إسلامشخصيات

استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم في مكة

استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم  : يستمر حديثنا عن المرحلة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لعموم الناس. وقلنا أنه في السنة الثالثة تحدث إلى عشيرته الأقربين.

وتقول المصادر جميعاً أنه في نفس الوقت تقريباً، بدأت الدعوة العامة من خلال مؤتمر جامع دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فوقف خطيباً على تلة من تلال مكة، ونادى على أسماء بطون قريش جميعاً.

فاحتشد الناس ومن لم يستطع أن يأتي، بعث مندوباً ليسمع ما الذي سيقوله محمد في هذا الخطاب.

ما كان في خطاب النبي

أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه نبياً بروايات كثيرة مختلفة.

مثل أن قال: لهم لو قلت لكم أن جيشاً سيأتيكم من خلف هذا الجبل، هل أنتم مصدقي؟ قالوا: والله ما عهدنا عليك كذباً قال: فإني رسول الله ليكم جميعاً وهكذا .

هذا الإعلان بغض النظر عن الصيغة الحرفية له، كان البداية الحقيقية للتفاعل المباشر مع المجتمع المكي.

أصبح الحديث الذي كان تسمعه قريش همساً عن النبي يتحدثه مع زمرة من أصحابه، وعن مجموعة منهم تخرج إلى شعب من شعاب مكة للصلاة فيرونهم مستخفين ويعلمون بخبرهم ويتجاهلونهم الآن أصبح الإعلان رسمياً.

أيضاً تقول لنا كتب السيرة، أن قومه تجاهلوا هذا الإعلان في البداية، سمعوه لكن لم يقبله كثير منهم ولم يصعدوا لماذا؟

استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم  وبنية قريش الاجتماعية

قريش في بنيتها الداخلية مجتمع تجاري هذه سوق مفتوح وأهل التجارة، لا يرغبون في كثير من التوتر والاضطراب.

لأنه قد يؤدي إلى مشاكل تؤثر على تجارتهم، والقوافل القادمة إليهم والحجيج، فلا يريدون هذا الضجيج، لذلك الاستراتيجية التي اتبعتها قريش في البداية كانت تجاهل هذه الدعوة.

لكن هنا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في أن طبق استراتيجيته هو، وأهم عنصر فيها وهذا عنصر نراه في كل مسيرته الدعوية عبر 23 سنة هي المبادرة.

النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يختار الوقت الذي يعلن فيه عن نفسه، كان هو الذي يتحدث إلى قومه وينقل الحديث إلى مراحل جديدة.

دائماً يبادر، لا يسمح لهم في أن يضعوه في دائرة معينة ويحصروه في مساق محدد، بل هو الذي يبادر وهم الذين يجرون من  خلفه، هو الذي يفعل، وهم الذين يقومون برد الفعل من بعده.

ولذلك يقول ابن اسحاق: لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، اعتبروا أنهم ما سمعوا فما ردوا عليه وما اتبعوه وكل سار في مسيره لبعض الوقت.

فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يصعد في لهجته، قال: فلما عاب آلهتهم وشتمها عندها بدأوا مضطرين أن يأخذوا موقفاُ.

لماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟

وهو الرفيق المهذب اللسان الذي كان معروفاً بخلقه القويم الرفيع، كان يحاول أن يضغط على قريش لكي ينقلها من مربع التجاهل إلى مربع الحوار والدخول في نقاش حول أفكاره ورؤيته ودعوته.

وكل ذلك طبعاً كان هناك توجيه إلهي بالآيات التي نزلت بهذه المرحلة، والتي رفعت من وتيرة الحديث عن قريش بشكل مباشر في سورة قريش.

ثم بعد ذلك عن السمات الخاصة بالديانة الإسلامية، وعن التوحيد، وأن محمداً لا يفعل سوى أنه يتبع سنة إبراهيم عليه السلام الديانة الحنيفية التي يتبعها ويحييها الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعن الأشياء التي تقوم بها قريش من التطفيف في الموازين، ومن الوأد للبنات ومن الظلم والاحتكار، وكل ذلك.

بمعنى أن قريش أدركت أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست مسألة روحانية تنسكية تعبدية مثل ورقة بن نوفل.

خطاب النبي مختلف

هذا رجل لديه خطاب مختلف، وهذا الخطاب لا ينال الآلهة في رمزها، بالمناسبة قريش لم تكن عظيمة التدين في ما يتعلق بالأوثان.

فالأوثان اتخذت من أجل صياغة هوية للمجتمع القرشي والمجتمعات القبيلة العربية في ذلك الوقت، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عندما تكلم مع قومه أنهم يتخذونها مودة بينهم.

وليست مسألة تعبد للأحجار، لأنهم يعلمون أن الله الواحد الأحد هو الفعال لما يريد، لكن الأوثان تربط القبائل والمجتمعات، وإلا كيف نفسر وجود ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة حينها ؟

عبادة قريش

نعرف أن قريش تعبد هبل وإيساف ونائلة، ولكن 360 صنماً هذا عدد كبير. معنى ذلك أن قبائل العرب كانت تأتي بأصنامها لتضعها هناك.

وقريش تفسح لهم المجال لسبب أنها تركز على استثناية مكة، وأنها رمز جامع لكل قبائل العرب، وهذا يفيدهم في التجارة والسياسة واستثنائية قريش التي حاولت أن تؤكد عليه دوماً.

محمد صلى الله عليه وسلم يهدم ليس الديانة الوثنية التعبدية الطقوسية لا، يهدم المنظومة التي بنيت عليها هذه الديانة، وهدمها بمقولات في غاية الخطورة بالنسبة لقريش.

فيقول لهم أنا لا أفعل شيئاً إلا أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وأنتم لا تستطيعون أن تنكروا أن إبراهيم هو الأب الشرعي لمكة، هو الذي رفع القواعد، وبنى البيت وهو الذي حدد الحرم.

وفي عهد إبراهيم تحددت الأشهر الحرم والحج، كل ما تقومون به يعود في الأصل إلى الشريعة  الإبراهيمية. إذن لا افعل شيئاً خارجاً عن المألوف ولا آتي بشيء غريب عليكم.

إنما أعيد لمكة نقائها الأول في عهد إبراهيم عليه السلام، وهذه دعوة في غاية الأهمية، ولقريش بغاية الخطورة، يعلمون صدقه ولا يستطيعون له رداً.

استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم  وتركيبة قريش الطبقية

تركيبة قريش القيادية كانت بطبقتين مهمتين، الأولى طبقة الشيوخ وهم أربعة حسب ما فهمت من سياق السيرة، يمتازون بأنهم شيوخ في السن ولهم قدر كبير بين أتباعهم:

الوليد بن المغيرة زعيم بني مخزوم، عتبة وشيبة ابنا ربيعة وكانا من بني عبد شمس ومن المسنين ولهم مقام وأبي أحيحة بن العاص وكان من الشخصيات التي توازي الوليد بن المغيرة.

تحتهم كانت الطبقة التنفيذية الثانية القيادية في قريش، كان فيها أبو جهل والنضر بن الحارث وأبو سفيان ومجموعة من الشخصيات التي تأتي في الطبقة الثانية.

وكانوا جميعاً تنفيذين وكانوا مقاربين للنبي صلى الله عليه وسلم بالعمر، كلهم بالأربعينيات، كانوا أترابه.

الذي حدث أن السادة كانت لهم رمزية شرفية، لكن معظم التعاملات اليومية في قريش ودار الندوة والتجارة  كانت تتم من قبل الطبقة الثانية.

سبب نزول الشيوخ من الطائف

في رواية معبرة أستحضرها هنا، أن في صيف ذلك العام كان شيوخ قريش الكبار دائماً يذهبون إلى الطائف، وكان لديهم مزارع ليصطافوا بعيداً عن قيظ مكة وحرها.

فقال: فعلموا أن حادثة وقعت في مكة، إذ حاول أبو جهل ومجموعة من هذه الطبقة الثانية أن تتعرض للنبي وأصحابه صلى الله عليه وسلم، قال: فقطعوا زيارتهم وعادوا إلى مكة لإنهاء التوتر.

هذه الطبقة لا تريد أن تتفرق قريش، لأنها ستضر بمصالحهم التجارية، وهيبتهم بين العرب. فاجتمعوا مع الطبقة الثانية وسألوهم عن الأمر.

فقالوا لهم أن محمداً يشتم آلهتنا، ويعيب آبائنا ومحمد يتكلم كلاماً، ولا يمكن أن نستمر على هذا الحال. هنا أدرك الوليد وأدرك عتبة أن لا بد لهما لأن يتدخلا لينزعوا فتيل التوتر.

استراتيجية قريش

تروي كتب السيرة أحاديث كثيرة عن من قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال في أول الأمر لكن الحقيقة ما حصل أنه استراتيجية قريش كانت واضحة.

في البداية الإهمال، ومن ثم الحديث المباشر مع النبي صلى الله عليه وسلم واستمالته وبالعروض السخية لأن المجتمع يعتبر أن كل شيء يحل بالمال أو بالمكانة والمنزلة.

هناك رواية جميلة عن لقاء تم بين عتبة بن أبي ربيعة وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطبه عتبة برقة وقال له:

يا ابن أخي هل رأيت أحداً يفرق بين قومه وقد جئت بشيء جديد عبت آلهتنا وشتمتهم. فلنجلس ونتفاهم، ولك عندي عرض.

فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أسمع ماذا تقول. قال له: إن أردت مالاً أعطيناك أموالاً حتى صرت أغنانا، وإن أردت نساءاً زوجناك أجمل قريش حتى صرت الأحسن بيننا.

وإن أردت ملكاً ملكناك علينا، فماذا تريد؟ فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه بتلاوة آيات من القرآن الكريم، يقال أنها من سورة غافر.

عندها تيقن عتبة أو الواليد بن المغيرة كما في رواية أخرى، تأكد أن خطاب محمد ليس دنيوياً وأن الذي يعرضه عليه لا علاقة له بما يرد به محمد.

اختلاف حديث النبي محمد عن غيره

فمحمد صلى الله عليه وسلم الآن يتكلم عن قيم عليا ومبادئ، وعتبة يعرض عليه الدنيا، لا يوجد قارنة بالإضافة إلى التلاوة التي تلاها النبي .

أدركوا وهم خبراء باللغة أن ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم استثنائي ولا يشبه أبداً ما يسمعوه من قس بن ساعدة أو من غيره من الخطباء والشعراء حينها.

لذلك قيل أن الوليد بن المغيرة عندما عاد، قالوا:. لقد عدت بغير الوجه الذي جئت به. فجلس وقال:

والله لقد سمعت من محمد كلاماً ليس بكلام الجن ولا كلام الإنس. والله إن علاه لمزهر وإنه لمغدق إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة.

اتهامه بالسحر

قريش امتعضت من هذا الشيء، وجاء أبو جهل ودخل على الوليد بن المغيرة، وأقنعه بخدعة فعلها وكان جالساً حزينا فقال ما لك يا ابن أخي؟

فقال له: والله لقد تركت قريش تجمع لك مالاً. قال: لماذا وأنا أكثر الناس مالاً؟ قال: لأنهم رأوا بعد عودتك من عند محمد أنك كنت ضعيفاً، فقالوا نعطيه بعض مالنا حتى يتقو.

فغضب الوليد فقال: أرجع. فرجع إلى المجموعة، وقال لنفكر في موضع محمد، إذا قلنا أنه كاذب فالناس الذين يجلسون معه يقولون أنه صادق وما عهدنا عليه الكذب.

وإذا قلنا مجنون، أيضاً لدينا مشكلة لأن كلامه ليس كلام مجانين، قالوا فتفاكروا في الأمر وقرر المجمع أن يخرجوا بتهمة السحر.

قالوا لأنه يفرق بين المرء وقومه وبين المرء وأهله، وكلامه يجعل الناس يبتعدون عن العرف المتبع فهو ساحر.

لماذا كان ينبغي على قريش أن تتخذ في ذلك اللقاء مقولة تنشهر بين الناس؟ كانوا على وشك الدخول في موسم الحج.

وإن اكتشف الحجيج أن شيئاً في مكة يحدث، وسمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ستخرج الكلمة إلى أرجاء جزيرة العرب، أن شيئاً جديداً يحدث في قريش.

وقريش لا تريد هذه الصورة عنها، فقالوا لا بد لنا من شيء، فخرجوا بعدما حاولوا إغراءه وأن يستميلوه بموقف أنه ساحر .

وحالة الساحر تجعل الناس يتفادون الجلوس معه، لأنه بقوة خارقة خارجة عن المعتاد والمنطق، يمكن أن يسحرك فتتبعه من غير أن تدري، فهي تهمة شريرة.

في الحلقة القادمة سأستعرض فشل هذه الحجة بسبب مبادرات قام بها النبي صلى الله عليه وسلم باستراتيجيته المعهودة بألا يترك لقريش أن تبادر هي، أو أن تحصره في دائرتها الخاصة.

المصادر

 شاهد أيضاً:

شرح معنى الإيلاف في سورة قريش

المفاوضات التي حصلت في قريش خوفاً من الدعوة


جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com

ماكتيوبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى