تدمر حضارة عريقة، لم تنشط الدراسة العلمية لتدمر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فابتداءً من سنة ١٨٦٠ م بدأ يحلُّ العلماء محلَّ المغامرين وشرعوا في المجيئ إلى تدمر بُغية العمل هناك.
على الرغم من أن إعادة اكتشاف تدمر في أواخر القرن السابع عشر أمر يرجع فيه الفضلُ إلى التجار الإنجليز القادمين من حلب في ١٦٧٨، وأن أول منشور “ناجح” كان “أثريون مسافرون” إنجليز ر. وود و ج. دوكينز (برفقة الرّسام الإيطالي ج. ب. بورا) سنة ١٧٥١، فإن فرنسيَين اثنين على الأقل، جيرو و صوتيت، كانا قد زارا المدينة منذ عام ١٧٠٥، تلاهم كلود جرانجي سنة ١٧٣٦.
رسوم ونصوص
ليست هناك أية رواية لهم، ولكن جيرو قدّم بانورامي جميل عن الخرائب، ليس له آثار اليوم، ولكن هناك نسخة نسخها نقاش الحفار ب. ج. مارييت محفوظة في مكتبة المعهد.
المنظر هذا يُضاهي ذاك الذي كان قد أتى به الهولندي ج. هوفستيد فان ايسن منذ سنة ١٦٩١.
وفي عام ١٧٨٥، قضى الفرنسي الرسّام الماهر ل. فر. كاساس (١٧٥٦ــ١٨٢٧) عدة أسابيع في تدمر، أنجز فيها مئات الرسوم والرسوم المائية حيث قاده خياله في بعض الأحيان إلى تجميل الواقع إلى حد ما.
وكان للفرنسيين أيضا حصة ملحوظة في البحث العلمي، الذي اتّخذ بعد ذلك خطواته الأولى.
في سنة ١٧٥٤، وفي الآن نفسه مع القس الإنجليزي ج. سوينتون، نجح الأبوت ج.ج. بارتيليمي (١٧١٦ــ١٧٩٥) في فك رموز اللغة التدمرية، مُبرِزاً أنها كانت لهجة آرامية.
أصبحت الآن النصوص العديدة باليونانية والتدمرية للموقع قابلة للاستعمال من أجل كتابة تاريخه. في سنة ١٧٥٨، قدم ج. جوف (١٧٠١ــ١٧٥٨)، يسوعي من ليون، أول تاريخ لزنوبيا، خالي من الأساطير المتكررة بلا كلل مُرتكزاً في ذلك على أساس السرد الروائي لتاريخ أغسطس، وذلك باستخدام النقوش والقطع النقدية المكتشفة حديثا.
دراسات علمية
على الرغم من هذا، لم تنشط الدراسة العلمية لتدمر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فابتداءً من سنة ١٨٦٠ بدأ يحلُّ العلماء محلَّ المغامرين وشرعوا في المجيئ إلى تدمر بُغية العمل هناك. ولم يتعلّق الأمر بحفريات، ولكن فقط بعض الإفراغات الانتهازية، تتناسب والإكتشافات.
وكان الإهتمام بالصور الجنائزية الآتية من القبور يعود إلى بضعة سنوات للوراء، حيث تم التخلي عن الموميات التي كانت وحدها تلفت الانتباه سابقا، والتي جاءت لملئ المجموعات الخاصة والمتاحف.
ولقد تم في سنة ١٨٩١الكشف عن النّقش ثنائي اللغة الكبير والذي يُعرفُ ب “تسعيرة تدمر”، والتي وضعت القواعد المتعلّقة بالحصول البلدي.
كما تم إرسال الكتلة المقطّعة إلى أربعة أقسام، إلى سانت بطرسبورغ في عام ١٩٠١ بمثابة هدية إلى الأمير الروسي أ. لازاريف من قبل السلطان عبد الحميد الثاني.
وكان العلماء الألمان (أ. بوشستين، م. سوبرنهايم، ث. ويغاند) وبعض الفرنسيين قد احتلّوا مكاناً بارزاً في ما يخص الاكتشافات ونشر نقوش المدينة، باللغة الآرامية أو اليونانية: و. ه. وادينغتون في ١٨٦١ عن الكتابة اليونانية و ر. سافينياك وزملاؤِهِ عن المدرسة التوراتية في القدس في عام ١٩١٤، في حين استطاع ج. ب. شابوا (١٨٦٠ــ١٩٤٦) أن يتسيّد الكتابة التدمرية بدون أن يكون قد زار تدمر ولا مرّة في حياته.
نقوش وسجلات
من الغريب أن تضاعف عدد نسخ النقوش والسجلات الأثرية الموجزة لم يُحقق تقدما يذكر في معرفة تاريخ تدمر.
ومن المؤكد أن لا أحد كان يشكّ في أهمية الموقع، لكن وإن لم يتم إنكار الصفات المُستعارة من الفن اليوناني الروماني للبحر الأبيض المتوسط، كان يُفَضَّلُ الإصرار على أهمية التقاليد المحلية واعتبار الثقافة اليونانية الرومانية “سطحية” ليس إلا.
وقد عزّز هذا التحليل كون أن لا أحد تسائل حقاً عن وضع المدينة، والتي كان يُنظَرُ إليها على أنها نوع من مملكة عميلة بين روما وبلاد الرافدين من البارثيين ثم الفرس.
لم يشك أحد في أن ” زنوبيا ” كانت ” ملكة تدمر “، على الرغم من أن من جهة أولى لا وجود لأي نص قديم يعطي لها ذلك اللقب، ومن جهة أخرى أشارت إليها العملات بالتأكيد على أنها إمبراطورة روما (الشيء الذي أكده تاريخ أوغستس بوضع سيرة لها ولو خيالية من بين سير الأباطرة الرومان).
دراسات واكتشافات فترة الانتداب الفرنسي لسوريا
مع تثبيت الانتداب الفرنسي على سوريا وإنشاء إدارة للآثار في سنة ١٩٢٠، غيّرت البحوث الأثرية حجمَها وكانت تدمر إحدى المستفيدات الرئيسيات.
وأتبع الدّراسات الاستقصائية المُتسرّعة والتي في كثير من الأحيان لم تشهد أية مُتابعة تُذكر تنفيذٌ لبرامج عمل حقيقية على المباني الرئيسية للمدينة.
وهكذا تمّ تجريف الرواق الكبير وإعادة تركيب القوس الكبير الواقع بين القطاعين أ و ب من الرواق الكبير.
وتمت دراسة أسوار المدينة (المُتأخّرة) من قبل أ. غابرييل، أما إدارة الآثار فقد شرعت سنة ١٩٢٩ ، تحت رعاية هنري سيريج متبوع بروبرت آمي، في تخليص معبد بيل ومحلّه من المساكن التي كانت شغله.
ولقد ظهر نشرٌ ضخمٌ لهذا العمل، الذي ارتبط به إرنست ويل بعد الحرب، بين عامي ١٩٧٥ و ١٩٨٢. وفي الوقت نفسه، تم استكشاف نكروبوليس حيث تم استخراج العديد من جذوع التمثالات والنقوش.
وكان عدد هذه الأخيرة كبير لغاية أن أصدر ج. كانتينيو جرد لنقوش تدمر نَشر منها تسعة كتيبات في الفترة الممتدة بين ١٩٣٠ و ١٩٣٣. ولقد واصل عمل كانتينيو في أواخر الثلاثينات الأب ج. ستاركي المُعَيَّن كاهن في تدمر (حيث تمركزت حامية عسكرية فرنسية).
بعثات أجنبية
لعبت السلطة الوكيلة دوراً أساسياً، ولكن تم أيضا تفويض بعض الأوراش إلى لبعثات أجنبية، في تدمر كما في أمكنة أخرى في سوريا. أجرى الدنماركي. إنغولت ثلاث بعثات للتنقيب إلى تدمر في العشرينيات الأولى من القرن العشرين استكشف من خلالها أكثر من خمسين مقبرة مع السيد دوناند في عام ١٩٢٤، ثم مع أ. غابرييل في عام ١٩٢٥، ثم مع مهندس معماري دانمركي في عام ١٩٢٩، وبعد ذلك فتّش في وسط الثلاتينيات مقبرة مالكو إبن مالكو داخل نكروبول أو روضة الجنوب الغربي. ساهم كثيرا في إثراء ني كارلسبرغ غليبتوتيك بكوبنهاغن، مانحاً إياها “جمال تدمر”، تمثال نصفي لامرأة وُجِدَ في المقبرة المعروفة باسم القصر الأبيض في وادي المقابر.
وقد ارتبط نفس العالم أيضا بنشر “التيسّير” أو القِطَع الخاصة بتدمر الذي لم ينتهي إلا بمنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
وقد رافقت الأعمال الأثرية إعادة تقييم الأهمية التاريخية لتدمر، على الرغم من التقدم في هذا الميدان كان بطيئا، ربما لأن عدا عدد قليل من العلماء على غرار. سيريج الذين كان لديهم إلمام و دراية شاملين بخصوص العالم اليوناني الروماني، كانت سوريا الداخلية مسألة لغويين وعلماء الآثار ذوي اختصاصات ضيّقة.
بينما لم يشك سيريج في دخول تدمر إلى الإمبراطورية الرومانية، وضع د. شلمبرجير أسس لتحليل مؤسسات تدمر في إطار المؤسسات المدنية ذات الطراز اليوناني.
مما يُثير أكثر للاهتمام أن شلمبرجير نفسه عيّن في وقت لاحق فن تدمر في مجال أوسع في مقال أساسي في مقال أساسي عن “سليلي الفن اليوناني الغير مُنتمين للبحر الأبيض المتوسّط” والذي نُشر في عام ١٩٦٠. ومع ذلك ظلّت تدمر في نظر الكثيرين تلك المملكة الهامشية ذات الوضع المشكوك في أمره، أكثر إثارة للاهتمام لما تقدمه من عرض مذهل من تاريخها المحض.
زنوبيا
استمرت المسائل في الإنتعاش والتغير وفق الاكتشافات وخصوصاً اهتمامات المجتمعات المعاصرة، التي أفسدتها منذ زمن طويل الأساطير المتعلقة بزنوبيا والصور النمطية للشرق والنظرة الرومانسية للصحراء.
لم يعد الطابع المتعدد الثقافات للمدينة القديمة يبدو غريباً بالنسبة لمجتمعاتنا المعاصرة، كما قد مضى الزمن الذي كنا نقيس فيه درجة “حضارة” المجتمعات الأولية بمدى مُطابقتها للإقريق. بل وتُعتبر تدمر اليوم على العكس بمثابة مثال لمجتمع نجح في تبني ما يناسبه في التأثيرات اليونانية والرومانية دون أن يكفّ عن كونه المجتمع نفسه وبشكل عميق.
تستقي القومية المتطرفة في داخل التقاليد الغربية المستشرقة كي تقرن بزنوبيا رؤية مسبقة للنضال ضد الاستعمار في حين أنها بعيدة كل البعد عن إعلان نفسها سيادة تابعة ل” مملكة تدمر” افتراضية، بل قدّمت نفسها بشكل صريح كإمبراطورة روما.
وفي نفس الإتجاه عمل أولئك الذين أبَوا ألا يروا في المكونات اليونانية والرومانية داخل ثقافة تدمر، والتي هي بالتأكيد مركبة حتى لا نقول عالمية، سوى طلاء سطحي، نوع من موقف “حداثي”، كما لو أن قرار تزيين قبر أو منزل بصباغة أو فسيفساء مقرونة بموضوعات أسطورية يونانية استُخدِمت في الآن نفسه من قبل فلاسفة أفلاطونيين مُحدثين كان فقط مسألة موضة، سطحية المظهر، مهتمة فقط بالتمييز الاجتماعي.
إن وجب العثور على طلاء سطحي في مكان ما، فإنه أولا وقبل كل شيء في هذا النوع من التحاليل المعمّمة التي تختزل جميع الأفراد في دوافع مماثلة، دون أن تعير أي تقدير للمشاعر الحميمية لكل واحد منهم.
لا يمكن اختزال مجتمع تدمر الغني والنابض بالحياة إلى هذه الرسوم الكاريكاتورية، إذ ما يزال بإمكان تنوعه وأصالته أن يُعلِّمنا الكثير.
المصادر:
كاتب المقال : سمير الحوري