الهجرة : من جميل ما أذكر في مسألة الحبشة، عندما كنت طالباً في جامعة إفريقيا العالمية، في الدراسات العليا.
كانت البيئة في السودان، مهتمة بمسألة الهجرة والبعثة إلى الحبشة، والأسباب كانت بعضها سياسية، بسبب ثورة الانقاذ في السودان، التي انطلقت حينها.
وأحاديث عن مسألة البعثة وهجرة الصحابة، فهي شرف لأية أمة في أفريقيا، أن تكون قد استضافة البعثة الأولى، والسفارة الأولى في الإسلام.
فكان الجدل بين الأكاديميين، هو أين كانت الهجرة؟ وما هي الحبشة المقصودة في كتب السيرة النبوية؟
تحديد منطقة الحبشة تاريخياً
ونعرف الآن، من حيث المبدأ، أن الحبشة، كانت تطلق على كل المنطقة الواقعة في أفريقيا، وفي غرب البحر الأبيض المتوسط.
أي أن كلمة الحبشة في ذلك الوقت، لم تكن تطلق على اثيوبيا الحالية، ولكن على الأراضي الواقعة غرب البحر المتوسط.
وهي تشمل اليوم، إثيوبيا وارتريا، وأجزاء من السودان، وحتى الصومال، فكلها كانت تسمى باسم الحبشة.
والجدل القائم، أن بعض الأكاديميين السودانيين، كانوا يصرون على أن الهجرة أو البعثة كانت في الحقيقة، إلى الساحل السوداني حاليا، أي المنطقة القريبة من بور سودان.
وبعضهم يقولون، على أن الهجرة أو البعثة، كانت إلى منطقة مصوع في ارتريا، كذلك كانت هناك محاولة، لصياغة هوية ارتريا، في ظل الحرب حينها.
وكذلك بعض الإثيوبيين قالوا، أن الهجرة أو العثة كانت إلى أكسوم، وعاصمتها، والتي كانت تسيطر على تلك المناطق.
أين تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة؟
والحقيقة أنني لم أصل بعد البحث والسماع إلى الأساتذة الكبار، في الدراسات السودانية، إلى قناعة نهائية، في أين تمت البعثة والهجرة الأولى في الحبشة.
هل تمت الهجرة فعلاً إلى منطقة ارتريا، أم أنها تمت إلى مملكة أكسوم، التي كانت عاصمتها أكسوم، في الهضبة في إثيوبيا.
من جملة ما نقرأ من السيرة، عن القصص التي رواها الصحابة الكرام، عندما تحدثوا عن الهجرة، أنهم ركبوا البحر، والسفينة بنصف دينار، وجلسوا ليلتين في البحر.
ولكن لم يذكر لنا في السيرة، أن الصحابة بعد الهجرة وصلوا إلى الميناء، والذي هو المفروض أن يكون قريب من مصوع، لأنهم ركبوا قريباً من جهة الجزيرة.
لم يذكر الصحابة عن الهجرة في رحلة برية، من مصوع باتجاه أكسوم، لأنهم سيحتاجون إلى عدة أيام، حتى يصلوا إلى عاصمة الدولة اكسوم.
نفهم أن البحر كان وسيلة النقل الرئيسية، وأن الكثير من الأحداث، حدثت في البحر، مثل قصة الزبير بن العوام.
عندما أراد أن يتتبع أثار المعركة، بين النجاشي وخصومه، فحاول أن يطفوا على البحر، من خلال قربة، لذلك سمي بالعوام.
تحديد منطقة الهجرة الأولى
والقصة التي أرتاح إليها أكثر، أن هذه الهجرة، حدثت فعلاً في منطقة قريبة، من منطقة مصوع، لسبب مهم.
أن دولة أكسوم في هذه الفترة، عام 615 للميلاد، التي حدثت فيها الهجرة إلى الحبشة، كانت الدولة تضعف.
لأن الدولة الرومانية البيزنطية، بدأت بالإنهيار، فانقطع الاتصال بين دولة أكسوم، وبين الدولة البيزنطية حليفهم، التي كان الإثيوبيون، يتاجرون معها.
لذلك نشهد مثلاً في تاريخ مملكة أكسوم القديم، في القرن السابع الميلادي، كانت آخر عملة صكت هي بعد عام 614، لأن التجارة مع الدولة البيزنطية، قد انقطعت.
البحث في الملك الحقيقي الذي استقبل البعثة الإسلامية
والآن في تاريخنا العربي الإسلامي، وفي كتب السيرة، ذكر اسم النجاشي، وكتب أنه أصحمة بن أبجر.
لا نعرف ملك بهذا الاسم، في مملكة أكسوم، بل هناك ملك يسمى سهامة، وربما يكون سهامة قريبة، من اسم أصحمة.
ولكن نعرف أن هذا الرجل، كان ميالاً لشيء من العقائد الدينية، المخالفة للعقائد الأرثوذوكسية التوحيدية.
فإن مملكة أكسوم، كانت قائمة على فكرة الأرثوذوكسية، التي تؤمن بألوهية المسيح، ولم يكن هناك تنازل عن هذا.
لذلك لم يكن ملك أكسوم معروفاً بهذا الميول، فالأغلب أن الملك التي تتحدث عنها كتب السيرة، هو ملك البحر.
الحبشة التي كانت مسار الهجرة إليها، كانت اسم كبير، جامع لمجموعة من الأقاليم، منها مملكة أكسوم، وتحتها أيضاً مجموعة من الولايات، لكل منها ملك.
باللغة القديمة الجعزية، وهي اللغة القديمة للغة تغريه حالياً، كانت كلمة نيغس، تعني النجاشي الملك، ونيغس ناغست، أي ملك الملوك، ونيغس بحارة أي ملك البحر.
وفي بعض الأحيان وردت كلمة بحارة، أو ابن البحر، فقد يكون الملك المذكور، هو الملك الذي كان يحكم منطقة البحر الأحمر.
العلاقة بين ملك البحر وقريش
وكان على علاقة تجارية مع قريش، وجزيرة العرب، فهي مسافة قصيرة بينهم، وهذه التجارة أدت إلى الألفة، بني قريش، وسكان الحبشة على شاطئ البحر الأحمر.
حتى أنه يقال، أن الكثير من سكانه، يتحدثون باللغة العربية، بعد الهجرة إليها، والأغلب أن هذا هو الملك، الذي استقبل الصحابة، وعاشوا في كنفه فترة من الزمن.
والذي يدل على أن هذه الهجرة، لم تكن مجرد بعثة إنسانية، وإنما ذات أبعاد سياسية، واستراتيجية، ودبلوماسية.
أن الكثير من الصحابة، لم يعودوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلتحقوا بالمسلمين، حتى بعد الهجرة إلى المدينة.
وإنما التحق كثير منهم، على رأسهم جعفر بن أبي طالب، السفير ورئيس البعثة أو الهجرة، في السنة الخامسة للهجرة، في أعقاب غزوة خيبر، بمعنى أنه كان لديهم شيء غير الهرب من بطش قريش.
الملك النجاشي وميوله التوحيدية
يقال أن الملك النجاشي استضاف المسلمين، لأنه كانت لديه ميولاً توحيدية، وهذا ممكن، لأن الكثير من الذين اضطهدوا من الكنيسة الأرثوذوكسية.
هربوا نحو جزيرة العرب، وبعضهم ربما إلى أثيوبيا، وربما من الذين لا يؤمنون بما يقولون هناك، ولكنه لم يظهر ذلك علانية.
وهناك موضوع انقطاع تجارة هذا الإقليم عن بيزنطة، فهو كان يحتاج أيضاً إلى تواصل، مع الجزيرة، وأراد أن يوسع نفوذه الاقليمي.
ويصبح له كيان استقلالي، عن مملكة أكسوم، التي ضعفت في تلك المرحلة، ورغم أن الملك المذكور.
وهو صحابي، قد صلى الله عليه النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة الغائب عند وفاته، وقال: قوموا صلوا على أخيكم.
وكان يعده كثير من رواة السيرة أنه من الصحابة، باعتبار أنه قد أسلم وآمن، وكان له حسن صلة مع المسلمين، في الحبشة.
وفي المدينة المنورة، عبر مراسلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن متهوراً، بمعنى أن الذي حدث خدم نفوذه واتصالاته.
لذلك فشلت قريش في أن تقنعه عبر سفيرها، الغير مقيم عمرو بن العاص، لكن النجاشي رفض، أن يسلم المسلمين واحتضنهم.
أثر المسلمين المهاجرين إلى الحبشة
والذي فعله المسلمون في الحبشة، أنهم زودوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، بمعلومات وتفاصيل، ومارسوا جزء من الدعوة.
وهذه المنطقة من الساحل، ارتريا حالياً، كان فيها مسلمون كثر، فلاسلام فيه كان أقرب، وأكثر من الإسلام في منطقة أكسوم حالياً.
لذلك باعتقادي، أن البعثة أو الهجرة، قامت بدور كبير وواسع، ومهم، والأهم، أنها أربكت قريش، فقد عرفت قريش، أن هناك مسلمين، خرجوا عن سيطرتها.
فلديهم ملك كان يلجئون إليه عند الضرورة، وهذه المبادرة النبوية الاستراتيجية العميقة، في الهجرة إلى الحبشة.
لم تفاجئ قريش فقط، بل هزت أساس وركن مهم، في التصور القرشي، للعلاقة ما بين القبائل، فلم يكن من طبع أبناء القبائل، أن يهاجروا بعيداً عن موطنهم.
ولذلك الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خرج عن هذا التقليد، وهاجم قريش بشيء كانت تعتقده ثابت، فأربكها، ولم تستطع أن تفعل شيء حياله.
البعثات المستمرة إلى كافة المناطق لنشر الإسلام
واستمرت المبادرات باتجاه القبائل، داخل الجزيرة، والطائف والمدينة المنورة، ولكن قريش في هذه الأثناء، قد فقدت صبرها.
وبدأت تشعر أن الأمور خرجت من يدها، واستهلكت كل أدوات التضييق داخل مكة، أرادت أن تنتقل إلى خطوة تصعيدية، وكانت بائسة.
فقريش القديمة المتهالكة، والضعيفة، كانت عاجزة أن تخترع بدائل جديدة، في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم، يقدم بدائل جديدة، ومبادرات تهز الثقافة القرشية، وقريش تعود إلى أساليب تقليدية.
مثل حصار أبي طالب، وقريش بدأت مبادرة، لم تستطع أن تكملها، لأسباب تتعلق بتركيبة المجتمع القرشي.
فقريش محبوسة في ذاتها وتقاليدها البالية، ورهينة عقليتها، التي قد عفا عليه الزمن، هي القديم الذي كان ينبغي أن يذوي وأن ينصرف.
وأما الجديد الذي يمثله الفكر النبوي، ويمثله مجتمع الصحابة، وتمثله رسالة الإسلام، كان الجديد، مبدع وخلاق، وخارج عن كل التقاليد السياسية والاستراتيجية القرشية، ولذلك كان قد آن أوان ولادته.