محمد بن سيرين أبو بكر البصري الأنصاري مولاهم، من سادات أهل البصرة. ومن علماءهم ومن زهادهم ومن أهل الورع فيهم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهياً.
قال عبيد الله بن يحيى رحمه الله: حدثني عن مالك عن أيوب بن أبي تميم السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ص لى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟
فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلى الله لعيه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع.
العالم محمد بن سيرين
محمد بن سيرين أبو بكر البصري الأنصاري مولاهم، من سادات أهل البصرة. ومن علماءهم ومن زهادهم ومن أهل الورع فيهم.
وهو من الموالي من سبي عين التمر، وعين التمر بلدة في العراق تقع غربيس كربلاء، على بعد أربعين كيلومتراً تقريباً.
وكان فتح عين التمر سنة 12 للهجرة، فتحها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان سيرين أبو محمد مولى لأنس بن مالك رضي الله عنه.
ومحمد بن سيرين كان إماماً فقيهاً محدثاً رفيع القدر، زاهداً من أورع أهل البصرة.
دخوله السجن
ذكروا من ورعه أموراً، قالوا: إنه لما حبس في السجن، قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك فإذا أصبحت فتعال. فقال له: لا والله لا أعينك على خيانة السلطان.
وكان سبب حبسه أنه اقترض مالاً ليتاجر به، فاشترى به زيتاً، ووجد في زق فأرة، فقال هذه الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله ولم يقدر على الوفاء بدينه فحبس في ذلك الدين.
وكان يقول: عيرت رجلاً بالفقر منذ ثلاثين سنة، أحسبني عوقبت بهذا.
هذا القول من محمد بن سيرين ذكرها أحمد بن أبي الحوالي لعبد الله بن السري، فقال له: عبد الله يا أحمد قلت ذنوبهم فعلموا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فلسنا ندري من أين نؤتى.
قصة في ورعه
ومن ورعه رحمه الله، أنه ادعى عليه رجل درهمين، فقال له محمد بن سيرين ليس لك عندي شيء، فقال المدعي: أتحلف، فقال ابن سيرين: نعم.
واليمين تكون في أشياء تستحق ذلك وليس درهمان، فتعجب الناس، وقالوا لابن سيرين: يا أبا بكر أتحلف على درهمين؟ فقال لهم: لا والله لا أطعمه حراماً وأنا أعلم.
محمد بن سيرين خوفه من إبداء رأيه
وكان إذا سئل عن الفقه، وعن الحلال والحرام، تغير كأنه ليس بالذي كان، وقال عاصم الأحول: كنا نأتي محمد بن سيرين فنسأله عن المسألة فيقول: ليس لي فيها إلا رأي اتهمه.
أي لا يروي فيها حديثاً، فيقولون له: قل بها برأيك. فيقول لهم: لو كان رأيي ثبت لقلت به لكن أخشى أن أرى اليوم رأياً وأرى غداً رأياً غيره، فاحتاج أن أتبع الناس في بيوتهم.
وأنتم الآن لا يغيب عن أذهانكم أن محمد بن سيرين عراقي، وذكرنا لكم أن العراق موطن الرأي، والحجاز موطن الأثر؟.
بين العراق والحجاز في الرأي والأثر
لكن لا ينبغي أن يفهم هذا أن العراق كانت خالية من أهل الأثر، ومن أهل الحديث، وممن كانوا يتهمون رأيهم ولا يتورعون عن الإتاء به.
ذكرنا ترجمة أيوب السختياني، قيل له مرة: لم لا تقول برأيك؟ فقال: سئل الحمار لم لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل.
فالعراق لا يخلو مذهب أهل العراق من الأثر، كما لا يخلو مذهب أهل المدينة من الرأي، ولا يعزب عنكم ربيعة الرأي.
مجلس الحسن البصري
قال عاصم الأحول: كنا ندخل على الحسن البصري وعلى ابن سيرين، فإذا دخلنا على الحسن البصرين إنما هو النار والآخرة والموت. هذا كان حديث الحسن البصري رحمه الله.
لذلك إذا قيل له: أنت تكثر تخويف الناس، كان يقول: لأن تجد من يخوفك حتى تلق الأمن خير لك من أن تجد من يؤمنك حتى تلق الخوف.
فهذا كان يغلب على الحسن البصري.
مجلس محمد بن سيرين
قال وكنا ندخل على محمد بن سيرين، فكان يمزح ويضحك ويحدثنا، فإن أردته على شيء من دين، كنت إلى أن تنال السماء أقرب ما تريد. ومات رحمه الله سنة 110 .
ومن كلامه الذي جرى مجرى الأمثال، قوله: التقي عن الخطائين مشغول. وهذه كلمة فيها عبرة لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.
وكان يقول: أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكراً لخطايا الناس. رحمه الله.
عصبية العرب في السيادة
محمد بن سيرين من الموالي، وليس من العرب، وسمعتم أنه كان من سادات أهل البصرة، والعجب أن العرب لا تسود إلا عربياً.
العرب لا تسود فيها الموالي، أبناء الأعاجم، بل إن العرب ما كادت تسود أبا بكر وهو قرشي، وليس بهاشمي.
ولذلك لما ولي الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبوه: لما أخبر أن ابنه ولي الخلافة، وولته قريش أمرها، بنو هاشم أمرها وبنو قيلة الأوس والخزرج، قال: ورضيت بذلك قريش؟
العرب ربما ترددت في تولية أبي بكر، فكيف تسود الأعاجم الموالي؟ بالعلم، وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
ما سودهم غير هذا العلم.
طرائف في السيادة
ومن الطرائف التي تتعلق بهذا ما ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد دعاه عيسى بن موسى، وهو أحد أمراء بني العباس، وابن أخي أبو العباس السفاح، أول خلفاء بنو العباس.
قال دخلت عليه، وكان شديد العصبية للعرب، فقال: من كان فقيه البصرة؟ فقال ابن ابي ليلى: الحسن البصري. قال: ثم من؟ قال: ابن سيرين؟ قال: فما كان هذان؟ قال: من الموالي.
قال: فمن كان فقيه مكة؟ قال: عطاء بن يسار ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار. قال: فما كان هؤلاء؟ قال: من الموالي.
قال: فمن كان فقيه المدينة؟ قال: محمد بن المنكدر وزيد بن أسلم. قال: فما كان هذان؟ قال: موليان.
قال: فتغير لونه. قال: فمن كان فقيه قباء؟ قال: ربيعة الرأي وابو الزناد. قال: فما كان هذان؟ قال: من الموالي. قال: فاربد وجهه.
قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قال: طاووس وابنه وهمام بن منبه. قال: فما كان هؤلاء. قال: موالي.
قال: فتغير لونه وانتصب قاعداً. فقعد. قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قال: عطاء الخرساني. قال: فما كان؟ قال: مولى.
قال: فازداد وجهه تربداً. قال: فمن كان فقيه الشام؟ قال: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قال: مولى. قال: فاسود وجهه اسوداداً حتى خفته.
فقال: من كان فقيه الكوفة؟ قال بن ابي ليلى: فوالله لولا أني خفته، لقلت الحكم بن عيينة وعمار بن أبي سليمان، ولكني رأيت في وجهه الشر، فقلت: ابراهيم الشعبي.
قال: فما كان هذا؟ قال: عربي. فقال: الله أكبر. وسكن جأشه.
محمد بن سيرين وتفسيره الرؤيا
ومحمد بن سيرين يرتبط اسمه بتفسير الرؤى، وكان في ذلك رحمه الله شيئاً عجباً، جاءه إنسان فقص عليه رؤيا وأنه يرى نفسه يختم على افواه الرجال والنساء وعلى فروجهم.
فعبرها بأنك تؤذن في رمضان، وكذلك كان.
وتعبير الرؤى هو العبور من ظاهرها إلى باطنها، هذا هو التعبير، وورد في القرآن العظيم وفي السنة المشرفة، سور لتعبير الرؤى.
فقد عبّر القميص بالدين والعلم، وأول البقر بأهل الخير والفضل والدين، وهناك سور كثيرة وردت في القرآن.
حتى قال ابن القيم رحمه الله: أمثال القرآن أصول وقواعد علم التعبير، لمن فهم ذلك وأحسن الاستدلال به.
أصول التعبير
وكل أصول التعبير إنما أخذت من مشكاة القرآن العظيم، فأولت السفينة بالنجاة لقول الله سبحانه وتعالى: فأنجيناه واصحاب السفينة.
وأول الصغير بالعدو، لقول الله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون له عدواً وحزنا.
وأول الرماد بالعمل الباطل، لقول الله تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف.
إلى آخر ما ذكر، لكن الذي ينبغي أن يفطن له، هو أنه ليس كل من رأى سفينة فإنه يعبرها بالنجاة، وليس كل من رأى صغيراً فإنه يعبره بعدو، وإنما ذلك يختلف اختلاف القرائن.
بحسب حال الرائي وزمان الرؤيا، وبغير ذلك من القرائن، ولذلك قال ابن خلدون رحمة الله عليه، علم التعبير هو علم بقوانين كلية، يعرفها المعبر يبني عليها التعبيربما هو أليق بالرؤيا.
ولذلك ضرب أمثلة، قال: البحر يؤول بالهم الفادح، وفي مواضع بالسلطان، وفي مواضع بالغيظ، والمعبر هو الذي يعرف تلك القوانين الكلية.
وعند سماع القرائن التي يستشفها من الرؤية يفرها على اللائق بما سمع، ومن رأى رؤيا سرته فإنه لا يحدث بها إلا محباً أو ناصحاً.
حديث الرسول الله في الرؤيا
لما رواد الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح، ثم من رأى شيئاً أحبه فليحدث به من يحبه.
ومن رأى شيئاً يكرهه فلا يحدث به أحداً.
النبي صلى الله عليه وسلم، بين للناس كيف يتعاملون مع الرؤيا، فقال صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به من يحب.
وإذا رأى ما يكره، فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره. وفي حديث آخر، ينقلب على جنبه الآخر.
هذا ما كان من قصة محمد بن سيرين.
المصادر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com
