إسلام

الوضع الثقافي والسياسي في مكة زمن الرسول ﷺ

الوضع الثقافي والسياسي في مكة : كيف كانت تتواصل قبائل العرب قبيل البعثة وفي بداية البعثة؟ وبسؤال آخر ما هو الإعلام الذي كان ينقل الناس من خلاله، الأخبار والمعلومات والمواقف والآراء في جزيرة العرب؟

وضع مكة والشعر والأسواق 

الحقيقة أن أهم ما كان ينقل بين الناس هو الشعر، فهو الأداة الرئيسية في نقل المواقف والقيم والأخبار المختصة بقبائل العرب، وتحالفاتها ومحاوراتها وفخرها ورثائها.

وأداة ذلك الأساسية هي الأسواق، وأسواق العرب كان كثيرة، فهي أشبه بما تكون بمهرجانات أو مؤتمرات جامعة.

فكانت في قريش ثلاث أسواق مهمة، قريبة من مكة، سوق عكاظ والمجنة والمجاز، وهذه الأسواق الثلاثة، كانت دائماً تنعقد قبيل الحج.

سوق عكاظ التجاري والثقافي

فكان سوق عكاظ تحديداً، من أول يوم ذي القعدة إلى يوم عشرين ذي القعدة، وينتهي الناس من سوق عكاظ، ويتحولون إلى المجاز والمجنة بعده.

وينتهون في يوم ثمانية ذي الحجة، ثم يبدأون بطقوس وشعائر الحج، بمعنى أن قريش، سخّرت واستفادت من موسم الحج، في بناء منظومة اقتصادية حولها. وضع مكة الثقافي

ولكن الأهم هو الرمزية، لأن هذه الأسواق وعلى رأسها عكاظ، أصبحت هي محطة الثقافة العربية الأساسية في ذلك الوقت.

يأمها الشعراء والأدباء والخطباء، فكان سوق عكاظ منصة مهمة جداً، للتخاطب بين قبائل العرب المختلفة، وبين قبائل عرب الجزيرة وجوارها.

فكانت تأتي وفود من الحيرة المناذرة والغساسنة، ووفود من اليمن، والكل يلتقي في سوق عكاظ، طبعاً كان فيه جانب تجاري للبيع والشراء، ولكن الجانب الثقافي هو الجانب المهم في جمع القبائل.

الأسواق ولغة قريش

سنتحدث عن الجانب الثقافي، لأن اللغة التي كانت تتداول في سوق عكاظ، كانت لهجة قريش، فكانت القبائل تأتي لتنشد الشعر في لغة قريش.

وبعد ذلك ينتشر الشعر في أنحاء الجزيرة، في لغة قريش، فأصحبت لغة قريش هي اللغة السائدة، بفضل هذه الأسواق، وبفضل موسم الحج.

وهذه مهمة في المستقبل، فيما يتعلق بالقرآن ،لأن القرآن نزل بلغة قريش، واستطاعوا أن يتواصلوا مع النص القرآني، هم أنفسهم الذي تنزل على النبي الكريم في مكة.

الأسواق منتديات سياسية

وكانت الأسواق منتديات سياسية، فقد كان يأتيها زعماء القبائل، ويجتمعون فيها، فتكون مناسبة سنوية لعقد التحالفات، وإنهاء الخلافات وسد الديات. وضع مكة الثقافي

فكانت هذه التجمعات مهمة من أجل بناء شخصية سياسية للقبائل العربية المختلفة، إذاً الأسواق وسوق عكاظ على وجه التحديد.

كانت منتدى جماهيري، ومنتدى سياسي، يأمه السادة من شيوخ القبائل، وملتقى تجاري واقتصادي، يتحدث فيه الناس في شؤون البيع والشراء.

الشعر فخر القبائل

كان الشعر  كما قلنا، هو الوسيلة الأساسية التي يتخاطب الناس بها، فإن كانت لقبيلة ما شاعر، يشعرون بالفخر والاعتزاز.

لأن الشاعر ليس فقط مجرد أداة للتسلية أو المسامرة، ولكن الشعر كان أداة سياسية وعسكرية، في بعض الأحيان، وتعبئة معنوية، فالشاعر ثروة قبلية لأبناء القبيلة.

حرب داحس والغبراء

في حرب داحس والغبراء، نحن نسمع عن تسابق فرسان، لبني عبس وبني ذبيان، واختلفا أي منهما قد فاز، وتقاتلا.

وحصلت هذه الحرب المشهورة، لمدة أربعين عاماً، وانتهت قبيل البعثة النبوية الشريفة، ودخلت الحرب في أدبيات الشعر العربي، وأصبحت مجال للتباري بني الشعراء. وضع مكة الثقافي

ولكن بالمناسبة لم تقم هذه الحرب بسبب سباق فرس، فهذا تبسيط للمسألة، ولكن الحقيقة بالعودة لما حدث في القرن السابع الميلادي.

كانت منطقة نجد تعبرها قوافل المناذرة، وقوافل الفرس، فكانت قوافل المناذرة  تأتي مرة إلى مواسم العرب في عكاظ، وتسمى باللطيمة.

وأحياناً كانت قوافل الفرس تعبر نجد، باتجاه اليمن، لأنها كانت تحت النفوذ الفارسي، فكانت القبائل تهاجم هذه القوافل، وتسلب ما فيها.

غضب الفرس وغضب المناذرة، فأوكل النعمان بن المنذر ملك المناذرة، إلى قبيلة عبس، حماية القوافل، فغضبت قبيلة ذبيان.

لأن هذا المنصب ذهب إلى عبس، لما له من امتيازات اقتصادية وتجارية، لذلك حصل الاحتقان بسبب هذا الإشكال، وسباق الفرس كان حجة للوصول إلى الحرب.

وقد تعرفنا على تفاصيل هذه الحرب عن طريق الشعر والشعراء الكبار، مثل النابغة الذبياني، فهو من قبيلة ذبيان.

وهو بلا منازع، من أعظم ثلاث شعراء عرفهم تاريخ الجاهلية، امرئ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى.

النابغة الذبياني وعنترة العبسي

فكان النابغة ليس مجرد شاعر، بل شاعر ينقل الأخبار إلى الغساسنة أو المناذرة، وكان قريباً من النعمان، ويتوسط في قضايا سياسية، لكي يرتقي بمكانة بني ذبيان أمام المناذرة.

فكان هذا أحد الأسلحة في يد القبيلة، فأصبح النابغة الذبياني، ناطق اعلامي باسم قبيلة ذبيان، وعند قبيلة عبس كان لديهم عنترة العبسي.

فهو عبد  وقد حرر أثناء معركة داحس والغبراء، فبدأ يدخل في الشعر، هاجياً قبيلة ذبيان والنعمان بن المنذر.

وله قصيدة مشهورة، فأصبح ناطق اعلامي باسم قبيلة عبس، وشعرهما يشرح كثيراً عن تفاصيل المعارك الحاصلة.

زهير بن أبي سلمى

ونعود إلى شاعر أهم منهما، وهو زهير بن أبي سلمى، صاحب المعلقة المشهورة، والمعلقة هي بعض القصائد التي ارتقت أدبياً، وسميت بذلك لأنها كانت تكتب، وتعلق على جدران الكعبة. وزهير بن أبي سلمى كتب معلقته بعد انتهاء الحرب، على إثر صلح بني الطرفين، قاده رجلان من سادة بني ذبيان، الهرم بن سنان والحارث بن عوف.

وكانا من فضلاء بني ذبيان، فالحرب كانت قد كبرت، ودخلت فيها قبائل كثيرة، وشملت أجزاء واسعة من منطقة نجد، قريب من يثرب.

معلقة زهير بن أبي سلمى

وزهير بن أبي سلمى عندما ألف قصيدته التي مطلعها:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم                      بحومانة الدراج فالمتثلم

كان يريد أن يدفع بفضيلة، قدمها زعيما قبيلة ذبيان، وأشاد بهما اشادة بالغة، وخلد ذكراهما عن طريق شعره.

وهذه القصيدة رائعة، لأنها ابتعدت عن حوشي الكلام، والمعقد، وكانت صادقة، وفيها قيم كبيرة من الحكم.

ويعتبر زهير حكيم الشعراء، وكان عمر بن الخطاب يحترم زهير وشعره، لأنه كان يعتبره أشعر الشعراء.

وكان على ما يبدو زهير، شاعر لديه نزعة روحانية، فيوجد في شعره حديث عن الآخرة، والفضائل والقيم والأخلاقيات.

جدل الفرزدق وجرير

الشعر عند العرب كان شيئاً سهلاً، لأن العرب يحبون الحفظ وينقلونه نقلاً، وفي قصة مشهور لم تحدث في الجاهلية، بل حدثت في الإسلام في العصر الأموي.

وهي قضية المجادلة، بين الفرزدق وجرير، وكانا من أشعر الشعراء في العهد الأموي، وهما من قبيلة تميم، وكان شعرهما يحمل الكثير من الفخر والاعتزاز

هجاء جرير الشاعر النميري

وفي احدى المرات، جاء الشاعر الراعي النميري، من قبيلة نمير، إلى مجلس الشعراء، فكانوا يسألون: من أشعر الناس؟ فقال النميري: الفرزدق. وضع مكة الثقافي

فنهره جرير مرة ومرتين، وهو بقربه، فلم يرد عليه، وفي اليوم الثاني، فعل نفس الأمر، حتى شتمه جرير لقوله هذا.

وكتب قصيدة مهمة، تسمى القاطعة والدامغة، فقد دمغة قبيلة كاملة بصفة، أطلقها جرير حينها، ولم تنفك الصفة عن هذه القبيلة، في البيت الذي يقول فيه:

فغض الطرف إنك من نمير               فلا كعب بلغت ولا كلابا

يقول الراعي النميري: بعد أن تركنا المجلس ورجعنا، ونحن في الطريق، فكنا كلما مررنا بقوم وسألونا من أين أنتم؟ قلنا: من نمير،  فيذكروا لنا هذا البيت.

فلقد انتشر الشعر بين الناس بشكل كبير وبسرعة، حتى وصلوا إلى قبيلتهم، فخرج الناس يحتجون عليهم بانهم خذلوهم.

فكان بني نمير بعدها، إذا ارتحلوا بين العرب، وسُئلوا من أين أنتم، يقولون من بني عامر، وهي قبيلة أعلى نسباً، فاستطاع شاعر أن يقضي على سمعة قبيلة بين العرب.

الشعر والإسلام

وعندما جاء الإسلام، هذب الشعر، فقال سبحانه وتعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)

وأعاد الإسلام الشعر إلى ما ينبغي أن يكون عليه، فهو تعبير عن أشياء في المجتمع، دون أن يكون فيه الكذب والتهويل، والسب والشتم كما كان سابقاً.

فالشعر يشبه الإعلام قليلاً، إلا أنه يختلف عنه، فهو غير موضوعي وغير مهني، لأن فيه انحيازات كبيرة.

ولكن قيمته التاريخية، ولدى دراسة جميع القصائد، تجد أنك تستطيع رؤية الحدث من زوايا مختلفة، وتقيم المواقف القبائل المختلفة، لهذا فإن في الشعر قيمة تاريخية، ومن خلاله حُفظت مصطلحات وتعبيراتِ، وكلمات استفدنا منها في كل الأجيال القادمة.

المصادر

وضاح خنفر – الوضع الثقافي والسياسي في مكة زمن الرسول عليه الصلاة والسلام

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com

ماكتيوبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى