائري، تعلم القراءة والكتابة مبكراً منذ الخامسة من عمره وحفظ القرآن وتفسيره.

اشتهر بأنه كان أصغر أخوته سناً وكان حافظاً للقرآن وأشهرهم بالفروسية، والدبلوماسية ضمن أسرته وعائلته.

كانت أمه للا زهرة إمرأة مثقفة، وتلقى عبد القادر تعليماً جيداً جمع بين الفقه والفلسفة والرياضيات في هذه الزاوية التي كانت تعتبر من أرقى زوايا الجزائر.

هنا تربى على التراث الصوفي للشيخ ابن عربي، شيخ التصوف المغاربي، الذي كان يحلم بعالم تجتمع فيه كل الديانات على الحب.

لعبت هذه الزوايا دوراً مهماً في تربية الإنسان الجزائري وتعليمه حتى أن نسبة الأمية في تلك الفترة كانت أقل بكثير من مثيلاتها خلال فترة الاستعمار الفرنسي.

الزوايا كان لها دور كبير جداً في نشر العلم والمعرفة، الفرنسيون وعلى رأسهم الجنرال دوما يقول حينما دخلنا إلى الجزائر كان الجزائريون يزيدون عن 98% بإمكانهم القراءة والكتابة وكتابة العرائض.

يعني ذلك أن التعليم ولو كان أهلياً بسيطاً فقد أدى دوره على الأقل في مسألة محو الأمية نشر التعليم.

الأمير عبد القادر الجزائري في طريق حجه إلى البيت الحرام

في سن 18 اصطحبه والده محي الدين إلى الحج، من تونس حيث كان أحمد باي يرسي جيشاً وطنياً وتعليماً عصرياً، إلى مصر حيث كان محمد علي باشا يقود إصلاحات ضخمة في المجالين العسكري والإداري.

نجحت هذه الإصلاحات في جعل مصر مستقلة عن سلطة العثمانيين والأوروبيين معاً.

وقابل زعامات عالمية معروفة على رأسها الشيخ محمد بن علي السنوسي الإدريسي الذي سيكون له شأن كبير جداً في العقود الست الأولى من القرن 19 إلى غاية 1859.

وكذلك سيتعرف على النهضة والتنوير الذي بدأ في مصر في أيام محمد علي باشا.

فكان يحلم ويسأل محمد علي كيف ندير عملة مستقلة في الجزائر كما في مصر ووجد محمد علي في هذا رؤية.

رغم صغر سن الأمير عبد القادر بانه يطمح لأن يستقل وأن يكون قائداً مستقلاً في وطن يتبع للخلافة العثمانية بشكل غير مباشر.

الحاج الصغير يعود دياره

عند عودته إلى الجزائر تدافع الأهالي لرؤية الحاج الصغير، ربما كان أبوه أو أحد المقربين من همس في أذن البعض أنه رأى في الحلم عبد القادر سلطاناً للعرب.

ولكننا الآن في سنة 1830 كانت العاصمة قد سقطت في يد الجيش الفرنسي، الذي بات يتقدم على طول السواحل الجزائرية باتجاه وهران.

أما محي الدين فقد كان منشغلاً بدعوة القبائل للجهاد وتقاطر الآلاف من الجزائريين للقتال تحت لوائه.

تحت أسوار وهران حدثت أولى المعارك الكبرى ضد أحد أقوى جيوش العالم معركة خسرتها القبائل الجزائرية المرتبكة والمشتتة.

ولذلك الجزائريون في تلك الفترة كما يقول المؤرخون كانت قد عرفت فراغ في النخبة السياسية بعد زوال النظام العثماني.

الجزائريون كانوا يبحثون عن أمل في قيادة سياسية وروحية ووجدوها في محي الدين لكن محي الدين اعتذر لزعماء الأعراش والقبائل وحتى زعامات الطرق الصوفية.

سواء في العاصمة الجزائر أو في الغرب الجزائري لأن سنه لا تسمح له بهذا. ما الحل وما البديل؟

مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري الشاب

في خريف سنة 1832 اجتمع جل القبائل الكبرى لاختيار قائد موحد وبايع الحاضرون الفارس الشاب أميراً لهم.

كان الجزائريون يطمحون ان تؤسس لهم دولة فجاء الاستعمار واستعمر الجزائر فأصبح لديهم دافع قوي لينشئوا دولة ويختاروا قائداً لهم وكان من حظ الأمير عبد القادر.

وقد قدروا بما يزيد على 10 آلاف وهذه بيعة عامة وخاصة في نفس الوقت وحدثت في فبراير عام 1832 بإعلان الأمير عبد القادر أميراً للمؤمنين وسماه والده ناصر الدين.

ثم بعد ذلك بدأ يفكر في تأسيس إو إعادة تأسيس الدولة والحكومة الجزائرية التي أتت عليها الحملة الفرنسية.

عاصمة الأمير عبد القادر الجزائري

أمر القائد الشاب القبائل الجزائرية بقطع علاقاتها مع الفرنسيين وعدم مغادرة أراضيها تحت أي إغراء كان.

وأطلق على جيشه الفتي إسم الجيش المحمدي كي يجمع كل الجزائريين على اختلافاتهم وصنع لنفسه عاصمة متنقلة تتحرك باستمرار على ظهور الجمال والخيل.

هي عبارة عن آلاف الخيم على شكل دوائر تنتقل بانتقال الأميرعبد القادر لأداء معاركه أو يترك في منطقة أمنة من المناطق المحررة تحت حماية المدفعية وفرق عسكرية متمرسة.

ثم يقوم الأمير عبد القادر برحلة طويلة جداً تزيد على 800 كيلومتر في الجنوب والجنوب الشرقي.

هذه العاصمة بالإضافة إلى غرابتها فقد كانت تحوي على مسجد ومكتبة وتحتوي على الشيوخ الذين يعلمون الأطفال والنساء وأمور الشرع والقرآن الكريم والحديث النبوي

مرحلة تجهيز الجيش

كان الأمير واعياً لخطورة فارق العدة فربط علاقات مع تجار السلاح الإنجليز وبدأت البنادق والذخائر الحديثة بالتدفق إلى معسكراته عبر خطوط إمداد منظمة.

من 1832 إلى 1833 مرحلة بناء جهاز عسكري الجيش المحمدي الغالب الذي أملى أسسه وإسمه الذي اسماه الأمير عبد القادر لم يتأسس بين عشية وضحاها.

هذا الجيش تأسس ما بعد 1833 وهذا الجيش أتى ثماره في معركة وهران معركة ولد ابراهيم ومعارك عديدة تذكرها الدراسات الفرنسية بشيء من الفخر.

إذا نظرنا إلى قوات الأمير عبد القادر في أقصى تعدادها في الجيش الذي أنشأه كان بحدود 6 آلاف أو 7 آلاف عسكري تثريباً دون الحديث عن المتطوعين.

ولذلك نرى أن الأمير عبد القادر لم يعتمد على المواجهة المباشرة وإنما اعتمد على ما يسمى بحرب الكر والفر أي حرب العمليات المباغتة.

حينما تخرج كتائب الاستطلاع الفرنسية تخرج للاستطلاع في المناطق أو لعملية تمشيط المنطقة أو لمعرفة هذه المنطقة كانت قوات الأمير عبد القادر تتربص بهذه القوات وتنقض عليها.

عمليات التربص هذه كانت تتم إما في الفترة المسائية قبيل الغروب أو في الفترة الصباحية، وأدى هذا لقطع خطوط الاتصال والإمداد الفرنسية وإشاعة الارتباك في صفوفهم.

المسألة الثانية أن الأمير عبد القادر كان يقوم بأسر الكثير من الفرنسيين وهذا ما يفسر في الحقيقة اضطراب السلطة الفرنسية وعلى رأسها القائد العسكري الفرنسي ديميشل.

الذي أجبر في آخر المطاف إلى توقيع المعاهدة ليتمكن من تحرير الأسرى الفرنسيين الأربعة الذين أسرهم الأمير عبد القادر في هذه الفترة بالذات.

معاملة الأمير عبد القادر الجزائري لأسرى الحرب

برغم بشاعة الحرب وضراوتها ظل عبد القادر وفياً لقيم إنسانية ستظل عالقة في ذهن أعدائه أنفسهم، فقام بوضع لائحة خاصة لمعاملة الأسرى يعتبرها البعض نصاً قانونياً سابقاً لمعاهدة جنيف.

خاصة أسرى معركة سيدي إبراهيم الذين قدروا بحوالي 311 أسيراً بين ضابط كبير بدرجة كولونيل إلى ضباط صغار إلى جنود وفيهم خبراء بالمدفعية وخبراء بالخرائط وخبراء بصناعة البارود إلى غير ذلك.

والأمير عبد القادر من خلال مواقفه من هؤلاء الأسرى بتغذيتهم وحمايتهم وإسكانهم ودفع نفقات يومية لهم رغم أنه في أمس الحاجة لدورو أو بوجو كما كانوا يسميه الفرنسيون.

إلى أن وصل أنه بعث قسيساً كي يأتي إلى الأسرى الفرنسيين ليقوموا بشعائرهم الدينية، هذا يدل على أن عماد فكره الديني النبوي من القرآن الكريم أنه لا إكراه في الدين.

تحرير المدن الجزائرية

تتالت انتصارات الأمير عبد القادر في أرزيو ومستغانم والهبرة ووهران وتلمسان، وغزوات حتى عام 1835 .

مما أدى إلى هياج في فرنسا وتم تغيير القيادات العسكرية وإرسال المزيد من القوات إلى الجزائر لإنقاذ الجيش الفرنسي المهزوم.

من عام 1833 لم ينهزم هزيمة عسكرية بالشكل الذي انهزمت فيه القوات العسكرية الفرنسية في خناق نطاح ومنطقة ما بين أرزيو ووهران.

ولا الهزيمة التي عرفتها القوات العسكرية الفرنسية في منطقة سيدي إبراهيم ما بين الغزوات وعين تيموشنت.

ولا الهزائم العسكرية التي تلقتها القوات الفرنسية رغم التفوق العددي والقدرة القتالية وحدة الأسلحة والبارود الذي تملكه هذه القوات.

التضييق على الفرنسيين

صار عبد القادر قائداً حقيقياً يهابه العدو والصديق، وصل عدد جيشه إلى أكثر من 16 ألف مقاتل.

فاستغل الأمير هذه المكانة لجمع القبائل الجزائرية حول هدف واحد تجويع الجنود والمستوطنين الوافدين من أوروبا عبر وقف التجارة معهم وفرض عقوبات على أي شخص يبيعهم أو يشتري منهم.

الفرنسيون مروا بتجربة مرة حينما تم إجتماع برج البحري في العاصمة من طرف المقاومة لحصار العاصمة. وحصار العاصمة تجلى من خلال غلق الأسواق وعدم التعامل مع الفرنسيين.

وهذه الصورة تكررت مرة أخرى بأوامر من الأمير عبد القادر، المؤرخون الفرنسيون وعسكريون ذاك الوقت ذكروا أنهم لجأوا إلى لحوم الحيوانات للاقتيات منها وأكلها.

بالنسبة إليهم الجزائر بلد زراعي بالدرجة الأولى بمعنى أن الجزائر بإمكانها أن تمول أوروبا وفرنسا بالمنتجات الغذائية.

لأنه لو عدنا للدراسات والوثائق كانت فرنسا تبحث عن ما يشبع المجتمع الفرنسي من مواد استهلاكية ثم بعد ذلك تفكر في إسكان فائض سكان فرنسا في تلك الفترة.

معركة وادي مقطع

جن جنون الفرنسيين وخرج الجنرال تريزل بنفسه في جيش ضخم لمهاجمة مدينة معسكر حيث يتحصن الأمير وإنهاء هذا الحصار الاقتصادي.

تريزل شارك في معرك كبرى، منها معركة واترلو في جنوب بلجيكا التي في الحقيقة تعتبر من المعارك الكبرى التي في 1815 .

حينما نشاهد هذه المعركة الكبرى التي شارك فيها هذا القائد واكتسب الحنكة والتجربة نراه حينما يواجه شاباً صغيراً من مواليد 1808.

التقى الجيشان في أول مواجهة مباشرة في منطقة سيج قرب وادي مقطع، كانت القوات الفرنسية تتوقع انتصاراً سريعاً على خصومها الذين يواجهونها للمرة الأولى وجها لوجه.

وهذا التسرع الذي اعتمدته القوات الفرنسية لقلب موازين القوى في وقت سريع انتهزه الأمير عبد القادر واستدرج القوات الفرنسية إلى مستنقعات وادي مقطع.

انتهج الأمير سياسة التطويق وأفسح المجال للقوات الفرنسية لتتعمق وتدخل في وادي مقطع في نفس الوقت قوات الأمير عبد القادر أحاطت بالقوات الفرنسية من عدة نواحي دون أن تواجهها مباشرة.

يرمز المعلم الذي أقامه الجزائريون في مقطع إلى ذلك الانتصار الذي أدى برئيس الحكومة الفرنسية للقول إن احتلال الجزائر عملية خاسرة لم تنجح بعد.

معركة وادي مقطع كانت فضيحة كبرى للقوات الفرنسية وكانت واترلو ثانية الأمير عبد القادر تمكن من أسر 700 من الفرنسيين حينها.

عدد القتلى يتراوح بين 1500 و 1700 من القوات الفرنسية، والجرحى كان عددهم أضعاف ذلك.

توسيع الحملة الفرنسية على الجزائر

جن جنون الحكومة الفرنسية وأصدر قرار بالقضاء على انتفاضة عبد القادر بأي ثمن كان، انقاذاً لهيبة الدولة.

طيلة أشهر طويلة نقلت السفن عشرات الآلاف من الجنود من كل المستعمرات الفرنسية حتى بلغ عدد الجيش في الجزائر أضعاف ما حشدته فرنسا لحربها الكبرى مع انكلترا.

حتى السلطة السياسية الفرنسية تغيرت ثلاث مرات في عهد الأمير عبد القادر لأن هناك علاقة بين ما يحدث في الجزائر من عمليات عسكرية وبين تغيير السلطة والقيادات.

لأن الغاية هو ترسيخ التواجد الفرنسي في الجزائر وهذا لم يحدث وهذا ما يفسر تغير السلطات في فرنسا.

برغم ذلك تواصلت العمليات الخاطفة والجريئة لقوات الأمير في كل مكان من المرتفعات الداخلية إلى المناطق الصحراوية الوعرة.

وتم تحرير مدينة وهران والتقدم باتجاه تلمسان مع حلول سنة 1836. فقرر الفرنسيون التفاوض.

معاهدة تفنى

الجنرال بيجو كان يبحث عن هدنة لترتيب أوضاع مستعمراتهم الجديدة ولذلك أقيمت معاهدة شهيرة بعد معاهدة دي ميشيل في 30 ماي 1838.

كان الموعد في تفنى على الساعة التاسعة صباحاً تخلف عبد القادر عمداً عن الذهاب إلى موعد اللقاء فاضطر الجنرال بيجو لقطع ميال طويلة حتى وصل بنفسه إلى معسكر الأمير.

كان هذا إهانة لأحد أكبر القيادات الفرنسية ولكن عبد القادر بدا غير مكترث لذلك، تنقل لنا التقارير الفرنسية الكلمات القليلة التي تبادلها الرجلان.

رغبة فرنسا الجامحة في المسألة الاقتصادية ووضع بند في معاهدة تفنا لأن فرنسا كانت بحاجة ماسة للغذاء نظراً للأزمات التي تعرضت لها وخاصة المجاعة وبالتالي كانت تصر على هذه المسالة.

بالمقابل الأمير عبد القادر كان يرى أن تلمسان هي الممر الرئيسي للأراضي المغربية وهي منطقة حدودية ومتنفس مهم للأمير عبد القادر.

وبنود المعاهدة فيها ما يمكن أن يكون مجالاً للتجارة، الأمير عبد القادر طلب المدافع والبارود وطلب إطلاق سراح الأسرى الجزائريين عند الجنرال بيجو.

والقوات الفرنسية وبالمقابل تقوم فترة سلم ام بين دولة الأمير التي اعترف بها الجنرال بيجو ودولة بيحو في تلك الفترة التي تميزت باضطراب كبير.

اعترفت المعاهدة بسلطة الأمير عبد القادر على مساحة تقدر بثلثي الجزائر الحالية، بينما ترك الفرنسيون لأنفسهم الشريط الساحلي بحواضره الكبرى كوهران والجزائر.

أثر المعاهدة على أحمد باي والشرق

جعلت هذه المعاهدة ثورة أحمد باي في الشرق وحيدة في وجه قوات الاحتلال القادمة بكثافة من الغرب، بعدها بأشهر قليل تسقط مدينة قسنطينة نهائياً بعد سنوات من المقاومة.

وبمجرد توقيعه معاهدة تفنى تمكنت القوات الفرنسية من نقل كل قواتها باتجاه الشرق والتخلص من أحمد باي وهذا ما يفسر هزيمة أحمد باي في أواخر 1837 ولم يكن قد هزم في المعركة الأولى عام 1836.

أحمد باي في مذكراته قال أن الأمير عبد القادر أقام معاهدة تفنا من أجل أن تقوم فرنسا بالقضاء عليه.

لأن الأمير عبد القادر لا يعترف بأحمد باي لأنه يعتبره امتداد طبيعي للدولة التي تسببت باحتلال فرنسا للجزائر.

والواقع أن الأمير عبد القادر كان في مرحلة تراجع ولذلك كان لم يعقد هذه الاتفاقية من مركز قوة، بل كانت باب من أبواب استعادة القوى وجمع الموارد.

لأنه كان وحيداً في هذه الثورة هو والجزائريين ولم يكن هناك أي دعم من أي دولة أخرى.

نقض الفرنسيون للمعاهدة

ولكن مدينة قسنطينة ستكون سبباً في عودة التوتر بين الطرفين، كان عبد القادر يصر على حق الجزائريين في إدارة المدينة بينما يرفض الفرنسيون التنازل عنها.

عودة المواجهات جاءت عام 1839 التي رأى فيها الأمير عبد القادر أن سلطة الاحتلال أخلت بأحد أم بنود معاهدة تفنى وأن هذه المناطق الشرقية تحت سيطرة الأمير وليس تحت سيطرة فرنسا.

وسط التضاريس الوعرة لمنطقة الهضاب العليا في الشرق تعود الكمائن الخاطفة لقوات الأمير. وهي منطقة جبال، يمكن لفرقة صغيرة تحوي 330 رجلاً صد جيش من 1200 من العسكريين.

ومن الطبيعي أن هذه المنطقة كانت شرسة لم تتمكن منها القوات العسكرية الفرنسية إلا بعد سنوات طويلة لغاية عام 1857.

في نواحي سطيف وبرج بوعريريج وقسنطينة كانت من انتصارات الأمير عبد القادر ومنع القوات الفرنسية من الدخول إلى المناطق الجنوبية.

حملة الأبواب الحديدية

ومع اواخر سنة 1839 يتصاعد العنف بشكل غير مسبوق أطلق الفرنسيون على حملتهم الجديدة إسم الأبواب الحديدية لم تعرف الجزائر منذ احتلالها حرباً بتلك القسوة والوحشية.

تم الاعتداء على النساء والأطفال وحرق قرى بكاملها انفرط عقد التحالفات تحت تأثير الخوف وكانت القبائل تعلن الولاء للفرنسيين وتنقلب على الأمير الواحدة تلو الأخرى.

تحت الضربات والقمع والإبادة وسياسة الأرض المحروقة التي مارستها سلطات الاحتلال الفرنسي نرى ان هذا ما جعل الكثير من القبائل تبتعد تحت الضغوطات عن مساندة الأمير عبد القادر.

الأمير لم يبق ذلك الشاب الشهم القوي الذي كان يحيط به الفرسان على درجة عالية من القوة والفداء، بدأ يفقد أنصاره واحداً واحداً.

في سنة 1844 يخسر الأمير موقعة الزمالة وتسقط العاصمة المتنقلة في يد القوات الفرنسية بينما تتناقص قواته أكثر فأكثر.

كانت اللحظة قد حانت للتراجع إلى  الأراضي المغربية حيث حليفه القوي السلطان مولاي عبد الرحمن.

وهذا ما جعل القوات الفرنسية تتحداه وتقدمت وتمكنت من ضرب القوات المغربية في مدينة وجدة مع ملاحظة أن الأمير عبد القادر قد نبه مولاي عبد الرحمن بأنه لا يملك القوة لمواجهة القوات الفرنسية.

ولكن الرأي العام المغربي المساند للثوار الجزائريين يدفع مولاي عبد الرحمن لمواجهة الفرنسيين، يخسر السلطان معركة إيسلي وتنهار القوات المغربية بإمكانياتها البسيطة أمام القصف العنيف.

لا مورسير تدخل من الجهة الشرقية إلى الأراضي المغربية وتمكن من ضرب وجدة، لكن لو نظرنا إلى الجهة الغربية نجد القائد العسكري جوينفيل.

الذي تمكن من ضرب العديد من المدن الساحلية المغربية مثل السويرات وكذلك بدأ يهدد بالتقدم نحو مدينة فاس.

وهذا الأمر هو الذي جعل السلطان يجبر في آخر المطاف وبعد معركة إيسلي بالقبول بتوقيع معاهدة مع السلطات الفرنسية المحتلة باسم صلح طنجة في سنة 1844 ومن ثم معاهدة للا مغنية في عام 1845.

التراجع والاستسلام

في مرتفعات الجزائر الداخلية كانت قوات الأمير القليلة قد صارت منهكة ضعيفة ومحاصرة، وكان الأمير عبد القادر يعيش حالة تراجع على المستوى العسكري.

ولذلك كان الصراع بينه وبين الفرنسيين له ثلاثة حلول إما يدخل في حرب مع الفرنسيين إلى غاية الاستشهاد وهذا انتحار أو أن يذهب إلى منطقة سعيدة وهي مملوءة بالقلاع الحربية للفرنسيين.

أو أن يدخل إلى المغرب فيسلمه أتباعه السابقين من البوتشيشية. ومع آخر أيام سنة 1847 يفضل الفارس الجزائري ترك السلاح على المذبحة.

بعد 17 عاماً من الكفاح خاض خلالها 116 معركة ضد 120 جنرالاً لخمسة ملوك فرنسيين.

لم يكن الأمير لديه القوة الفاعلة ليزيل فرنسا بمائة الف جندي تقريباً في آخر هذه الحرب، وحوصر من قبل الجبهة المغربية ومن قبل الفرنسيين.

حتى أن وصل به الحال أنه حمل بعض من عائلته على كنفه وعبر نهر ملوية في الغرب الجزائري.

هل استسلم الأمير؟

في فجر ذلك الشتاء القاسي عبر الأمير نهر ملوية على الحدود المغربية الجزائرية ربط جواده بشجرة عند مقام سيدي ابراهيم وصلى صلاة العصر.

ما نعلمه من أجدادنا بالتواتر عما قاله قلب الأمير ولسانه أنه لم يستسلم أبداً وما كتبه الفرنسيون هو خدعة قاموا بها ليجعل غصة في قلوب رموز الجزائريين والمسلمين بشكل عام.

هو أسر في الحرب واقتيد وقد أبرم شبه معاهدة مع الملك لويس وأرسل لويس ولده دوغدومال الذي كان ضابطاً في الجيش الفرنسي وأخذ وعده على أنهم نبلاء.

كان ينوي السفر إلى الإسكندرية ويدع ما بينه وبين قومه ثم يسافر مع من أحب إلى الاسكندرية ثم إلى أي أرض إسلامية يشاء، وأن تطلق أسرى الجزائريين والفرنسيين.

وافق الفرنسيون على هذا الأمر ولكنهم كانوا ينتظرون استسلامه وأن يعترف لهم بانتصارهم لكنهم بأنفسهم من خلال كتاباتهم يقولون إن الأمير عبد القادر سلّم سيفه ولم يستسلم.

تجسد لوحة عملية تسليم السلاح في ميناء مدينة غزوات في 23 ديسمبر كما أراد الفرنسيون  أن يصوروها.

بات الأمير ليلة واحدة في الطريق إلى وهران هناك حيث كان الطريق إلى المنفى جاهزاً، لكن فيما بينهم كانوا ينوون شيئاً آخر.

هذه كانت أول محنة يدخل فيها ويتعلم أنهم يخونون العهود، وعادة عرف في التاريخ أن الملوك وإن كانوا على غير دين الإسلام، يوفون بعهودهم.

إلى المنفى في فرنسا

غادر الأمير وهران على متن فرقاطة بخارية تدعى سمودي باتجاه مدينة طولون الفرنسية عوض الاسكندرية كما تعاهد الطرفان.

مع تسعين مرافقاً هم مجمل عائلته وأتباعه الذين سيصحبونه على دروب منفاه الطويل الذي سيمتد إلى 36 عاماً.

طولون، حصن لا مالك الظروف سيئة للغاية، البرد، الرطوبة، العزلة، بدأ المرض ونذر الموت يستشريان في صفوف الأسرى أمام هذا الخطر المخدق بصحتهم يقرر الفرنسيون نقلهم إلى قصر بو الحصين.

ولكن الحدود الإسبانية كانت قريبة ومعها خطر تسلل الجزائرين أو حتى حلفائهم الانكليز لتحرير الأسرى.

ورغم وجود جنود في صفوف الأمير عبد القادر من أصول إسبانية قد انشقوا عن الجيد الفرنسي لينضموا إليه لم يكن هذا هو سبب الخوف الفرنسي منه.

كانوا يتخيلون أن الأمير عبد القادر يسعى لاستعادة السلاح، مع أنه أعطاهم عهداً من اليوم الأول ووقع اتفاقاً بأن لا يحارب فرنسا ثانية.

الإقامة في أمبواز

كانت ثورة 1848 قد أجبرت الملك الفرنسي لوي فيليب على التنحي، مارس العسكر ضد الثوريين الفرنسيين نفس القمع الوحشي الذي مارسوه في شمال أفريقيا.

وتتالت المذابح والاعتقالات لتثبيت نظام جديد خاضع للسلطة العسكرية. وفي ظل هذا الوضع تقرر نقل الأمير إلى إقامة أكثر أمناً في مدينة أمبواز.

بدأت رحلة شاقة طويلة للزعيم العربي ورفاقه عبر البحر والبر والأنهار وسط برد قارص وضباب كثيف.

وكانت السفينة التي نقلته عبر نهر اللوار من نانت إلى أمبواز سفينة شحن بضائع وليس للبشر وذلك لدواع أمنية أساساً.

تحط الرحال في أمبواز ويتدخل محافظ المدينة بأمر من المجلس العسكري لمنع الأهالي من تنظيم مأدبة على شرف الأمير عبد القادر.

حيث وصل في العاشرة ليلاً في 8 من نوفمبر 1848 وكان العسكر بانتظاره، وظل طيلة سنوات ممنوعاً من مغادرة سجنه رغم تزايد زيارة أهالي أمبواز له.

ورغم ذلك أصبح صديقاً لقسيس الذي كان يرعى الكنيسة هناك، ولعب المترجم غابو دوراً كبيراً في رفع الحظر عنه.

تدافع المواطنون الفرنسيون لزيارة الفارس العربي الأسير الذي بدا شبيهاً بأبطال الحكايات في قصره المحاصر.

لم يكن الأمير عبد القادر الجزائري يعرف أنه سيظل سجين حصن أمبواز حتى عام 1852 في ظروف مزرية وشديدة الصعوبة.

لم يكن القصر يتوفر فيه سوى سريرين لأكثر من 120 شخصاً يتداول على حراستهم مئات الجنود.

كانت الظروف سيئة بالإضافة إلى البعد عن الوطن. ونوعية الحياة المختلفة عما في الجزائر ورغم أن أغلب مرافقي الأمير عبد القادر مثقفون لكنهم في النهاية فلاحون تم سجنهم في مكان مغلق.

الموت يلاحق الأسرى

بعدها بأشهر قليلة يبدأ الموت بالتسلل إلى المكان، فقد ضربت الكوليرا بقوة في تلك السنة صفوف الرجال وماتت نساء بفعل الاكتئاب الشديد.

ولقي 19 طفلاً مصرعهم تحت تأثير البرد القارص الذي لم يعتادوه في بلدهم الأصلي.

وتدخل بعض الناس وخاصة القسيس والذي صار مع الوقت صديقاً للأمير، وفي النهاية سمح له بمغادرة القصر. وحتى الأوضاع السياسية في فرنسا تحسنت بدورها.

برغم صعوبة الوضع يستغل الأمير وجوده في أمبواز لفتح حوار ثري مع المثقفين ورجال الدين المسيحيين الذين كان يستقبلهم في صالون ثقافي.

وربطته صداقة قوية بكبير القساوسة في أمبواز وبأسقف الجزائر السابق انطوان ديبوش الذي عبّر في رسالة هل عن استغرابه في تأخر الحكومة الفرنسية  في الوفاء بوعودها لفارس كبير.

قال له حينها نابليون أن الأمر يتجاوزه لكن بعد تدخل الانكليز وشعور نابليون فيما بعد بقوته السياسية جاءت اللحظة المناسبة وتوجه من بوردو إلى أمبواز لتحريره.

في عام 1852 يتوجه نابليون الثالث بنفسه إلى أمبواز ليعلن لعبد القادر أن الدولة الفرنسية عازمة على الوفاء بوعدها الشاب وأنه سيستعيد حريته مع بقية مرافقيه.

تتوقف القصة هنا بالنسبة للفرنسيين كما هو الحال بالنسبة للجزائريين، أما بالنسبة للأمير عبد القادر فإن نصف عمره سيرتبط بهه العودة إلى الشرق التي طالما تمناها.

المنفى الأخير

دمشق، العام 1855، كانت سورية ما تزال تحت سلطان الباب العالي العثماني، هنا لجأ محي الدين بن عربي هرباً من القمع، الرجل ال1ي كان له التأثير الأكبر في التربية الروحية للأمير عبد القادر.

استقبل من طرف الوالي وجهاء دمشق ونقيب أشراف الشام الشيخ الحمزاوي وقدم له الحمزاوي داره مكان داره الذي كان يشتهر بأنه مكان الشيخ الأكبر ابن عربي.

الأمير عبد القادر عاش في هذا البيت كزعيم جزائري بل نستطيع القول مغربي فقد كان ليس زعيماً للجزائريين فقط، بل للكثير من المغاربة الذين كانوا يسكنون دمشق.

في بيت محي الدين بن عربي سيستر الأمير عبد القادر، هنا اتخذت حياته نفس النظام الدقيق شبه العسكري المحبب لنفسه.

ينهض يومياً قبل صلاة الفجر، يبدأ يومه بالصلاة والتأمل والتفكير ثم يجتمع حول مائدة الإفطار مع أبنائه، بعدها يلتقي بالطلبة.

تتمحور حلقات التدريس يومياً حول كتاب الفتوحات المكية لابن عربي، ستترك لنا هذه الحلقات تاباً شهيراً للأمير هو كتاب المواقف.

( تتصارع الأمم اليوم وتدمر بعضها، من أجل أن يرفع كل منهم راية دينه، ولكن حب الناس أكبر من كل الأديان، لو استمع إلي الناس سأصالح المسلم والنصراني واليهودي )

توجهه إلى التأليف

للأمير عبد القادر الجزائري عدة مؤلفات منها ما كتبه في سجنه في أمبواز في فرنسا ومنها ما كتبه في دمشق.

وأهم هذه المؤلفات هو كتاب المواقف الذي كتبه في دمشق بطلب من بعض علماء دمشق وأصدقائه.

يتألف الكتاب من 372 موقفاً كلها في التصوف ووجدت بأ أهم مخطوطة موجودة في متحف الجيش في الجزائر العاصمة.

وهذه المخطوطة في ثلاثة مجلدات كانت قد أهدتها الأميرة أمل إلى السفارة الجزائرية بعد وفاتها في دمشق حوالي عام 2005.

شغفه في كتابة الرسائل

بعدها تفرغ الأمير لكتابة الرسائل لصديقه ريمي الذي يترأس أحد البنوك السويسرية أو للراهبة المسيحية التي عالجت زوجته في أمبواز أو لنابليون الثالث. كان الزعيم الجزائري شغوفاً بمراسلة الناس.

الأمير عبد القادر رجل دولة سياسي وعالم، الأمير عبد القادر كان يرسل الرسائل للملوك والرؤساء والأمراء من أجل خدمة قضايا إنسانية .

من بين الرسائل المعروفة التي أرسلها الأمير عبد القادر هي رسائله إلى الإمبراطور الروسي للشفاعة في المجاهد الكبير شامل الداغستاني.

والذي كان قد شارك في حرب القوقاز ضد الإمبراطورية الروسية ونظراً لمكانته العالية وشخصيته الكبيرة فقد أطلق سراح الشيخ شامل.

أعماله وأياديه البيضاء

لم يكن يخفي ولعه بالسياسة فكان حاضراً في كل شؤون مدينة دمشق، يدير صالوناً ثقافياً ويجمع التمويلات لتهيئة الطريق الرابطة بين دمشق وبيروت. وحتى أصبح عضواً في المجلس البلدي في المدينة.

شارك في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكان له دور كبير وكان يتبع له حوالي ألف فارس من الفرسان مع ما يتطلبه الأمر من تجهيزات عسكرية وقيادتها من واجبات عليه.

ومن أهم الأدوار السياسية التي ركز عليها المؤرخون هو دور الأمير وأياديه البيضاء في الأزمة التي حدثت في دمشق في عام 1860.

الفتنة التي ضربت دمشق

في سنة 1860 يتسبب قرار من السلطة العثمانية برفع القيود عن التجارة الدولية في استثراء بعض التجار المسيحيين بشكل كبير، تسبب هذا في تنامي الشعور بالغبن لدى الطبقات الفقيرة من المسلمين.

وتحت تأثير دعوات متطرفة تفجرت فتنة طائفية بشعة. دمرت كنائس ولقي أكثر من 10 آلاف مسيحي حتفهم في ظروف مأساوية.

دمشق القديمة، حي باب توما كله دمر وأحرق لم يجد المسيحيون من يلتجؤون إليه إلا حي الميدان والحي الذي كان يقطنه الأمير عبد القادر الجزائري.

جمع الأمير أتباعه وكون جيشاً صغيراً للتصدي للعدوان على المناطق المسيحية واستقبل في بيته آلاف اللاجئين. أدى هذا لنجاة عدد كبير منهم من المذبحة. تحول المير إلى أسطورة في العالم المسيحي.

وعندما فاض عدد اللاجئين إلى بيته طلب من حاكم دمشق أن يسمح له بوضع المسيحيين الملتجئين في قلعة دمشق وهكذا كان.

وكان هو مع بعض العائلات المسلمة الكبرى في دمشق مثل آل الميداني وآل سكر تعاون معهم ليوفر لهم كل حاجاتهم.

بعد موقفه الشهير في حماية المسيحيين في بيته والبيوت المجاورة بالاتفاق مع مشايخ دمشق جاءته أوسمة من أمريكا وبريطانيا ومن فرنسا وروسيا والنمسا التي كانت في ذلك الوقت إمبراطورية.

وحاول أن يرأسه كبار القناصل وكبار المفكرين في ذلك العصر.

ما تزال هذه الرسائل والأوسمة محفوظة في غرفة خاصة في بيته الصيفي المقام في ضواحي منطقة دمر في مدينة دمشق. من ملك اليونان إلى ملكة إنجلترا وصولاً إلى السلطان العثماني.

مساعدة الأمير عبد القادر في بناء قناة السويس

بعد هذه الحادثة استدعاه الخديوي اسماعيل لمساعدته في التصدي للفتاوى المتشددة التي حرمت مشروع قناة السويس.

سيقضي الأمير آخر سنوات حياته في دعم هذا المشروع بكل ما أوتي من قوة.

تعرض الخديوي إلى كثير من الانتقادات من علماء الدين بأن هذا العمل حرام بأن يقوم بفتح قناة السويس من باب تغيير جغرافية الأرض.

فاستعان بالأمير عبد القادر، وعند افتتاح القناة كان من كبار الحاضرين هو الأمير عبد القادر.

ورمزية وجوده في الصورة التاريخية أن الخديوي اسماعيل أوقف أميراً مثل الأمير عبد القادر من منفاه في وسط الصورة ووقف إلى جانبه ليعطيه صدارة الصورة

وفاة الأمير عبد القادر الجزائري

سنة 1883 توفي الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري عن 76 عاماً. سيحمل الجزائريون صوراً متناقضة عن أميرهم

لرجل حارب وفاوض 17 عاماً ضد أقوى جيش في عصره ولكن ايضاً لرجل يقول بعض المؤرخين الفرنسيين أنه استسلم.

ولكن العالم سيحمل عن الأمير صورة رجل حارب بشرف دون ضغينة، ودافع عن قيم التعايش والتسامح كما تعلمها في كتابات بن عربي.

إن وفاة الرجل لم تنهي جهاده، ولا بد أن نعلم وللتاريخ كذلك أن هذا الرجل قد ترك لنا سلالة واصلت الجهاد والكفاح.

إن حفيده عبد الملك عاد إلى المغرب وشارك عبد الكريم الخطابي في مقارعة الاحتلال الفرنسي.

حفيده الأمير خالد الذي كان له كذلك وقع كبير في بناء وتأسيس الحركة الوطنية السياسية في الجزائر.

فهو من مؤسسي حركة شبان الجزائريين عام 1912

مآثر الأمير عبد القادر الجزائري

من مآثر الأمير عبد القادر بالإضافة إلى نضاله المشرف ضد الفرنسيين أنه كان أيضاً مثقفاً كبيراً ولم يكن فقط رجل حرب، وإنما رجل سلام وثقافة وتفهم وتعايش وبين بني البشر جميعاً.

الأوروبيون والغربيون يسمون باسمه مؤسسات وشوارع في البرازيل والأرجنتين وفرنسا تحمل إسم الأمير عبد القادر.

مدينة بأكملها في أمريكا تدعى القادر تكريماً لهذا الإنسان والعالم ولهذه الشخصية التي لها مكانة كبرى في تاريخ العلاقات الدولية.

يحسن بكل عربي ومسلم أن يقتدي به ويحاول أن يتشبه به، سلام على روحه.

في سنة 1966 يقوم النظام العسكري للرئيس بومدين بإرسال طائرة خاصة لإعادة رفاة الأمير عبد القادر إلى الجزائر.

حمل الجنود نعش الفارس في جنازة مهيبة حضرها آلاف الجزائريين. أطلقت بعض الرصاصات في الهواء وصرخت عشرات الحناجر بتحية عسكرية. ثم أغلق القبر.

المصدر

قناة الجزيرة

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com

ماكتيوبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى