معركة ذي قار : محطات التلفزة العالمية وغرف الأخبار، في نهاية كل عام، تحاول أن تستعرض أهم أخبار هذا العام.
لنفترض مثلاً أننا كنا نعيش في عام 610، وجلس مجموعة من الصحفيين والمحللين، لينظروا في أحداث عام 610.
أهم الأحداث التي سبقت معركة ذي قار
أول حدث كان مهماً هو أن هرقل قد تسلم الحكم عام 610، حكم القسطنطينية، وهرقل سيكون له دور في المستقبل، في توحيد الدولة البيزنطية وتوحيد الدولة الفارسية.
وبيزنطة في ذلك الوقت، كانت على وشك الانهيار، بسبب الهجوم الفارسي الضخم، الذي حاول أن يستغل فترة الاضطراب الأمني، والحروب في الدولة البيزنطية.
فقد قامت الدولة الفارسية، بالهجوم على منطقة الشام وأرمينية، وعلى عدد من مناطق الدولة البيزنطية.
وفي هذا العام بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن البعثة النبوية كانت في مكة البعيدة، وكانت سرية أيضاً، لهذا فخلال ثلاث السنوات القادمة لم يذكر هذا الحدث.
ولكن كان هناك حدث هامشي مهم، وهو معركة ذي قار، وهذه المعركة قد أهملت في المصادر الفارسية والبيزنطية، لا تتحدث عنها إلا بإشارة بسيطة.
لكن المصادر العربية والنفسية العربية بعد معركة ذي قار، تغيرت عن النفسية العربية قبل ذي قار لماذا؟
وضع العرب والقبائل العربية
نعرف أن العرب كانوا يعيشون حول مكة، في تجمعات سكانية كبيرة، وكثير من الناس اعتقدوا أنهم يعيشون في الصحراء، وهذا ليس صحيحاً.
فالكتل السكانية العربية الكبرى، كانت في اليمن والعراق والشام، ففي العراق كانت هناك دولة المناذرة، وهي قديمة وكان يحكمها ملوك.
والغريب أنهم كانوا دائماً يسمون أنفسهم ملوك العرب، باعتبار أن كل جزيرة العرب تتبع في النهاية، لدولة المناذرة وعاصمتها الحيرة.
دولة المناذرة والدولة الفارسية
المناذرة كانت في تحالف مع الدولة الفارسية، أو لنقل تحت الحماية الفارسية، لكن الفرس كانوا ينظرون إليهم بأنهم أتباع لهم.
لذلك المؤرخون الرومان، ذكروا أنهم يلقبونهم بعرب فارس، ويلقبون الذين يعودون على الغساسنة التابعين إلى الدولة البيزنطية، بعرب الروم.
لكن الصحيح أن الحيرة كانت مدينة مزدهرة، وفيها عدد هائل من المرافق المهمة، في ذلك الوقت، الفن المعماري والموسيقى والفنون والشعراء والأدباء.
وملوك الحيرة العرب، كانوا مشهورين باستضافتهم لمهرجانات شعرية، والسوق الكبير في جندل، الذي يعقد في كل عام.
الحيرة دائماً كانت تحارب مع الدولة الفارسية، فكان يذهب جيش المناذرة مع جيش الدولة الفارسية، مع كل حروبهم.
بمعنى أن العرب كانوا يقتلون بعضهم بعضاً، لإرضاء القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت، أي الفرس والروم.
النعمان بن المنذر وعداءه للدولة الفارسية
في عهد متقدم أي في بداية القرن السابع الميلادي، كان في الحيرة ملك اسمه النعمان بن المنذر، وكان آخر الملوك المهمين للمناذرة.
كان النعمان ليس على وفاق تام مع كسرى الثاني، والدولة الفارسية، لأن النعمان كان دائماً يحاول أن يكون لديه علاقة مع الجميع.
تعامل مع السلطة القائمة في المدائن، فكان كسرى الثاني لا يحب النعمان، لأنه لم يقف مؤيداً له عندما صار الانقلاب العسكري عليه.
ولكن النعمان كان لديه اعتداد بالنفس، وحاول كسرى أن يتعامل معه، فطلب منه أن يبعث بجيش معه لمحاربة الروم.
لكن النعمان تردد ولم يرسل له، فغضب عليه كسرى، وهناك قصص أخرى عن عدة حوادث بينهما، ولكن يمكن أن لا تكون صحيحة.
فقرر كسرى أن يتخلص من النعمان، وأن تكون الحيرة تحت ملك جديد، مطواع لكسرى، فدعاه إلى قصره وقتله عام 607 قبل سنتين من البعثة.
قتل النعمان بن المنذر وأثره على قبائل العرب
وعندما قتل النعمان، كان هذا له أثر كبير على قبائل العرب، لأن الملك الجديد العربي على الحيرة، أراد أن يثأر من القبائل التي كانت تدعم النعمان.
مثل هانئ بن مسعود الشيباني، الذي كان من شيوخ قبيلة بنو بكر بن وائل، وبالمقابل تأذت قبائل العرب في مقتل النعمان، فقد كان مشهوراً بعطاياه وحضوره.
فبعث الفرس جيشاً لكي يصادروا أملاك النعمان بن منذر، التي استودعها النعمان بن المنذر عند بن مسعود الشيباني.
الذي أخذ أولاده ونسائه وبعض أمواله ودروعه، وقال له: سأحمي حريمك كما أحمي حريمي.
فأراد كسرى أن يأخذ كل هذا، لكن هاني بن مسعود، وقف ضده ووقفت معه معظم قبائل العرب، حتى القبائل التي كانت تقاتل مع الفرس.
والقبائل التي كانت جزئاً من الجيش الفارسي، ويقال أنهم انتقلوا أثناء المعركة إلى جانب القبائل العربية، ووقعت معركة ذي قار.
معركة ذي قار وانتصار العرب
الجيش الفارسي كان وحوالي ألفين مقاتل، مع مجموعة جيش من العرب، ألف أو ألفين يقاتلون معهم، والقبائل العربية كانت بحدود ألفين أيضاً.
واشتبكت الجيوش مع بعضها البعض بشدة لأيام متتالية، وكانت معركة مذهلة، استبسل فيها العرب بقوة، وانتصروا على الجيش الفارسي الذي هزم
رمزية معركة ذي قار
كانت رمزية معركة ذي قار، أنه ولأول مرة، شعر العرب أنهم استطاعوا أن يوحدوا قبائلهم المختلفة، في جيش واحد، يقاتل القوة الأهم في ذلك الوقت الدولة الساسانية.
الجيش الساساني في معظمه، كان يحارب في الدولة البيزنطية، لذلك كان هذا الجيش الذي أرسل لمحاربة العرب.
لم يكن الجيش الساساني بقيادته الرئيسية، إنما كان جزء منه، لكن الحقيقة أن رمزية المعركة وانتصار العرب.
كانت أصداءه احتفالية في كل أنحاء جزيرة العرب، فقبائل العرب وساداتهم وعامة الناس، بدأوا يشعروا بالفخر، أنهم استطاعوا أن يهزموا جيش فارس.
هذه النفسية الجيدة التي أحدثتها ذي قار، كانت أيضاُ من المؤشرات الإيجابية، أن العرب رغم تبعيتهم الدائمة للدولة الفارسية من ناحية، والروم من ناحية أخرى.
قادرون في بعض الأحيان، أن يقولوا لا، وأن يصمدوا ويستبسلوا، وأن ينتصروا أيضاً، فالاستقلالية عن مراكز القوى والنفوذ هو ممكن.
تغير نظرة العرب إلى أنفسهم بعد انتصارهم في المعركة
فليس من الحتمية المطلقة أن يكون العربي، تابعاً للقوى العظمى، من المهم أن هذه النفسية، قد دخلت على العرب في عام البعثة النبوية الشريفة.
التي يأتي بها النبي الكريم، يقول أنني لا أتبع لا إلى الفرس ولا إلى الروم، بل سأسس مركزية عالمية جديدة، تحملها هذه القبائل.
التي كانت تاريخياً، لا ترى نفسها إلا في ظل كسرى أو قيصر، إما متحالفة مع الحبشة، أو حلفاء الفرس في اليمن.
قبائل ليس لها تلك المركزية، ولا ذلك الطموح التاريخي، لهذا فإن معركة ذي قار، هي درس تاريخي مهم.
أننا كعرب قادرون على أن نفعل شيئاً، نقاوم به هذه الحتمية التي فرضت علينا، من التبعية للفرس والروم.
والشيء المهم في كل هذه الوقائع، أن العرب حتى تلك المرحلة، كانوا لا ينظرون إلى أنفسهم كتلة واحدة.
فأصبح لديهم رؤية جديدة، فكانت معركة ذي قار رسالة مهمة للجزيرة العربية، والعراق والشام، أن شيئاً ما يمكن أن يؤثر.
استخدام الدين للسيطرة
المناذرة كانوا بالأساس مسيحيين، ومنهم النعمان، وكثير من سكان العراق، ولكن على المذهب النسطوري.
وهو مذهب كانت الدولة الفارسية تؤيده، لأنه كان يتعارض مع مذهب الكنيسة الأرثوذوكسية، التابعة للدولة البيزنطية.
فالدين الذي كان العرب يدينون به، كان بطريقة وبأخرى يسخرونه الفرس لخدمتهم، ضد بيزنطة.
أما الغساسنة فبالعكس، أي أنهم كانوا في الغالب، يحاولون دعم الكنيسة الأرثوذكسية، لكي يكونوا حلفاء لها في السياسة والعقيدة، توظيفاً للدين من قبل الطرفين.