بديع الزمان : يقول سعيد أوزدمير أحد تلامذته القائمين بخدمته: بقي بديع الزمان هناك ثلاثة أشهر، حتى أنه كان فيها يفحص حياة النمل.
فكانوا يأتون إليه بالحساء ويقوم هو بإعطاء حبات الحساء للنمل ويكتفي هو بغمس الخبز بمائه.
وعندما يسألونه عن سبب ذلك يجيب هو قائلاً: إن النمل يعيش في نظام جمهوري وأنا أعطيه الحبات وأساعده احتراماً لنظامه الجمهوري.
يقول محمد كولج أحد تلامذته القائمين بخدمته:
بقي بديع الزمان سعيد النُورسي تحت القبة منزوياً، وعاكفاً هناك على القراءة وحفظ الكتب.
وفي أثناء اعتكافه هناك حفظ من كتاب القاموس المحيط للفيروز آبادي حتى باب السين، يالها من ذاكرة ويالها من سرعة في القراءة!
إنه يقلب صفحات الكتب هكذا، ظننت أنه ينظر إلى الصفحات فقط، ثم ذكر لي الوقت الذي استغرق في قراءتها .. كم تظنون؟
الكتب كانت تتكون من ثلاثة مجلدات..
قلت في نفسي أنه ربما أكمل قراءتها في أسبوعين لأنه كان يقرأ في استمرار، وبينما كنت أفكر في الأمر، أفادني أنه أكمل قراءتها جميعاً في غضون ساعتين ونصف.. فسبحان الله.
يقول عنه كريم بالجي كاتب وباحث:
كان يقصد في شرق الأناضول وهو في السابعة عشر من عمره، وكان يقوم بمناظرات مع العلماء.
ولكن ليس لإثبات قدرته العلمية وتفوقه فيها، بل لإحياء علم الجدل والمناظرة من جديد، لكن ذلك قد أثار الغيرة والحسد في نفوس الناس.
وقصة حياته في هذه المرحلة زاخرة بالأحداث والمغامرات جديرة بأن تكون رواية.
ثم نجده في مدينة مردين قد انكب على التعلم والمناظرة والبحث الجديد بشكلٍ غريب، واجه في مردين مفاهيم جديدة توصله إلى روح العصر، وتعرف على الفكرة الحديثة للدولة العثمانية.
بداية سعيد النورسي
بدأ سعيد النورسي في التفكير بكيفية جعل المسائل الإيمانية الفردية المتشكلة في عقله الشاب كقضية أساسية تنعكس على أوساط المجتمع.
وأيام إقامته في مدينة مردين أتاحت له ممارسة السياسة في أوسع معانيها، فكان هناك عالم آخر خارج موطنه كوردستان.
تقول عنه شكران واحدة الباحثة في حياة بديع الزمان سعيد النورسي:
طبعاً عند ولادته وفي عصر نشأته كان العالم الإسلامي قد دخل إلى وضع من الركود، في حين أخذت الإمبريالية الغربية طريقها في التطور.
لهذا السبب تكونت في أذهان المسلمين مسائل واستفهامات كثيرة حول الدين، وتكاثفت الهجمات على الإسلام والمسلمين في الصعيد الإيديولوجي والفكري.
والمشكلة هي تأصيل مسألة الفكرة الإسلامية وتحديثها وإيجاد أجوبة على الأسئلة والشبهات انطلاقاً من القرآن الكريم، ومن أجل إيجاد الحلول الإسلامية الحقيقية لهذه المسائل والشبهات سعى جاداً للعثور على النهج السليم.
تقاطع طريق بديع الزمان سعيد النُورسي عام 1897 مع مدينة وان في تلك الأيام تم اختيار المدينة كمنطقة تجريبية للتحضر الإداري آنذاك والذي كان يتولاه السيد طاهر باشا.
يروى أن النورسي بقي في منزل الوالي طاهر باشا مدة ثلاث سنوات تقريباً، تعرف من خلالها على أسس العلوم الغربية عن طريق الكتب والمجلات والصحف القادمة من الغرب.
وأدرك آنذاك عدم قدرة وكفاءة نظام التربية العثمانية ونظام المدارس الدينية على مواجهة هذا التيار المادي القائم على العلم.
التقى بديع الزمان سعيد النورسي بالعلوم الغربية في منزل طاهر باشا ضمن مكتبة زاخرة بالكتب، وبدأ دراسة وتعلم اللغة التركية للاستفادة من هذا التراكم المذهل.
تقول عنه شكران واحدة الباحثة في حياة بديع الزمان سعيد النورسي:
لغته الأصلية هي اللغة الكردية، أما اللغة العربية فتعلمها خلال دراسته في المدارس الدينية كجزء من التعليم لأنه كان من مقررات التعليم في المراحل الأولى.
أي أنه كان يجيد اللغة الكردية والعربية، أما اللغة التركية لم يكن يعرفها آنذاك وتعلمها في العشرينيات من عمره.
بديع الزمان – نظام التعليم والتدريس
كان عليه أن يتعلم الشيء الكثير ولقد أشبع حوصلته الجائعة للعلم في أوساط ذهنية متاحة صادفها في مدينة وان.
الفجوة العميقة بين حاضر مجتمعه و التطور المبهر الذي اكتسبه الغرب من جراء العلوم الطبيعية هز كيان النورسي عنيفاً.
وكان عليه أن يطرح جميع ما تعلمه من المسائل ويعرضها في إطار إسلامي، وكان على علم بجميع المشاجرات والمناقشات الثقيلة التي كانت تمنع تقدم الدين في تلك الأيام، فتشكل آنذاك في ذهنه مشروع مدرسة الزهراء والكدح لتنفيذها في وقت لاحق.
تقول عنه شكران واحدة الباحثة في حياة بديع الزمان سعيد النورسي:
أما الأمر الذي كان يريد تحقيقه هو نظام تعليم وتدريس العلوم الإسلامية التقليدية والعلوم الدينية والعلوم الحديثة جنباً إلى جنب.
وفي هذا النظام سيفرض على الطلاب تعلم العلوم المذكورة معاً، وهذا هو النظام الذي رغب في تطويره.
لكن للأسف إننا لا نعلم بالضبط كيف كان يريد أن يحققه وما المناهج والمفردات والبرامج التي كان يتوخاها في هذه المدارس، لكن فؤاده كان ينبض بها.
وأثناء إقامته في وان قرأ خبراً مثيراً أدرك من خلاله جهود العالم الغربي لإبعاد المسلمين عن القرآن الكريم.
هز هذا الخبر كيان النورسي هزاً عنيفاً، ووعد نفسه قائلاً: لأبرهنن للعالم أن القرآن شمسٌ معنويةٌ لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها.
بديع الزمان دمشق الجامع الأموي عام 1911
خطبته على المنبر ..
نحن معاشر المسلمين خدام القرآن، نتبع البرهان ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائق الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليداً للرهبان، كما هو دأب سائر الأديان.
وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكم فيه إلا للعقل والعلم سوف يسوده حكم القرآن الذي تسند أحكامه إلى العقل والمنطق والبرهان.
اقتباس من حديث النورسي
قصةٌ ملحمية تعبر عن قضائه بقية حياته مضحياً من أجل وفائه بهذا الوعد.
نرى بديع الزمان سعيد النورسي في إسطنبول عام 1907 يتضح سبب زيارة بديع الزمان للعاصمة العثمانية في رسالة توصية من الشيخ طاهر باشا.
إنه الحصول على دعم القصر العثماني لمشروع مدرسة الزهراء بالإضافة إلى عرض فكرته على علماء إسطنبول وتبادل الأفكار معهم.
يقول الأستاذ الدكتور جورجة جريجوره مختص في الدراسات الشرقية جامعة بكرش رومانيا:
الأوساط العلمية
ما هو الجديد في هذه الجامعة لأول مرة رجل دين يقدم مشروع لإنشاء مدرسة وسماها بمدرسة الزهراء، نسبةً إلى الجامع الأزهر في القاهرة، وهو يريد أن يدرس في هذه المدرسة الدين إلى جانب العلوم الكونية الحديثة.
بعد أن مكث بديع الزمان النورسي في منزل أحد أحبائه مدة شهرين استأجر شقة في خان شُكرجي في منطقة فاتح باسطنبول، حيث كان ملتقى كثيرين من المفكرين والأدباء، وهنا دارت بينهم مناقشات علمية متنوعة برهنت على تفوقه.
علق لوحة على باب غرفته في خان شكرجي الذي يقيم فيه وكتب فيها: هنا تحل كل معضلة ويجاب على كل سؤال من دون توجيه سؤال لأحد.
وكل من يرى أو يسمع هذا الشيء يقول:
لابد أن يكون صاحب هذا الكلام مجنوناً لأن خان الشكرجي في ذلك العهد كان مكتظاً بكبار العلماء.
ورجل في الخامسة والثلاثين من عمره وهو يعد شاباً يتحدى هؤلاء الناس جميعاً، إنه لتحدٍ جاد جدا ..
زيه لم يكن كزي الأوساط العلمية، وطلبه الذي قدم فيه مشروع مدرسة الزهراء.
كان بعيداً عن الصيغة المعتادة هذا الأسلوب وهذا الأداء لم يجد قبولاً عند الجهات المعنية وقرروا أن من يقوم بهذه التصرفات لابد أن يكون فيه خلل عقلي، فأخذ إلى المستشفى أولاً ثم أحيل إلى السجن ليبقى تحت المراقبة.
فإن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة تعد من مقتضى العقل, فاشهدوا أني أقدم براءتي من هذا العقل, مفتخراً بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبةٍ من مراتب البراءة
اقتباس من حديث النورسي
ذهل بديع الزمان سعيد النورسي عند أول تماسه بأمواج البحر الهائج الذي ألقى نفسه فيه.
ونستطيع القول أن عند أول تماسه بالبلاط واجه الشك بدل التفهم والفظاظة والغلظة بدل التعاطف والتراحم.
لقد اختلط الجو بالبلاط قبل المراسلات الرسمية التي كانت تأمر بعودة النورسي إلى الأراضي التي ولد فيها.
ولقد أنتجت المشروطية الثانية في الحياة السياسية العثمانية صدمةً كبيرة وتفكك من جرائها جميع البنيان التقليدي بسهولة.
كانت المشروطية في بداية الأمر تحمل معاني واضحة ومشرقة لبديع الزمان سعيد النورسي .
ولكنها ليست حرية العقل والفكر في المعنى الغربي وكلمة الحرية بالنسبة له كانت تفيد نشاط العقل الإنساني القاصد للتفكر والتدبر لآيات الله سبحانه وتعالى.
دمشق الجامع الأموي عام 1911
خطبة على المنبر ..
الحرية الشرعية النابعة من الإيمان, إنما تأمر بأساسين, أن لا يذل المسلم, ولا يتذلل, من كان عبداً لله لا يكون عبداً للعباد, نعم إن الحرية الشرعية عطيةٌ وتجليٍ من تجليات الخالق الرحمن الرحيم, وهي خاصةُ من خصائص الإيمان.
اقتباس من حديث النورسي
اهتزت مدينة إسطنبول وأيام المشروطية المتفائلة بزلزال جديد, ودخلت قوات الجيش العثماني في وسط اسطنبول في صراع شديد.
يقول كريم بالجي كاتب وباحث :
كانت اسطنبول خلال السنوات عام 1907 وعام 1909 في حالة فوضى، فالجيش الكائن في اسطنبول كان لا يزال يركن إلى السلطان عبد الحميد.
ورغم تقلد الاتحاد والترقي الحكم تحت فرقة الأحرار إلا أنه لم يجلب الحرية، بل إزداد الطغيان إذا ما قيس مع الحكم السابق وبدأ الظلم والاضطهاد.
بدأت الثورة وكأن الجنود يشرعون الثورة قائلين:
نريد إلى الشرعية نريد العودة إلى السلطان, السلطان كان في القصر, ولكنه كان صامتاً وهادئاً, ونريده أن يكون قوياً كما كان في السابق.
منع بديع الزمان بعض الجنود من القيام بثورة وعصيان، إلا أنه لم يستطع إسماع صوته لجميع الجنود، وانفجرت عقبها حادثة 31 مارس آذار.
هذه هي الاشتباكات الأولى التي جرت بين العلمانيين والمتدينين في التاريخ العثماني التركي، ولا تزال آثارها تستمر حتى يومنا هذا.
هذه المسألة المعروفة بحادثة الحادي والثلاثين من مارس آذار، إنما حالة نقاش لا تزال تثار في التاريخ التركي الحديث من حيث مسبباتها.
وبعد الصدمة التي دامت عشرة أيام تقريباً، اصبح بديع الزمان سعيد النورسي في قائمة المشتبه بهم، وسيتكرر ذلك مرات أخرى فيما بعد.
يقول سعيد أوزدمير أحد تلامذته القائمين بخدمته:
رزح تحت وطئت الظن وتم استجوابه قال:
لقد سجنت في طوبتاشي ثم نقلت إلى محكمة الإدارة العرفية, تقع هذه المحكمة في جوار ساحة بيازيد وقال: أجلست إلى جانب النافذة, ورأيت خمسة عشر رجلاً محكوماً معلقين على أعواد المشانق في ساحة بيازيد, أرادوا أن يرهبوني بهذا المنظر قائلين: سنعدمك أنت الآخر مثلهم! لكن أحمد الله تعالى لم يدركني الخوف.
اقتباس من حديث النورسي
والحاكم العسكري للمحكمة العرفية خورشيد باشا يصرخ قائلاً: أنت أيضاً رجعي, وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة.
فأجابه بديع الزمان قائلاً: يا باشا يا باشا سوف أقلع أحدى عينيك برأس القلم.
يقول محمد كولج أحد تلامذته القائمين بخدمته:
مد إصبعه تماماً هكذا إلى خورشيد باشا سوف أقلع إحدى عينيك برأس القلم, نعم, لو كان لي ألف روح لما ترددت أن أفدي جميعها إلى حقيقة واحدة من حقائق الشريعة.
هكذا كان رجلاً مهيباً جداً..
قاعة المحكمة
يقول الأستاذ الدكتور ثروت أرمغان مختص في الدستور جامعة إسطنبول:
نتيجة المحاكمة ماهي !
قال رئيس المحكمة: أنت بريءٌ أنت حر وخرج من المحكمة ..
قاعة المحكمة كانت في مبنى وزارة الدفاع هذا المبنى العام يستعمل من قبل جامعة اسطنبول في ساحة بايزيد.
المحاكمة جرت هناك فخرج من هذا المبنى وقال: تعيش الشريعة تعيش الشريعة من ساحة بايزيد حتى ميدان السلطان أحمد.
على حد قول أحد أصدقائه:
لقد رجع إلى جباله العنيفة المتوحشة، إلا أنها في الوقت نفسه جبال مؤنسة وفية وعفيفة، وكما لم يخفي بديع الزمان سعيد النورسي كراهيته للاستبداد والطغيان في اسطنبول.
كذلك تحدى النظام الإقطاعي الذي ساد جبال كوردستان بنفس العفة الفكرية، وفي دياره أيضاً كان يأمل أن يتنعم بفضائل المشروطية التي تخيلها.
لحرية الغارقة في السفاح والرذائل, ليست حرية, بل هي جزء من عالم الحيوان واستبداد الشيطان, وأسرٌ للنفس الأمارة
اقتباس من حديث النورسي
إننا الآن مع سعيد نورس آخر قد شهد الدينية التقليدية ومارس السياسة وتعرف على العالم واقتنع بمقدرته لتغيير العالم بالكلمة وروض نفسه على مفاهيم المشروطية والحرية.
وحتى الجمهورية في هذا السياق، وإلقاء الخطبة الشامية يتزامن تماماً مع تلك التواريخ.
دمشق المسجد الأموي عام 1911
خطبة على المنبر ..
لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية, وعلمت في هذا الزمان والمكان, أن هناك ستة أمراض جعلتنا نقف على أعتاب القرون الوسطى, في الوقت الذي طار فيه الأجانب وخاصةً الأوروبيين نحو المستقبل.
اقتباس من حديث النورسي
هذه الأمراض هي كما يلي:
- أولاً: اليأس والقنوط الذي وجد أسباب الحياة في النفوس
- ثانياً: انعدام الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية
- ثالثاً: حب العداوة
- رابعاً: تجاهل الرابطة الروحية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض
- خامساً: ذيوع الاستبداد ذيوع الأمراض المعدية
- سادساً: حصر الهمة في المنفعة الشخصية
بماذا يهتف لنا هذا النص الذي لا يزال يحافظ على حيوته وطراوته.
يقول توماس ميجهل راهب كاثوليكي أمريكي:
الخطبة الشامية أنا واثق أنكم على علم أنه ألقى هذه الخطبة منذ 100 عام.
كان بديع الزمان سعيد النورسي يتدبر أمر المجتمعات المسلمة وينظر ماذا يمكن أن يكون الحل والعلاج لها.
ووفقاً لخبرتي أفيد أن الخطبة الشامية بالإضافة إلى المجتمعات الإسلامية، فإنها تأتي بالحلول لمواضيع تهم المجتمعات المسيحية أيضاً.
يقول الأستاذ الدكتور فارس قايا رئيس وقف اسطنبول للعلم والثقافة:
تناول في هذه الخطبة الشامية المشاكل الأساسية السائدة في العالم الإسلامي آنذاك، وقدم الحلول السليمة لهذه المشاكل.
وكتاب الخطبة الشامية يطبع اليوم في لبنان وسوريا ومصر، ويمكن القول أن الخطبة مازالت كالنجم القطبي تنير العالم الإسلامي.
نرى عودته إلى إسطنبول، ومقابلته للسلطان رشاد خليفة السلطان عبد الحميد الثاني وهو يسعى للإعراب عن مشروعه مدرسة الزهراء.
وجد فرصة التعبير عن حلمه لمدرسة الزهراء في لقائه مع السلطان رشاد في رحلة روملي، ونجح في الحصول على وعد تخصيص 19 ألف ليرة ذهبية لبناء مدرسة الزهراء في شرق تركيا.
بينما يحلم من جهة بإنشاء جامعة إسلامية عظيمة في شرق تركيا، تشع بالأرجاء كالأنوار قاطبةً كجامع الأزهر، فإنه يواصل أنشطته في الإرشاد والتعليم.
من جهةٍ أخرى عقبها يؤلف كتباً تدخل في أهم الآثار في كليات رسائل النور كالمحاكمات والمناظرات.
كتاب المحاكمات
يقول إحسان قاسم صالحي مترجم رسائل النور إلى العربية:
وأما في كتابه محاكمات كتبه كمقدمة لمعرفة التفاسير، فإن هذا الكتاب عبارة عن تمشيط لجميع التفاسير والكتب الفقهية الموجودة في ذلك الوقت.
أخذ كل هذا بدون ذكر أسماء وانتقد بعض النقاط منها وصحح بعض الأمور ولهذا سماه صيقل.
صيقل يعني هو الذي يزيل الصدأ عن السيف، فلهذا كتاب المحاكمات له منزلته عند العلماء، ولهذا هو سماه رجته العلماء، يعني وصفة طبية للعلماء.
اقترب أكثر فأكثر من تحقيق حلمه في إنشاء مدرسة الزهراء في مدينة وان بدأ في بناء أساس لجامعة الزهراء، واستهلت الدراسة والتعليم في مبنى آخر.
في مدرسة هورهور الإرشاد والتعليم في حلم بديع الزمان سعيد النورسي.
كان يستهدف دمج العلوم الإسلامية مع معطيات العلوم الحديثة.
ولكن للأسف لم يتحقق هذا الحلم لوقوع حرب دامية لم يشهد التاريخ لها مثيل من قبل في موطن العلوم والفنون الحديثة وفي بؤرة التطورات التقنية خاضتها أكثر الأمم تحضراً .
وبعد مدة قصيرة اضطرت الدولة العثمانية أن تكون حلفاً وطرفاً في هذه الحرب.
النورسي وطلابه
كان بديع الزمان يواصل تدريسه طلابه في مدرسة هورهور في مدينة وان عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أنه توجه إلى جبهة الحرب لمهمة جديدة ألقيت على عاتقه.
يصرح بأن هذا القرن بحاجة ماسة إلى تفسير جديد، وينبغي أن يكون هذا التفسير شمولياً وواسع النطاق ويعرب عن نهج كتابته فيقول :
ليس بالإمكان كتابة هذا التفسير من طرف شخص واحد فقط، بل سيتم تأليفه من قبل لجنة كبيرة حاذقة ملمة بكل علم ومختصة في مجالها، وستقوم هذه اللجنة العبقرية بتأليف تفسير يلائم حاجات العصر.
ولكن نشوب الحرب العالمية الأولى جعله يهرع لكتابة المجلد الأول من هذا التفسير خشية أن يدركه الموت قبل أن يحقق بغيته هذه.
وهكذا تمت كتابة كتاب “الإعجاز في مظان الإيجاز” في الخط الأمامي وفي خط المقاتلة ومن جبهة القتال على صهوة الحصان.
وقد دعا طالبه الملا حميد في جبهة القتال وقال له: اكتب, كان هو يملي باللغة العربية وطالبه حبيب يكتب الملاحظات الموجهة إليه.
بديع الزمان وفترة النضال
في منتصف إحدى الليالي من مارس آذار عام 1916 وقعت قوات الوحدة العثمانية أسيرة في يد الجيش الروسي، وبديع الزمان سعيد النورسي كان من بين هؤلاء الأسرى الذين نقلوا من مدينة تبليس ومنها إلى مخيمات الأسرى في مدينة كوستروما.
كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية نيقولا نيكولفتش يزور معسكر الأسرى، فقام جميع الأسرى لأداء التحية عدا بديع الزمان سعيد النورسي، فقد رفض القيام له.
عد القائد هذا السلوك استهانة به وأصدر حكم الإعدام بحقه..
كلا إنني لم أستهن بأحد, وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي, إنني عالم مسلم, أحمل في قلبي إيماناً والذي يحمل في قلبه إيمان هو أفضل من الذي لا إيمان له, ولو أنني قمت له لكنت إذاً قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي.
اقتباس من حديث النورسي
أصدرت المحكمة حكمها بالاعدام على بديع الزمان سعيد النورسي في مخيمات الأسرى بحجة إهانته للقائد الروسي، وعندما سأل عن آخر رغبته أفاد بأن يسمحوا له ليقوم بأداء الصلاة.
وجلي بالذكر أن هاتين الركعتين من الصلاة تخلف تأثيراً كبيراً أكثر مما تخلفه الكلمات على القائد الروسي.
والقائد الروسي الذي راقب الصلاة, أفاد بعد الانتهاء منها قائلاً:
أرجو منك المعذرة, كنت أظن بعملكم هذا قصد إهانتي, فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم, ولكن أدركت الآن أنكم تستلهمون هذا العمل من صدق إيمانكم وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم.
تروى حكايات عديدة عن أسر بديع الزمان سعيد النورسي في مدينة قوسطرمة الروسية, التي أسر فيها ما يقرب من سنة, والنقطة المشتركة في هذه الروايات هي عدم انحراف بديع الزمان النورسي عن الاستقامة والبداية الدينية قط.
وبعد حياة أسر دامت سنتين تقريباً, أستغل بديع الزمان سعيد النورسي ظروف الثورة الشيوعية, ونجى بالفرار من الأسر بصورة عجيبة ومحيرة, مليئة بالمغامرات, ماراً بالدول الأوروبية إلى بطرسبرغ ومنها إلى ورشوا وصوفيا حتى ينتهي به المطاف إلى اسطنبول.
إسطنبول لم تهزم وحسب, بل أصبحت عاصمة فقدت عزتها ومجدها, وبديع الزمان سعيد النورسي, أصبح معروفاً في جميع أرجاء اسطنبول قاطبةً, ودوا خبر رجوع إلى اسطنبول في الآفاق.
أصبحت مدينة اسطنبول هذه المرة أكثر مجاملةً وأكثر سماحاً والتفاتاً له, لقد دخل في عضوية مؤسسي دار الحكمة, إضافةٍ إلى أن وكيل القائد العام أنور كان يميل إلى أن تمنح له رتبة علمية.
صممت دار الحكمة كمنظمة تتوافق مع نمط وأصول المجاهدة في بديع الزمان سعيد النورسي, كالوصول والحلول السليمة للمشاكل التي يحتمل ظهورها في العالم الإسلامي, ومواجهة الاعتداءات الموجهة للإسلام وإنقاذ إيمان المسلمين.
تم قبوله ضمن الفئة العلمية تحت عنوان “مخرج” وأخيراً اعترف بقدرته من قبل البيروقراطية الدينية في الدولة, نرى مساهمة وتأثير بديع الزمان سعيد النورسي ضمن أحد أهم الأنشطة في داخل دار الحكمة.
النورسي واسطنبول
احتل الإنجليز مدينة اسطنبول لفترة من الزمن, وفي تلك الفترة وجه أساقفة الكنيسة الإنجليكية عدة أسئلة ليجيب عنها علماء المسلمين, أسئلة سخرية مثل: ما الإسلام وما القرآن وما محمد؟
وكما هو معلوم كانت اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية آنذاك وعاصمة العالم الإسلامي كذلك ومقام شيخ الإسلام والخليفة جميعهم يقيمون في مدينة إسطنبول.
أي أن العالم الإسلامي كان يدار من هنا من الناحية الدينية، وطلبت دار الحكمة الإسلامية من بديع الزمان ليجيب عن هذه الأسئلة الموجهة من قبل الكنيسة الإنجليكية.
نشر كتيباً باسم “الخطوات الستة” يقول في هذا الكتيب:
ابصقوا في وجوه الظالمين الصفيقة, نعم إنه نشر كتاب يسهل فيه هذه الكلمات الجريئة, وعندما وصل الكتيب إلى يد قائد الاحتلال البريطاني أمر أعوانه بقتله رمياً بالرصاص أينما وجدوه.
اقتباس من حديث النورسي
وفي هذه الرسالة المنشورة بعنوان جوابٌ إلى رئيس الكنيسة الإنجليكية, فقد أعرب عن انتفاضة وغضب المسلمين في الأناضول تجاه الاحتلال.
بديع الزمان والنضال الوطني
دعم قوات النضال الوطني المتشكلة في الأناضول ضد قوات الغزو المحتلة المتحالفة في مدينة أزمير وغربي الأناضول ومدينة اسطنبول وكان يرى الحكومة العثمانية المحتلة عاجزة عن صد الأعداء.
والمظهر الدرامي الأكثر إثارة في موقفه هذا هو عدم التوقيع على الفتوى الصادرة من شيخ الإسلام تحت ضغط الإنجليز ضد حركة النضال الوطني, القوة الملية و دعمه للنضال الوطني.
محتوى الفتوى الصادرة عن شيخ الإسلام كانت قاسيةً جداً, وكان قد صرح فيها أنه من اشترك في النضال الوطني فهو متمرد, وقتل المتمردين إنما هو من الموجبات الدينية.
ولكن رد بديع الزمان سعيد النورسي على هذه الفتوى كان أكثر قسوة.
أفاد النورسي بأنه لا يحل الإفتاء في وقت احتلت فيه اسطنبول واحتلت فيه الخلافة واحتلت المشايخ الإسلامية, لعدم كونهم أحرار ولا يمكن لمن فقد حريته القيام بإصدار الفتاوى وإلا ستكون هذه الفتاوى معلولة و سقيمة ويستوجب على الناس مقاومة الاحتلال.
وإنما الجهاد في هذه الأوقات هي مجابهة العدو وقوات الاحتلال، وبطبيعة الحال لقي هذا الكلام قبولاً ودعماً من قبل جمهور العلماء.
كان هذا شيئاً عظيماً وفي تلك الفترة احتلت مدينة اسطنبول وقبض على شيخ الإسلام وهو الآن سجين والسلطان سجين والجميع يخشى سطوة الإنجليز.
أصدر حكم الإعدام بحق بديع الزمان ليقتل أينما وجد وهو في هذه الحالة العصيبة يقوم بالإجابة على الإنجليز ويعلن فتوى ضدها ويلغي فتوى شيخ الإسلام.
وقد خلقت هذه الفتوى المضادة تأثيراً بليغاً في نفوس الناس سواء في اسطنبول أو في الأناضول, هذه فكرة عظيمة للحرية.
يقول الأستاذ الدكتور نواز ترهان طبيب نفساني:
لم يتناول الاستبداد من حيث أنه استبداد سياسي فحسب, بل تناول الاستبداد الموجود من أهل العلم أيضاً, وأعرب عن وجود استبداد من علماء المدارس الدينية أيضاً.
وذكر الاستبدادات الموجودة في المنطقة على الانقسام في المجتمع, وهكذا نرى موقفه وسلوكه ضد الاستبداد, ولذلك إن اسم الرجل الحر يناسبه للغاية.
القوة النفسية والسياسية
هذه الفترة الكئيبة أصبحت أكثر الأوقات نشاطاً لتأليف كتبه ونشر رسائله, وقد ناقش الأحادث الراهنة والهامة في رسائله, كالنقطة وحبات الحقيقة والرموز والإشارات والخطوات الست والسنوحات واللمعات, ولم يتجنب استخدام لغة سياسية عند الاقتضاء.
في نوفمبر تشرين الثاني عام 1922 كانت تحتفل أنقرة بنصرها وإنهائها للغزو اليوناني, ثم انطلاقاً من القوة النفسية والسياسية النابعة عن هذا الانتصار قامت بإلغاء الخلافة العثمانية.
وتهيئت لصنع السلم في البلاد, وفي شهر نوفمبر تشرين الثاني قدم بديع الزمان سعيد النورسي إلى أنقرة, وقد انتقلت قيادة الأمة منذ زمنٍ لا بأس به من اسطنبول إلى أنقر.
وأصبحت العاصمة الجديدة للإسلام بلا جدل, نظم البرلمان في أنقرة من نوفمبر تشرين الثاني عام 1922 احتفالاً رسمياً احتفاءاً بقدوم بديع الزمان سعيد النورسي.
هذا أمرٌ لافت للأنظار, لا شك أن هناك دعوةً وجهت إليه من أنقرة, لماذا دعت الحكومة بديع الزمان سعيد النورسي إلى أنقرة, وعلى أي توقعات استجاب لهذه الدعوة, إجابةً لهذه الأسئلة في مكنونات حياته التي سيتم بحثها فيما بعد.
مكث في أنقرة ثمانية أشهرٍ تقريباً, وقابل مصطفى كمال باشا, وتواجد في المجلس, وصرح في كلمته التي ألقاها في البرلمان على النواب بما فيهم مصطفى كمال.
أن الجمهورية التي تم تأسيسها حديثاً يجب أن تتخذ الشريعة أصلا, وأن يكون القائمين عليها من المقيمين لهذا الركن العظيم, وبذلك فقط يمكنهم أن يخدموا الشعب والأمة الإسلامية.
وهذه الكلمة التاريخية هي اللحظة الأولى التي ظهر فيها الخلاف بين بديع الزمان ونظرة النظام الجديد.
المصدر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس