الآدابشخصيات

أبو الطيب المتنبي


حياته وقصائده وغرائبه التي لا تنتهي

الشاعر أحمد بن حسين المتنبي، وهو أبرز شعراء العربية على الإطلاق، أبو الطيب المتنبي وهو الذي كان يقول: ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى.

حديثنا سيكون صدى لصوت المتنبي، قبل ألف عام، والذي سيحدثنا عن الموضوع، الأستاذ محمد المختار خليل، مدير تحرير الجزيرة نت.

التعلق بشعر المتنبي

يقول الأستاذ محمد خليل: أنا هاوي وأحب المتنبي، وللأسف فتننا المتنبي، قبل أن نطلع على غيره، فهو يصرف عن الشعراء الآخرين.

فلا يكاد من طالع المتنبي، يفتح ديواناً غيره، أو يهتم بشعر غير شعره، أذكر في المرحلة الإعدادية، كان لدينا مدير يعطينا حصص في الدرس عن المتنبي.

فلا بد في كل حصة أن نحفظ بيتين للمتنبي، وفي أول يوم دخل علينا المدير، كتب على اللوح:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعوم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين الصغير العظائم

وطلب منا أن نحفظهما في مقابل هدية من الكتب، وقد أهداني كتاب لابن هشام، وكانت هذه هي البداية مع المتنبي.

المتنبي شاعر الثورة

ولكن أول ما لفت انتباهنا إلى المتنبي، أنه شاعر الثورة، قبل أن تولد الثورة، وشاعر القومية قبل أن تكون القومية، وشاعر العزة في زمن العجمة.

من أصعب الأشياء أن تكتب عن المتنبي، خاصة إذا كان المتلقون جمهوراً مثقفاً، أو أناساً من الخاصة.

تذكرون أن الشيخ محمود شاكر، ممن يقدس المتنبي، وقد ختم كتابه عن المتنبي بقوله:

وأنت يا أبا الطيب ففدتك نفوس الحاسدين فإنها معذبة في حضرة ومغيب

وفي تعب من يحسد الشمس وراءها ويجهد بأن يأتي لها بضريب

فلا يوجد ضريب لشاعر المتنبي، وعندما تسأل أحد ما عن الشعراء، يقدم لك المتنبي شاعراً، بصيغة مقبولة خالية من التعصب، وإذا قدم شاعراً ما، سيكون المتنبي بعده حصراً.

ثم هذا الأثر الذي تركه المتنبي في حياة الناس، من أحمد الشعراء ماضياً وحاضراً، فهو الحاضر المخلد في الشعر العربي، وفي إحدى قصائده يقول:

كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن

قد كان شاهد دفني قبل قولهم جماعة ثم ماتوا قبل ما دفنوا

ما كل ما يتمنى المرء يدركه تمشي الرياح بما لا تشتهي السفن

كلما حاولوا دفن المتنبي فشلوا في ذلك، وانتفض من قبره وكفنه، وماتوا هم، فقد تمنوا أن يموت المتنبي، لكن سفينة القدر، أبت إلا أن تفرد شرائعها إلا للمتنبي.

يجب أن نفهم الحكمة من هذه الزاوية، على اعتبار أن هذا المثل، يُضرب إذا خالفت الأقدار ما يريده الناس، ولكن هنا وافقت الأقدار ما يريده المتنبي.

الصائح المحكي

خير من يتكلم عن المتنبي، هو شعر المتنبي نفسه، وكان خالد الكركي الأديب الأردني، عنده دراسة رائعة عن المتنبي، سماها الصائح المحكي.

يقول بأن المتنبي في شعره، يرى نفسه أولاً، ثم قصديته ثانياً، ثم ممدوحه ثالثاً، وإن جاز لنا أن نقول، بأنه يرى نفسه أولاً، وقصيدته ثانياً، وقيمه التي يخلعها على الممدوح ثالثاً.

لأنه يريد لقيمه أن تتجسد في ممدوحه، هذا هو المتنبي، واسمع إليه يقول:

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا

وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كان

محسد الفضل مكذوب على أثري ألقى الكمي ويلقاني إذا حانا

لا أشرئب إذا ما لم يفت طعماً ولا أبيت على ما فات حسرانا

المتنبي وتعلقه بالسياسة

نحن قوم منشغلون بالسياسية، والمتنبي مرتبط بالسياسة ارتباطاً وثيقاً، وكان هذا سر حياة المتنبي رغم أنه من أغزل الشعراء، نبحث عن اللحظة التي يجسدها المتنبي في حياتنا، وهناك فقرة لابن الأثير يقول بها:

وكنت سافرت إلى مصر، ورأيت الناس منكبين على شعر المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من ادبائها، عن سبب ذلك، وقلت:

إن كان أبا الطيب دخل مصر، فقد دخلها قبله من هو مقدم عليه، فلم يذكروا لي شيئاً، ثم إني فاوضت عبد الرحيل علي البيساني، فقال: إن المتنبي يتكلم عن خواطر الناس.

وهذه هي الحقيقة، التي مهما حاولنا أن نحصل على غيرها، في تعليل حضور المتنبي الدائم، في حياتنا الثقافية والسياسية والأدبية، لا نجد أكثر تعبيراً من هذا القول.

ينظر الناس إلى المتنبي، باعتباره عنوان نهضة، وأساس تجديد، ولهذا من يؤرخون لمحمود البارودي، لا يبحثون عن روح جاهلية ولا صدر الإسلام، ولا ما قبل المتنبي، من العصر العباسي.

وإنما يربطونه مباشرة بالمتنبي، ولذلك يقول خالد الكركي، في دراسته الصائح المحكي:

لذلك نقرأ عروق الذهب، التي شكلت ديوانه وقلقه، وسفره العظيم في اللغة، والإيقاع والصورة والتحدي، بحثاً عن جناحين تنهض بهما الأمة، من كبوت الشعوبية والتجزئة والعجمة.

وتستعيد مكانها تحت شمس الزمان، حاملة معها روح ديوانها وشاعرها، الذي كان دمه كفنه، يوم هوى في الصحراء التيه، على بدوي قاتل مأجور:

أكلما اغتال عبد السور سيده أو خانه فله في مصر تمهيدُ

صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبودُ

نامت نواطر مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ

عصر الإنحطاط وأثره على المتنبي

عصر المتنبي هو نفسه، سماه عصر الخدم:

بكل أرض وطئتها أمم ترعى بعبد كأنها غنمُ

ويقول في أبيات أخرى:

بكل منصلت مازال منتظري حتى أدلتُ له من دولة الخدمِ

المتنبي كان في القرن الرابع، والقرن الرابع الهجري كما تعلمون، كان عصر الانحطاط السياسي العام في الأمة، رغم أنه كان عصر النضج الثقافي والحضاري.

في هذا القرن، تمزقت الدولة العباسية، حتى أنها لم يبق منها إلا حاضرة بغداد، وتحكم فيها الترك والعجم بصفة عامة، والنزاعات المعادية لوحدة الأمة.

هجر العرب الحاضرة الكبرى، إلى الجزيرة وإلى الشام، وانحط العمل السياسي، والأداء السياسي في الأمة، انحطاطاً ذريعاً.

ولهذا فإن أحد المستشرقين الفرنسيين، عندما كتب عن المتنبي، كتب عن عصر القرامطة، باعتبار أنه عصر المتنبي.

تجزئة الإمبراطورية الإسلامية، إلى مقاطعات مستقلة، وتقاتل الناس في كل مكان، وكانت بداية الاختراق، ولكن كانت هناك محاولات للنهضة.

مثل محاولة الحمدانية للسيطرة على الحكم في بغداد، وواجهوا البيزنطيين في حلب والموصل، وقد دون المتنبي جزء من هذه المحاولات.

ولكن كان عصر الثقافة الأول، والحضارة الأكبر بالنسبة إلى المسلمين، فكان هذا العصر الإزدهار الأدبي، الذي تجسد في المتنبي.

ونقف هنا لنقول، أنه لا يمكن للأمة أن تنهض، دون أن تعتني بثقافتها وأدبائها، فلا يمكن أن نهمل دور فولتير، في الثورة الفرنسية مثلاً.

فؤاد الملك ولسان الشاعر

إذا استخدمنا تعبير العقاد، الذي لديه مصطلح ثابت لمفتاح شخصية المتنبي، هو القلق بين فؤاد الملك، ولسان الشاعر.

فإن من السهل أن يتحدث الناس، عن تناقد المتنبي، وأنه مدح هذا، وهجا هذا، وأنه بخل على ذاك، وغير ذلك، فكان لديه تناقض بين العقل والعاطفة.

فكما مدح كافور بشكل بارد عاطفياً، يقول له:

يا رجاء العيون في كل أرض لم يكن غير أن أراك رجائي

ولقد أفنت المفاوز خيلي قبل أن نلتقي وزادي ومائي

فارمِ بي ما أردت فإني أسدُ القلب آدمي الرواءِ

وفؤادي من الملوك وإن كان لساني يرى من الشعراءِ

هذه الثنائية تحكم المتنبي، أزعم وأظن شخصياً، أنها هي مفتاح فهم شخصية المتنبي، فهناك مواقف ومبادئ سياسية، يريدها في الملوك وفي سيف الدولة تحديداً.

المتنبي وقصائد المديح لسيف الدولة الحمداني

إن أحسن ما كتب المتنبي، باجماع من قرأ المتنبي، هو السيفيات، وأصدقه رثائاً كان لجدته، فهو ملك في صفاته، التي خلعها على سيف الدولة، أو طلبها في سيف الدولة.

لأن الشاعر عندما يمدح، يتطلب هذا في ممدوحه، ويبحث عن هذه الصفات في ممدوحه، ويريده أن يكون كما يقول، إن لم يكن كما يقول فعلاً.

يقولون لما أنت في كل بلدة وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى

لأنه لا يمكن أن يقبل لشاعر أن يطلب المُلك، بل كان دور الشاعر، أن يكون جزءً من البلاط الملكي فقط.

وذلك لأنه كان وزيراً للإعلام، ووظيفته أن يقوم بالمنافحة عن الملك، وأن يظهر فضائله وخصائصه، وأن يسجل أمجاده ومعاركه، في مرثية لوالدته يقول المتنبي:

كأن بنيهم عالمون بأنني جنوب إليهم من معادنه اليتما

وبنيهم يقصد بهم الملوك، ولذا فعقلية الفارس لديه، وعقلية البحث عن الولاية، هي عقلية من يبحث عن مشروع يريد أن ينفذه.

فهل كان طريق الشعر وقتها، يؤدي إلى إيجاد ولاية أو قرية، تكون نموذج أو مقدمة، لما يبحث عنه المتنبي؟ يقول في هذا البيت:

تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا قائلاً إلا لخالقه حُكما

ولا سالكاً إلا فؤاد عجاجة ولا واجداً إلا لمكرمة طُعما

والمتنبي كان يستحي، أن تكون جائزته من الممدوح هي الولاية، التي تجسد القيم العليا، فهو لا يريد مالاً، بل قرية كما قال لكافور:

إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني وشغلك يسلبُ

الشهرة والغموض

شهرة المتنبي كانت منتشرة، وأخملت كل الشعراء في عصره، قال ابن رشيق كلمته المشهورة: لما جاء المتنبي، ملأ الدنيا وشغل الناس، والمتنبي يقول عن نفسه:

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصمُ

تكلم عن شعره، لأنه هو من نوادر الناس، الذين جمع شعرهم، وشرح في حياتهم، وغير بعيد منه الشاعر المعري، عندما شرح ديوانه فأسماه المعجزة.

رغم أن شعر البحتري هو من العبث، وشعر أبو تمام محكم، ولكن المعجز في شعر المتنبي، فكأنه ربط الإعجاز بالمتنبي.

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمراً وغنى به من لا يغني مغردا

ولكن من الواضح، أنه كان يستخدم فعل النهي، عندما خاطب سيف الدولة الحمداني:

ودع كل شعر غير شعري فإنني أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

والآخر بقصده هنا هو المطلق، بما كان قبل المتنبي، وما سيأتي بعده، ويقول الثعالبي: سافر كلامه في البدو والحضر.

والذهبي قال قبله: ليس في العالم أشعر منه، وهل بالغ الصاحب بن عباد، حين قال: أن الشعر بدء بملك وختم بملك؟

عندما اعتبر أن امرؤ القيس، هو بداية الشعر، وهو ملك ذاته الملك، فهو عندما قُتل أباه، هجر الشعر والخمرة، ليسترد ملكه، فما استطاع أن يفعل، أما المتنبي، حاول أن يحصل على الملك، ولم يكن له أصلاً.

هل أبو الطيب المتنبي من قبيلة كندة؟

هذا هو الغموض في حياة المتنبي، بقدر شهرته في الشعر والنثر، هناك نظريات، إحداها التي عند محمود شاكر، وأنه من الدين العلوي، ويخفي نسبه.

وأن ما يعيشه في شعره، من أنفه وعظمة وفخر، لا يمكن أن يكون لابن السقاء، لحي من الأحياء يسمى كِندة.

ولكن هي نفسية رجل، يحاول الحصول على الملك، وهي مرتبطة بآل البيت، فهم يسعون بشكل دائم إلى الحكم والولاية.

ونقول أن المتنبي صحيح أنه عاش في زمن القرامطة ولكنه لم يكن يهتم بالمذاهب المختلفة فهو معتد بنفسه لدرجة أنه يعتقد أن لديه مذهب خاص به.

هناك شاعر موريتاني كبير، وهو صاحب رأي مهم ويقول: أنه التقى بشاعر كويتي في المطار، وكانا يتحدثان عن المتنبي، وبأن المتنبي يعايش عصره، والعصر الذي بعده.

فالذي قاله مثلاً في الرئيس المصري أنور السادات:

لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعّال

ويقول في طه حسين:

وإذا خفيت على الغبي فعاذرٌ أن لا تراني مقلة عمياءُ

شهرة المتنبي في حياته غلبت شهرة الشعراء

والمتنبي لا تنتهي عجائبه، ومازال يشغل الناس حتى الآن، ففي شعره من الغموض والغرائب، الكثير منها.

لأن الشهرة تأتي للشاعر، بعد وفاته، ولكن المتنبي كان مشهوراً، وكاسفاً لجميع الشعراء العظام، والعلماء في زمنه، وهو حي.

لدرجة أن ابن الأمير، وهو أحد أمراء المنطقة في تلك الفترة، كان لديه عزاء، فجاء أحد أصدقائه فوجده مهموماً، قال أختي متوفاة وأحدهم أهداني خمسين كتاباً، وكلها أبيات للمتنبي في الرثاء.

شاعر الحكمة بلا منازع

الناحية الثانية التي يتميز بها المتنبي، هي خاصة في شعر الحكمة، فعادة ما يكون شعر الحكمة بارداً، لأنه صوت العقل وليس صوت العاطفة.

ولكن أكثر ما يميز المتنبي هي حكمه، وهي حرارة كبيرة، لا تكاد توجد في أي حكم شاعر آخر، حتى لو كان زهير بن أبي سلمى.

هذه من خصائص المتنبي الأساسية، والخاصية الثالثة، أن قدرته على التلاعب بالكلام، جعلت شعره في كافور مثلاً، قابل للقراءة بوجهين.

باعتباره كان مدحاً في ظاهره، وهجاءً في باطنه، ولا أدل على ذلك من القصيدة، التي افتتح بها مدحه لكافور:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

فهذا لا يقال في حضرت الملوك، لأنهم يتشائمون، وعندما نقرأ البيت بشكل عميق، نجد أن سيف الدولة هو الحاضر، وكافور هو الغائب، رغم أنه في الواقع بالعكس.

والداء هو كافور، والشفاء هو سيف الدولة الحمداني، والمنية هي كافور أيضاً، والأماني هي سيف الدولة الحمداني.

أمنيات أبو الطيب المتنبي في قصائده

المتنبي وخلف هذه الطاقة الشعرية الكبرى، يوجد بها مشروع ورؤية، وليست مجرد حياة عبثية، وحتى في طلبه للولاية وليس للمال أيضاً، يؤشر إلى شيء.

وفي النهاية لم ينل الولاية ولا المنح، وهذا شيء غريب، مع كل هذه الحظوة والشورى، بالنسبة لشعراء غيره، في المدح والهجاء.

ولكن نظن أن هذا الرجل، جاء في لحظة انكسار العروبة، وانكسار اللسان العربي، وفي لحظة انكسار الكرامة.

فبدأ يعيد من جديد صورة الصحراء، والأخيلة العربية الأصيلة، وهذه الأمور كان استعادتها للسان العربي، هي جزء من استعادة المشروع العربي، مع الوجود التركي أو المملوكي وغيرهم.

وهذه الرؤية هي صوت الصحراء الأخير، ولا بد أن نلتفت إليه في شعره، ويلاحظ ذلك في البيت الذي قاله، أنه الطائر المحكي والآخر الصدى.

المتنبي والصراع حول تناقضاته الغريبة

كلنا نتفق على المتنبي وشاعريته، نجد فيها مثلما نجد عند أكثر الشعراء الكبار في العالم، فكما نتحدث عن المتنبي، نتحدث عن شكسبير.

تستطيع أن تجد شطراً، أو بيتاً أو قولاً في شكسبير، كما تجده في المتنبي، ولكن نطرح سؤال أكاديمي، وسنجيب عليه.

منذ بدايات النقد العربي، في أواخر القرن الثاني للهجرة، بدأت معركة الجديد والقديم، وعندما أتى المتنبي، توقف هذا الصراع.

أصبح الصراع حول المتنبي حينئذ، وأصبح المتنبي هو موضوع الصراع، إن كان في السرقات الأدبية، أو في مفهوم الشعر، أو علاقة الشعر بالحكمة.

وكل هذه الأمور، أصبحت هي أساس النقد العربي القديم كما نعرفه، فالسؤال هنا، هل يمكن أن نستشف خصائص معينة، لدى المتنبي، وتأثيرها على مؤسسة الأدب العربي.

لأن المعيار الأساسي في النقد الأدبي عند العرب، هو الشعر، فكلما اقترب النص النثري من الشعر، كلما أصبح أدبياً أكثر.

فما هي الخصائص الموجود ة في شعر المتنبي، التي حولت كل مشاكل النقد الأدبي، ومفهوم الشعر لدى كل النقاد، حتى اللغويين مثل ابن جني، والجرجاني.

ما هي الأشياء التي جعلت هذه الخصوصية الكبيرة، موجودة عند المتنبي، والتي جعلت منه، الرافعة التي يعتمد عليها النقد الأدبي.

شعر أبو الطيب المتنبي والشعر الجاهلي

مفهوم الشعر عند العرب، أصبح مرتبطاً بالمتنبي، لم يعد مرتبطاً بالشعر الجاهلي فقط مثلاً، مع أن هناك نظرة معينة للشعر الجاهلي.

ونسي الناس جرير والفرزدق والأخطل، وأبو تمام والبحتري، وأصبح اهتمام الناس بالأساس، في هذا الرجل المتنبي.

ونسوا بشار بن برد وأبو نواس، وأثرهم الكبير في تجديد الشعر العربي، وثورتهم على الأنماط القديمة.

المتنبي فيه ثورة ولا ثورة، فهو شيء عجيب، من ناحية هو ثائر كبير، ولكن من ناحية أخرى، هو تقليدي في أوزانه وصوره.

ومن هنا جاء موضوع السرقات الأدبية، لأنه كان تقليدياً بالمفهوم الإيجابي، لهذا يمكن الإجابة عن السؤال الذي طرحناه سابقاً  بالقول:

أن هناك عدة أمور مختلفة في المتنبي، الأول منهم هو ظاهرة الحكمة الحية لدى المتنبي، فالحكمة في شعر المتنبي مقصودة دائماً، في كل القصائد.

وعندما قتل المتنبي، وجد في جعبته كتب كثيرة، من كتب الفلسفة والحكمة، التي كان يقرأها، ثم يحولها إلى شعر، فكانت الحكمة الشعرية، أجمل وأكثر تأثيراً، من أن تكون مكتوبة، في سياق الحكمة.

والسبب الثاني أن هذه الصورة المفاجئة لديه، للأحداث والأشخاص، والغضب على النافذين، في السلطة.

تحبها المجتمعات المقهورة، فهي تحب من يشتم ويهجو صاحب السلطة، وحتى في مجتمع ديمقراطي، يحب الناس جانب الفضائح.

ولذلك بقي في أذهان الناس، الصورة التي صورها لكافور مثلاً، فقد أنزله في الصورة، لدرجة وصف طريقة تعامل أظافره الخشنة، مع ملابسه الناعمة مثلاً.

يستخشن الخز حين يلمسه وكان يبرى بظفره القلم

شعر أبو الطيب المتنبي وتواصله مع قارئه

والمتنبي في شبابه، كان يبكي على شبابه ويعاتب نفسه، عتاب اللذات في نفسه، والتي تضع نقطة الوصل بين القارئ، وبين المتنبي بقوله:

ولقد بكيت على الشباب ولمتي مسودة ولماء وجهي رونقُ

حذراً عليه قبل يوم فراقه حتى لكدت بماء جفني أشرقُ

وقد مر المتنبي من بلاد فارس إلى مصر، وإلى حدود بلاد الروم، وعبر الصحراء عدة مرات، ووصف أحواله في الصحراء، والناس الذين يقابلهم.

فتجد بشكل أو بآخر، نفسك وقضيتك معه، أو تجد مثالاً يشبهك في هذه القصائد، ولذلك يقولون أن الكاتب الجيد، هو الذي تجد نفسك في نصه، وإلا سيكون بعيداً عنك.

والذي جعل المتنبي علامة فارقة في الشعر العربي، أن شعره فيه الحكم، والمتنبي حكيم، ومعظم الأبيات التي نستدل بها في يومنا الحالي، هي من شعر المتنبي.

وخيال المتنبي واسع جداً، فكان يأتي بصور غير مسبوقة:

صحبت في الفلوات الوحش منفرداً حتى تعجب مني القور والأكم

والمتنبي شاعر نزق، وجميل بالشعر أن يكون نزقاً، وأن يكون شخصية قلقة جداً، وهو هكذا بالضبط.

يقولون لي ما أنت في كل بلدة وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى

ويقول:

ذراني والفلاة بلا دليل ووجهي والهجير بلا لثام

فإني أستريح بذي وهذا وأتعب بالإناخة والمقام

فالمتنبي كان ذروة ما ينبغي أن يصل إليه الشعراء، مع كل جوانب الأدب العربي، من البلاغة وغيرها.

صفات أبو الطيب المتنبي الغريبة

من صفات المتنبي الغريبة أيضاً، أنه كان يرتدي لباس الصيف في الشتاء، ولباس الشتاء في الصيف، وكان إذا أنشد الشعر، ينشده وهو جالس حصراً.

ويشترط أن يأتي بنفسه، حتى يلقي القصيدة، لا أن يبعث إليه أحد يناديه لإلقاء الشعر، بالطريقة التي يريدها هو، فكان يسير على شروطه فقط.

وكان يحمل في نفسه هم الأمة، بقوله:

ولست مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازمُ

ويقول:

كأنك وحدك وحدته ودان البرية بابن وأب

قصيدة الشهباء أبو الطيب المتنبي

وهناك قصيدة للمتنبي، باسم المتنبي والشهباء، وقد ألقيت في مهرجان المتنبي في عام 1958، وهي تتحدث عن حلب المدينة السورية، ولقبها الشهباء.

نفيت عنك العلا والظرف والأدبا وإن خلقت لها إن لم تزر حلبا

شهباء لو كانت الأحلام كأس طلا في راحة الفجر كنت الزهر والحببا

أو كان لليل أن يختار حليته وقد طلعت عليه لا زدرى الشهبا

لو أنصف العرب الأحرار نهضتهم لشيدوا لك في ساحاتها النصبا

لكن خلقت لأمر ليس يدركه من يعشق الذل أو يعبد الرتبا

ملاعب الصيد من حمدان ما نسلوا إلا الأهلة والأشبال والقضبا

الخالعين على الأوطان بهجتها الرافعين على أرماحها القصبا

حسامهم ما نبا في وجه من ضربوا ومهرهم ما كبا في إثر من هربا

ما جرد الدهر سيفاً مثل سيفهم يجري به الدم أو يجري به الذهبا

رب القوافي على الاطلاق شاعرهم الخلد والمجد في آفاقه اصطحبا

سيفان في قبضة الشهباء لا ثلما قد شرفا العرب بل قد شرفا الأدبا

عرس من الجن في الصحراء قد نصبوا له السرادق تحت الليل والقببا

كأنه تدمر الزهراء مارجة بمثل لسن الأفاعي تقذف اللهبا

أو هضبة من خرافات مرقعة بأعين من لظى أو من رؤوس ظبى

تخاصر الجن فيها بعدما سكروا وبعدما احتدمت أوتارهم صخبا

فأفزع الرمل ما زفوا وما عزفوا فطار يسنتجد القيعان والكثبا

تكشف الصبح عن طفل وماردة له على صدرها زأر إذا غضبا

كأنه الزئبق الرجراج في يدها أو خفقة البرق إما اهتز واضطربا

نادى أبوه عظيم الجن عترته فأقبلوا ينظرون البدعة العجبا

ماذا نسميه قال البعض صاعقة فقال كلا فقالوا عاصفا فأبى

فقام كالطود منهم مارد لسن وقال لم تنصفوه اسما ولا لقبا

سنبعث الفتنة الكبرى على يده فنشغل الناس والأقلام والكتبا

ونجعل الشعر ربا يسجدون له فإن غووا فلقد نلنا به الأربا

واختال غير قليل ثم قال لهم سميته المتنبي فانتشوا طربا

وزلزلوا البيد حتى كاد سالكها يهوي به الرحل لا يدري له سببا

يرى السراب عبابا هاج زاخره والرمل يلتحف الأزهار والعشبا

والقصيدة طويلة، فيها من روح المتنبي ونفسه، الشيء الكثير، وهي موجودة في دراسة الصائح المحكي، بتتبعه أثر المتنبي حينئذ.

والذي يجعلنا نتحدث عن المتنبي، أن زمانه شبيه بزماننا، فهو يعاني بنفس الأشياء التي نعاني منها اليوم، لهذا فإذا أخذت قصائده عن سيف الدولة، كأنك تقرأ في زماننا.

أمير يحاول أن يحارب الغزاة، والشعر يضيق بمجموعة من الحكام الآخرين، الذين لا يبالون:

أرانب غير أنهم ملوك مفتحة عيونهم نيام

ويقول:

وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميلُ

ويقول:

تُبكي عليهن البطاريق في الدجى وهن لدينا ملقيات كواسد

أي كان في جو معركة مع الصليبيين، ومع ضيق بالحكام الموجودين حول ممدوحه، والمتنبي مثقف جداً، أدخل الثقافة في عالم الشعر:

وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب

والمتنبي كان غزلاً، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، حيث يقول:

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحب ما لم يبق مني وما بقي

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشقِ

وبين الرضى والسخط والقرب والنوى مجال لدمع المقلة المترقرق

وأحلى الهوا ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي

وغزله كان فيه شيء من الحسية:

بأبي الشموس الجانحات غواربا اللابسات من الحرير جلاببا

المنهبات عقولنا وقلوبنا وجناتهن الناهبات الناهبا

الناعمات القاتلات المحييات المبديات من الدلال غرائبا

حاولن تفديتي وخفن مراقبا فوضعن أيديهن فوق ترائبا

وبسمن عن برد خشيت أذيبه من حر أنفاسي فكنت الذائبا

يا حبذا المتحملون وحبذا واد لثمت به الغزالة كاعبا

 أبو الطيب المتنبي

أسمار وأفكار

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى