إسلام

الوضع الاقتصادي في مكة زمن البعثة

الوضع الاقتصادي في مكة : من الأشياء البديعة والجميلة في التاريخ دائماً، أن تحاول فهم الوقائع بشكل مباشر، لذلك أتخيل نفسي في بعض الأحيان صحفياً أدور في طرقات مكة، أنظر إلى بضاعتها إلى رجالها ونسائها.

وأحاول أن أستمع لما يقولون، لأنه من المهم جداً، أن تتخيل الوقائع وتضعها في سياقها، حتى تفهم روح التاريخ وروح المرحلة.

لنفترض أن صحفياً منا ذهب إلى مكة في العام 580 ميلادي أو إلى 590 ميلادي، في هذا العقد بدأت التجارة المكية تزدهر فيه.

سيرى مكة في  السابق مدينة صغيرة ترابية، بعيدة عن كثير من مظاهر الحياة الفخمة والجميلة، لكن اليوم مكة تبدو عليها ملامح جديدة، بدأت تجارتها تعود بربح وفير.

القوافل والربح الوفير / الوضع الاقتصادي في مكة

القوافل والربح الوفير الوضع الاقتصادي في مكة

يقول المؤرخون، أنه في هذه المرحلة، بدأت التجارة تعود أحياناً بعشرة أضعاف وعشرين وثلاثين ضعف رأس المال.

والسبب مفهوم، هناك مشاكل عالمية في الاقتصاد، والقوافل أصبحت تنقل البضائع، وتعلم تجار مكة بنقل أشياء خفيفة الوزن غالية الثمن.

ولذلك هذه الأشياء تباع بأسعار جيدة، تعود عليهم بربح وفير، والقوافل تذهب بالبضاعة القادمة من اليمن إلى الشام.

ومن ثم تعود من الشام مرة ثانية محملة بالبضائع، وبعضها يتجه إلى الحبشة، وبعضها يتجه إلى اليمن.

وأيضاً هناك طريق أخر يتجه من مكة، مرة ثانية إلى بلاد الحيرة، المناذرة الذين يعيشون تحت الحكم الفارسي، بمعنى أن هناك خمسة طرق تجارية تتفرع من مكة.

وكل من هذه الطرق في الحقيقة في حالة إزدهار، والطلب شديد، ولذلك ارتفعت الأسعار. الآن أصبح لدى المكيين فائض من الأموال.

تغير مظاهر الحياة / الوضع الاقتصادي في مكة

ما الذي سيفعلونه بذلك؟ بدأت مظاهر الحياة تتغير، اللباس البسيط الذي كان أهل مكة يلبسونه، لم يعد في الحقيقة هو الذي يلبسونه اليوم.

اليوم المكيون يلبسون أفخر الملابس، ومستوردة من خمس جهات، الملابس تأتي من اليمن، ومن فارس، ومن الرومان، ومن الحبشة.

أصبحوا يستخدمون العطور، لأن جزء مما كان يتاجرون به في طريقهم العابر من عدن إلى اليمن إلى الشام كانت العطور.

لماذا العطور؟ لأن العطور أيضاً كانت تأتي من طريق الحرير الجنوبي، القادم من الصين والهند وسيريلانكا في ذلك الوقت.

تغير عادات الطعام في مكة

فبالتالي كان العرب ثقافياً بدأت طريقة حياتهم تتغير، وأيضاً الطعام والشراب، الطعام العربي القديم معروف، كان غالباً الثريد، وبعض اللحم، وبعض الأشياء الرئيسية.

لكن لم يكن العرب يعرفون ما يقدم من أطباق شهية، في موائد الحيرة عاصمة المناذرة، أو بلاد فارس أو الروم، وما إلى ذلك.

لكن اليوم بوجود التجارة، ومع إزدياد عدد المتاجرين أيضاً، بحيث أصبحت القبائل ترسل أبنائها بشكل دوري ومنتظم إلى التجارة، أي أنهم أصبحوا رحالة.

والرحالة من خلال زيارته لأي مدينة في العالم، سيعود ببعض الأشياء والهدايا، وهنا بدأ الطعام في مكة يتغيير، وبدأت تدخل أطباق جديدة.

ولذلك نسمع عن عبد الله بن جدعان، الذي بدأ يقدم في موائده الفالوذج، يطبخه له طباخ أتى به من بلاد فارس، وأصبح لديهم ملاعق ومناديل وكراسي وأدوات تزيين للمائدة.

لم يعد الطعام فقط طعاماً أساسياً، بل أصبح رجال مكة ومشاهيرها، مثل الوليد بن المغيرة وغيرهم، عندما يقدمون الطعام والموائد ولديهم الخدم والحشم والحرس والعبيد.

وأصبحت لهم الهيبة والعظمة والوقار، وكانت أثوابهم المطرزة بالحرير، وربما الذهب، كان العبيد يرفعونها.

يقال أن الوليد بن المغيرة عندما كان يسير في طرقات مكة، ويسير خلفه عشرة عبيد، يحملون ثوبه كأنه ملك متوج.

لأن لديه الأموال والقدرة على الإنفاق، وأصبحوا يتباهون بالكرم، والكرم كان لأهل مكة وسيلة ودعاية لهم.

وكان يتغنى بهم الشعراء ويتكلم عنهم الناس والرحالة وقبائل العرب، وهذا شيء مهم جداً بمفهوم مثل شركات الدعاية اليوم، وهذا ما كان يحدث في مكة.

بروز الطبقية والتمايز في مكة

لكن هناك شيء مهم جداً، هذه الحياة الأفضل للنخبة في مكة، لم تكن الحياة الجيدة للفقراء والعبيد والمساكين الذين لم يكونوا أولاد بطون كبرى.

إذ كان هناك طبقية وتمييز، لم يحدث في السابق، وهذا يحدث في أي مرحلة من الثراء السريع.

أصبحت النقمة على الملأ في مكة أكبر من قبل عامة الناس، وهذا مهم جداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيحدث هذا الفرق لأنه سيتعامل معه. قراءة اقتصادية

ولكن الطبقة العليا من مكة، ليست كلها جشعة، فبعضها كانوا ما زالوا أوفياء للتراث القديم لمكة، جيران الحرم، أهل الله المؤتمنين على مكة وسدانتها.

كان هذا التراث المكي المحبب لنفوس العرب، المتواضع اللين الهين، العدل والتسامح، لا يزال في بعض النفوس.

ولكن نفوس أخرى اتجهت باتجاه السلطة والمال، والبذخ والتباهي، بالامكانات الهائلة لديهم، وبدأ عهد التمايز السياسي في المجتمع المدني.

وفي قمة الهرم المكي، حيث بدأت تظهر لدينا كتلتان رئيستان:

حلف المطيبين

ولهم قصة في غاية الأهمية، لأنها تعطيك إضاءة إلى طبيعة توازنات القوى في داخل المجتمع في قريش، عندما جاء عهد البعثة النبوية الشريفة.

المطيبون مجموعة التفت حول بني عبد مناف، وتحالفت معهم في إشكالية أساسية، حدثت منذ عهد هاشم، لها علاقة بمن يتصدر السيادة في مكة، بما يتعلق بالحقائب الخمسة الرئيسية.

والتي هي الحجابة والرفادة والندوة والسقاية واللواء، وكل هذه الحقائب كان يقوم بها هاشم، ولكن المفوض بها من قصي هو بنو عبد الدار وليس بنو عبد مناف.

واختصمت بطون قريش، بحيث وقفت مجموعة مع بنو عبد مناف، وأخرين مع بني عبد الدار

الذين وقفوا مع عبد مناف سموا المطيبون.

لأنهم وضعوا الطيب في وعاء وغرسوا أيديهم فيه، والأحناف وضعوا دم جزور وغمسوا ايديهم فيه، وهذا الحلف مع الزمن تطور حتى يصبح حلف القييم، والأخر تطور ليكون حلف السلطة والمال.

حلف القيم هو حلف المطيبيين الذي خلفه هاشم، ومن ثم المطلب ثم عبد المطلب ثم ابو طالب، وصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والقبائل التي تحالفت معهم، بقيت على ود معهم كبني زهرة وتيم، حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن بعضهم لم يسلم.

ومن ثم تحول حلف المطيبين بعد فترة إلى حلف الفضول، وهو في الحقيقية الحلف الإيجابي باتجاه الجديد، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

حلف الأحلاف أو لعقة الدم

هذا الحلف كان فيه بني مخزوم وبنو سهم، وبني جمح وعدي، وهذه القبائل أو الأفخاذ في قريش، كانت على عداء مع بني هاشم.

وتوارثوا العداء وصولاً إلى عبد المطلب وإلى أبي طالب، ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، خرج منهم أبو جهل زعيم بني مخزوم، وخرج منهم زعيم بني جمح أمية ابن خلف.

واخرون هؤلاء كلهم كانوا يقودون المعارضة ضد النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً أصل الخلاف في قريش، بدأ عبر عقود من الزمن، من خلال حزبين أساسيين. قراءة اقتصادية

حزب يقوم على التقاليد والعادات والقييم الجامعة لقريش، كحماة للحرم، وفرع أخر يقوم على الجشع والسلطة والنفوذ والمال.

هذا الإنقسام في قمة الهرم القرشي، كان بالأساس هو البيئة السياسية التي بعثت فيها الرسالة في عام 610 ميلادي.

هي الفترة التي فعلاً مهدت من خلال هذا التنوع والتدافع، لمبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وأفادت كثيراً في منطلق بعثة النبي.

لأن بني هاشم وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف معهم القبائل المنضمة إلى حلف المطيبيين بينما وقف حلف السلطة والمال، وقفة شرسة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وضد بني هاشم جميعاً.

إذاً التغيير التجاري في جزيرة العرب، الناتج عن موازين القوى العالمية واختلالها، أدى إلى تغيير اجتماعي، وإلى تغيير سياسي.

وإلى تهيئة جديدة للواقع القرشي لكي يستقبل رسالة جديدة، في بيئة يمكن لها ان تتعامل مع هذا الوافد.

هذا بالضبط الذي يقودنا للقول أن تلك المرحلة، كانت نهاية عهد إنساني عالمي هائل، تشكل في العالم تأثرت به مكة، لكي ينطلق عهد جديد في مكة، ليعود ويأثر على العالم.

السلام عليكم ورحمة الله

المصادر

وضاح خنفر

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com

ماكتيوبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى