إسلام

تفسير آية الكرسي


الشيخ محمد متولي الشعراوي

آية الكرسي: بسم الله الرحمن الرحيم

اللّه لا إلٰه إلا هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السّماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيّه السّماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العليّ العظيم

تمهيد تفسير آية الكرسي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( الله لا إله إلا هو ) كلمة الله هي علمٌ على واجب الوجود، علم ٌإذا أطلق تنصرف إلى الذات الواجبة الوجود.

الوجود قسمان: واجب وممكن، الممكن يأتي أولا يأتي، أما الواجب فمن الضروري أن يكون موجوداً.

والحق سبحانه وتعالى حينما أعلمنا بإسمه الله أعطانا فكرة على أن كلمة الله يتحدى بها أن يسمى بها سواه.

ولما تحدى بها أن يسمى سواه، لو أننا مؤمنون كلنا الذين في الكون كنا احترمنا هذا الكلام بشكل مطلق.

فإن اتخذ لنفسه هذا الإسم فعلى المؤمن بالله لا يحب أن يعمل المعصية، لكن إن وجد كافرين بالله؟ ويتمردون ويلحدون بالله؟

ويقولون الله خرافة، ألا يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه الله؟ إنهم متجرئين على الله. فإن كان شجاعاً فليقل ذلك من قلبه ويسمي نفسه الله، لأن الله تحدى بأن يسمى به.

لا يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة، وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة، دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم.

لو كان كفرهم صحيحاً لقالوها ولا يبالون، سنسمي ونرى ما سيحدث، ولكن هذا لم يحدث. إذن الله علم على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال.

القضية الإيمانية في لا إله إلا هو

بعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي الإيمانية ( الله لا إله إلا هو ).

( لا إله إلا هو ) هنا يوجد النفي ويوجد الإثبات، النفي في لا إله، والإثبات في إلا هو. والنفي والإثبات تخلية وتحلية.

خلى نفسه من تصور الشريك لله، ثم أثبت لله وحدانيته.

فتكون ( لا إله إلا الله ) أي لا معبود بحقٍ إلا الله وإلا وجد معبودين وعبدوا أصنام وعبدوا الكواكب، ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ بل هي آلهة بباطل.

نأتي نقول دليل صدق هذه القضية التي هي لا إله إلا الله، أي لا معبود إلا الله، فإن كان الكلام هو حق وصدق، نكون انتهينا.

وإن كان مخالف فيه؟ فمن المخالف؟

هذا الإله الذي نقول لا معبود إلا هو لأنه الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت. إن كان هذا الكلام صحيحاً فهو صادق في أن لا يُعبد إلا هو.

وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحداً غيره هو الذي فعل، فأين هذا الأحد الذي عمل، ثم ترك من لم يعمل ليأخذ الكون منه ويقول: أنا الذي خلق الكون؟

أين الذي خلق هذا وسكت؟ ولا يدري بما يحصل؟

إنه أمر من اثنين، إما أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية إذن منتهية. أو أن هناك إله وجاء واحد وقال أنا الإله ولا يوجد إله غيري.

ولو كان هناك آلهة أخرى، ألم يعلموا بهذه الحكاية فإن لم يعلموا فلا ينفعون أن يكونوا آلهة. وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا. نحن الآلهة، وهذا الكلام كذب؟

وكما بعث الله رسول بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولاً بمعجزات. فصاحب الدعوة إذا ادعاها ولم يوجد معارض له، فتثبت الدعوى له إلى أن يوجد منازع.

إذن كلمة لا إله إلا الله معها دليل الصدق، لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقاً وصدقاً فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقاً، فأين الإله الذي خلق، والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟

وبعد ذلك لا نسمع له حساً ولا نفساً، ولا يتكلم، ولا يقول ولا نعلم عنه، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصح أن يكون إلهاً، ولو علم ولم يرد فليست له قوة.

ولذلك ربنا يأتي بها من ناحية ثانية فيقول ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا )  يأتوني لي ويؤمنوا بي.

إن كان عندهم مظاهر قوة، وادعوا أنها آلهة، يأتوني أنا ( لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ).

وأنا أقول لا إله إلا الله ، ومع ذلك أريد للمؤمنين أن يؤمنوا بي وبعدها الناس قالت أن هناك إله آخر، ألا يجب أن تكون هناك معركة؟

كيف تحدث المعركة؟

أن يبعث رسول من عنده ويأتي الرسول ليقف أمام الرسول ويرى من الأقوى ومن سيغلب ومن …

لم يحدث. هذه الحكاية لم تحدث

فالكلمة صدق في ذاتها عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوة. لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه لا إله إلا الله. وإن وجد نقول له أين هو؟

وضربنا هذا المثل مرة، وقلنا أننا في اجتماع هنا، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم يدّعي أحد أنها له.

ثم جاء واحد كان هنا وخرج، وقال: يا ناس بينما أنا معكم ضاعت حافظة نقودي. ولم يدّعها واحد منا فهي إذن له هو. إذن لا إله إلا الله إلى أن يثبت أنه هناك إله إلا الله فليرينا شطارته.

( الله لا إله إلا هو ) وما دام الله هو المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة. معنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً.

ومادامت العبادة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، فلابد أن يكون المأمور والمنهي صالح أن يفعل وصالح ألا يفعل. فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح ألا يفعل.

وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له لا تفعل؟ إن ذلك غير ممكن.

إذن لابد أن يكون صالحاً لهذه وتلك، لذلك أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.

هل يقتصر الإسلام على أركانه؟

قالوا: هذا هو كل الإسلام، نقول لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض.

لأن الله يقول في كتابه الكريم ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) واستعمركم فيها أي طلب منكم أن تعمروها.

إذن، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط.

لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة، التي سيبني عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه فقط، لجعلت الإسلام أُس بدون مبنى.

إذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض، ليشرح قول الله تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).

ويخرج إلينا أناس يقولون نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل. ونقول لهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلاً. والزكاة كم تأخذ منك في السنة يوماً واحداً في السنة؟

والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد. وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟

فبالله عليك ماذا يفعل في الباقي من زمنه؟ وماذا يفعل به؟

إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهرا في السنة تصوم نهاره. وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان؟

ألن تأكل وتلبس، سنمسك الضروريات الأكل واللبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟

إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها. كم يحتاج إلى علم وحركة وطاقة. والمحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره.

ومن ثم يذهب إلى الفرن بعربيته ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه، ومن ثم  نتكلم عن الفرن فسوف تجد أنه يأخذ الدقيق، ويحتاج فرناً التي توقد بالغاز.

والغاز يعمل بماذا والأدوات تعمل بماذا والمصنع كذا ومصنع كذا، والمصنع يحتاج علماء ليقوموا بتخطيطه ويرون الوقود اللازم.

وبعد ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقاً، وكيف تم طحنه بالماكينات وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها وكيف صنع.

احتاج إلى كل علوم الدنيا، ولم نذهب للحقل الذي زرع فيه بعد، الحب وبعد ذلك حرثت بمحراث مم تجره المواشي، والمواشي تحتاج لغذاء.

وتكون عملية طويلة وهذا الرغيف الذي أكلته أنت، أنظر احتاج من الطاقات وكم رجال للعمل،وهم يصنعون لك هذا وأنت جالس  لتصلي وتصوم؟

لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك.

مثال آخر، أنت تلبس جلباباً، كم احتاج هذا الجلباب من غزل ونسج وقطن وزراعة؟ عملية طويلة ومعقدة.

إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، ومن ثم تقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، للصلاة والصيام، فهذه ليست العبادة.

بل العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) فكل ذلك عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون تنبلاً في الوجود.

والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تنتفع بعمل غيرك.

أسماء الله سبحانه وتعالى

( الله لا إله إلا هو  الحي القيوم ) وقلنا إن الله علم على واجب الوجود، وعلم واجب الوجود هو الإسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به.

ولله أسماء كثيرة كما رُوي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سأل الله بكل اسم هو له، أنزله في كتابه أو علّمه أحداً من خلقه أي بخصوصية، أو استأثر به في علم الغيب عنده.

فلا تظننّ أن أسماء الله هي كلها هذه الأسماء، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى أن نعلمها.

ومن الجائز، أو نص الحديث يفيد أن الله قد يعلم بعض خلقه أسماء له، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه.

حين نتكلم عن الأسماء الأخرى، نجد أنها ملحوظ فيها الصفة، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة.

فإذا قيل القادر مع أن ذلك وصف يوجد في البشر،نقول ولكن القادر إذا أُطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله. وكذلك السميع، والبصير، والعليم.

إن من أسماء الله سبحانه وتعالى ما تجد له مقابلاً، ومنها ما لا تجد له مقابلاً. فالذي تجد له مقابلاً إذا قيل لك المحيي تجد المميت والمعز تجد المذل.

لأنها صفة يظهر أثرها في الغير، فهو مميت لغيره، ومعز لغيره، ومذل لغيره، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل، نسميها صفة ذات، فهو حي ولا نأتي بالمقابل، عزيز لا نأتي بالمقابل.

ولكن معز نقول مذل، وحي لا نأتي بالمقابل، إنما محيي نأتي بالمقابل وهو المميت، فهذه اسمها صفة فعل. فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير. لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها.

حينما قال الحق الله ويريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه أو المتعلقات به أول شيء قال ( الله لا إله إلا هو ) ليحقق لنا صفة التوحيد.

تفسير وجود أداة إلا

ويجب أن نعلم أن إلا هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح.

وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو، فكلمة إلا ليست للاستثناء وإنما اسم بمعنى غير، أي لا إله غير الله.

ولذلك إلا لايظهر عليها الإعراب، وهي بمعنى غير فهي ستكون  مرفوعة، فجعلوا الضمة التي يجب أن تكون على إلا نظراً لأن إلا مبنية جعلوها على ما بعدها.

وقلنا أن هذه القضية معها دليلها، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا أنه موجود.

وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني إقبال، كان للشاعر إقبال شيء اسمه المثاني.

أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى، وبيتين من الشعر في معنى، وكان يغلب عليه الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام به فجعل له مثاني أيضاً يناظر فيها إقبال. فيقول:

إنما التوحيد إيجاب وسلب وفيهما للنفس عزم ومضاء.

إنما التوحيد إيجاب وسلب هو قول متأثر بالقضية الكهربية. فأنت عندما نفيت الآلهة غير الله، كأنك تخليت عن غير الله وأوجبت الله.

لا للنفي، وإلا للإثبات، لا و إلا قوة قاهرة. فهما في القلب قطبا الكهرباء، كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتجيب. فالإيجاب في إلا والسلب في لا. ومادام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء.

اسم الله الحي

( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) الحي هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة.

فكل صفة لابد أن تأتي بعدها، الحي ما يكون على صفة يستحيل معها ألا يكون قادراً مدركاً.

يقول أحدهم متفلسفاً: الحي يكون على صفة تجعله مدركاً إن وجد ما يدرك. كأن الفيلسوف الذي قال ذلك: يعني بالحياة فيما يعلمه في حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك.

ونقول له: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقي صلاحيته لمهمته.

هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، فالحي: هو الذي يكون على صفة تبقى له صلاحيته لمهمته.

وجود الحياة في الأشياء

فالنبات، مادمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته. فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثل الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته.

العناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، وهذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.

مثلاً أنت ترى الحجر الناعم الأملس، أتجده على مقدار واحد؟ لا، إن أشكاله مختلفة، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجرة الواحدة منها.

ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلاشك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصبح صغيرة ثم تكبر مرة أخرى، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الأحجار تكون خرجت من بيئتها.

ولا يوجد شيء عند ربنا ينتهي نفعه أبداً، بل هو يصبح لكل شيء مهمة أخرى. إذن فكل شيء يكون على صفة تبقي له صلاحيته لمهمة، تكون له حياة مناسبة لتلك المهمة.

نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا، ولكن نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر، ونقول: ماذا قابل الحياة في القرآن؟ يقابلها الهلاك.

هل الهلاك يقابل الحياة؟

بدليل أن الله قال ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) إذن فالحياة مقابلة للهلاك.ويكون الحي غير هالك. والهالك لا يكون حياً.

ويقول تعالى في الآخرة ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، من الإنسان والملائكة والنبات، كلها ستكون هالكة.

ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة، فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له. أليست الحجارة شيئاً؟ هل ستدخل في الهلاك يوم القيامة؟ إذن فهي قبل ذلك غير هالكة.

لكننا نحن البشر لانفهم الحياة سوى على أنها الحس والحركة الظاهرة. مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة.

وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وترى ما بها من الحجر والخلايا، وتشاهد العمليات التي تحصل بها، تجد حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها.

إذن فكل شيء له حياة، إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير، إياك أن تقول إنك أذهبت منها الحياة المناسبة لها.

أنت أذهبت منها حياتها كحجر صلب، وعندما صنعتها في الفرن ووضعت عليها بعض الماء، أصبحت جيراً وصارت لها حياة بمهمة أخرى.

فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسبه، وهي الصفة التي تجعله، وصلاحيته لمهمته.

فانظر إلى مهمة الحق، ما شكلها؟ إنها الحياة العليا، وهو الحي الأعلى، وحي لا تسلب منه الحياة، لأن أحداً لم يعطه الحياة، فتكون حياته ذاتية، فهذا هو الحي على إطلاقه.

إنما تقول هناك حي يمكن أن تشد منه الحياة، وتنتهي المسألة، إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى.

اسم الله القيوم

( الله لا إله إلا هو الحي ) أثر صفة الحي كل الصفات الأخرى أولها القيوم . والقيوم هو صفة مبالغة في قائم. وصفات المبالغة هذه مثلها قولنا الله غفور لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد، لكن غفور هي صفة مبالغة.

 قد تقول هل صفات الله فيها صفة ضعيفة وأخرى قوية ؟ صفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة، صفات الله نظام واحد. فكيف تقول هي صفة مبالغة؟

الشيء المبالغ به عندما نقول كلنا آكل كي نستبقي حياتنا، فكلنا آكل، لكن عندما نقول فلان أكول، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها. فنقول عليه أكّال أو أكول.

أخذ الصفة الأصيلة وزاد فيها، وهذه الزيادة من أي ناحية؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفاً وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة، فالحدث خاصته في الأكل أثر كبير، فنقول عليه: أكول.

ويمكن أن يأكل معك رغيفاً في الوجبة الواحدة، لكنه يأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث وجبات، فيكون أيضا أكولاً، إذن فأكول إما مبالغة في الحدث نفسه أو بتكرار الحدث.

إذا امتنعت صفة المبالغة في الله لأن صفاته لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً.

فالله غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لذاك، إذن فالحدث تكرر، فيكون غفوراً وغفّاراً. ولذلك جاءت هذه وحلت لنا الإشكال في كثير من الأشياء، عندما يقول ( وما ربك بظلام للعبيد ).

صيغة المبالغة وصفة الفاعل

هناك قضية لغوية تقول إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة، فعندما نقول فلان غفور، فهل هو غافر؟

ما دمت أثبت له الصفة القوية، تكون الصفة الضعيفة موجودة.

لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها، قد تكون الصفة الأخرى موجودة، فهو ليس علّامة لكنه قد يكون علاماً أو عالماً. فإذا قلت فلان علّامة فقد أثبت له الأدنى أيضاً، فيكون علّاماً وعالماً.

لكن إذا نفيت عنه علّامة أتنفي عنه الباقي؟ لا، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل. لكن إذا أثبت الأكثر ثبت الأقل، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل.

إذا قلت الله ليس بظلّام للعبيد، نفيت الأكثر، فهل معناه أنه ظالم؟ صحيح هو ليس مبالغاً بالظلم، إنما هل هو ظالم؟ على حسب ما قلنا إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول لا.

لأننا هنا نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث، ومرة في تكرار الحدث.

فإن كان ربنا سيظلم هذا ويظلم هذا فيكون تكرر الحدث، فيكون ظلاماً ( وما ربك بظلّام للعبيد ) ولذلك لم يقل بظلّام للعبد، بل قال للعبيد.

إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلّاماً، ولذلك نفاها وقال ( وما ربك بظلّام للعبيد ).

الحق هنا يقول القيوم وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها قائم على أمر بيته، وقائم على أمر رعيته، وقائم على أمر المدرسة، وقائم على أمر هذه الإدارة.

ومعنى قائم على أمرها أنه متولي شؤونها، وفي كلمة القيام كأن القيام هو مظهر الإشراف. فنحن لا نقول قاعد على إدارتها، بل قائم.

وعندما نقول قيوم فمعناها أنه أوسع في القيام. كيف جاء هذا الوسع؟ لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائماً بذاته، وغيره يستمد قائم منه، فهو قائم على كل نفس. فيجب أن يكون قيوم.

السِنة والنوم

وما دام قيوماً ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وهذه المسألة قيل في كتب العلم أن بنو إسرائيل سألوا موسى أينام ربنا؟

فأوحى الله إليه أن آت بزجاجتين، وضعهما في يد إنسان ودعه إلى أن ينام ثم انظر للجواب. فلما وضع الزجاجتين ونام، الزجاجتين انكسرتا.

ومعنى ذلك القيوم ( أنه لا تأخذه سنة ولا نوم ).

ما هي السِنة؟

والسنة هي أول ما يأتي من النعاس، أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو السبات العميق، فلما قال لا تأخذه سنة .

قالوا هو النوم الخفيف يمكن أن يغلب عليه. إنما لا يقدر على مقاومة النوم العميق. فقال ( لا تأخذه سنة ولا نوم ).

السِنة هي النعاس الذي يأتي في أول النوم، ومظهرها يبدو أولاً في العين وفي الجفن، فعندما يذهب إنسان في النوم، فإن أثر ذلك يظهر في عينيه.

ولذلك يقولون إن العين هي التي يمكن أن تعرف بها كل أحوال الإنسان، وقد اكتشفوا اليوم أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين.

ولذلك يقال فلان عين، عين البلد، فأول يأتي النعاس يصنع ترنيقة في العين، حتى الشعراء انتبهوا لهذا. فعندما يحب الشاعر واحدة عينها ليست محملقة بل فاترة، ناعسة.

وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النعاس فرنّقت في عينه سنة وليس بنائم

فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السِنة أو مقدمات النوم ونسميه نحن النعاس.

هل النوم يعني التوقف عن الحياة

( لا تأخذه سنة ولا نوم ) أتريدون تطميناً من إله لمألوه، ومن معبود لعابد، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول له نم أنت ملء جفونك، لأن ربك لا ينام. ماذا تريد أحسن من ذلك؟

وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك يجب أن تعمل. أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت كلاك عن امتصاص الزائد من الماء؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟

أإذا نمت توقفت أمعائك عن امتصاص المادة الغذائية؟ بل كل شيء في دولابك يقوم مقامه. فمن الذي يشرف على هذه العمليات لو كان ربك ينام؟ إذن فأنت تنام وهو لا ينام.

بالله هل هذه عبودية تذلنا أو تعزنا؟ إنها عبودية تعزنا، فالذي نعبده يقول ناموا أنتم لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم.

وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن شيئاً في كونه يخرج على مراده، لأن كل ما في السماوات والأرض له. فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته.

الإذن بالشفاعة

ولن يخرج عليك إله آخر،اطمئن لأن كل ما في السماوات وما في الأرض له

( له مافي السماوات والأرض من ذا الذي يشفع عنده )

ما دامت المسألة بهذا الشكل فالله سبحانه وتعالى يقول أنه سيأتي يوم أنا أعطيتك الراحة في الدنيا، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي، ولم أجعل الأسباب تضن عليه، وأعطيته مادام قد اجتهد فيها.

مما يدل على أنني ليس عندي محاباة، قلت للأسباب يا أسباب من يحسنك يأخذك ولو كان كافراً بي. لكنه سيأتي يوم القيامة وليس له عندي حاجة، لأنه أحسن عملاً فأخذ جزاؤه.

(من ذا الذي يشفع عنده ) إياكم أن تظنوا كما قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، يريدون ان يخلوا قضية التوحيد، ويجعلوا لله شركاء ويقولون أنهم سيفعلون لهم عند الله.

وهذه الشفاعة لن تكون عندي إلا ان أذنت لها، الشفاعة ليست حقاً لأحد.

ما بين أيديهم وما خلفهم

( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم )

ساعة العلماء يتعرضون إلى ما بين يديك لأمامك وما خلفك لوراء، فهذا منطق الآية، فما هو أمام اليد؟

ما بين يدي الإنسان مواجه لآلة الإدراك الرائية والتي هي العين، فهو أمر يشهد. والذي في الخلف يكون غيباً لا يراه، كأن ما بين اليد يراد به المشهود، والذي في الخلف يراد به الغيب.

فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي يعلم مشهدهم وغيبهم، ويطلق ما بين اليد إطلاقا تام. فهل عما بين يديك هو مواجه لك أو غير مواجه؟

افرض أن أمامك ناس، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟ إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك، وأنت جئت بعدهم، ومن وراءك سيأتي من بعدك.

فتكون يعلم ما بين أيديهم ما سبقهم، الماضي، وما خلفهم الذي يأتي بعدهم. فمرة يعلم ما بين أيديهم، أي العالم المشهود ويسمونه عالم الغيب، ويسمونه عالم الملك، وغير المشهود يسمى عالم الملكوت.

( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) يعني العالم المشهود لهم والخفي عنهم. وما بين اليد أي أمامي والذي خلفي الذي سيأتي وهو المستقبل، وما بين أيديهم هو الماضي، والذي يأتي أمامي هو الحاضر.

إذن يعلم كل شيء ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ) فأرح نفسك وقل ولا تخفى عليه خافية. إنما إحاطة من كل ناحية.

تفسير العلم

( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) إنه يعلم، وكونه يعلم فإن ذلك لا ينفي أن يكون غيره يعلم أيضاً، فعندما يقول واحد أنا أقول الشعر. فهل منعتك أن تقول الشعر؟ إنه لم يقل ما يقول الشعر إلا أنا.

وربما تفهم أنه يعلم وغيره يعلم، فما المانع، ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ).

والعلم هو الصفة التي تعلم الأشياء على وفق ما هي عليه، هذا هو العلم. هل يعلمون الصفة؟ فالصفة أكثر من أن يحاط بها، لأنها لو أحيطت لحددت. وكمالات الله لا تحد.

( ولا يحيطون بشيء من علمه ) أي من معلومه. الصفة وحدها، كما ترى أمراً يعجبك فتقول هذه قدرة الله، فهل قدرة الله صفة أم مقدور الله؟

ويحيطون هي دقة في الأداء، لأنك قد تدرك معلوماً من جهة وتجهله من جهات، فقال لك أنك لا تقدر أن تحيط، لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء، مثل المحيط.

لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما، وإن كنا نعلم بما علّمنا، وإن كنا نعلم بما آتانا من قوانين الاستنباط، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج.

فالذي يحل مسألة جبر، أو تمرين هندسة، أيعلم غيباً؟ ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له. وأنت لا تحيط بعلم إلا بما شاء لك أن تحيط.

مشيئة الله في العلم

( لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ( قول الله إلا بما شاء هو إذن منه، بأنه سيتفضل سبحانه على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه.

كان هذا المعلوم خفياً عنهم ومستوراً في أسرار الكون، فيأذن الله للسر أن ينكشف، وكل شيء ابتكره العقل البشري، كان مطموراً في علم الغيب وكان سراً من أسرار الله.

وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه بمشيئته. لأن كل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماماً، أي أن له ميعاد يظهر فيه، وهذا الميعاد يسمى مولد السر.

لقد كان هذا السر موجوداً وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه. لقد كنا نحن نستفيد من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية. وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها.

فلما الحق سبحانه وتعالى يأذن بأن يكشف لنا سراً من وجوده ليشرح لنا قوله في موضع آخر ( سنريهم آياتنا في الآفاق ) مادام سنريهم، فهذا يعني أنه سيولد لنا أسراراً جديدة.

وهذا الميلاد ليس إيجاداً وإنما هو إظهار، ولذلك يقول الناس إنها اكتشافات جديدة، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيراً منهم غير متدينين، قالوا اكتشفنا كذا.

كأنه ما اكتشفوه كان موجوداً وهم لا يقصدون هذا الأدب. إنما هي جاءت كذلك، وإنما نقول لقد أذن الله لذلك السر بالميلاد.

هل يستطيع البشر الإحاطة بالعلم؟

( لا يحيطون بشيء من علمه ) لم يقل حتى عن إفراد أحد واحد بل إذا اجتمع البشر وتكتلوا فلا يستطيعون مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه.

وهذا تحد للكل، حين يشاء سبحانه أن يوجد إظهار سر في الوجود، إما أن يكون إظهار السر موافقاً لبحث الناس، مثل أن يكون الناس بصدد البحث.

فالعالم الذي يجلس في معمله ليجرب في العناصر ويجرب في التفاعلات، ويهتدي إلى هذه وإلى هذه، ويتعب كثيراً كي يعرف شيئاً، ونحن لا ندري به إلا يوم أن يكتشف سره.

وهذه المقدمات وضعها الله في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره، كما نريد أن نصل إلى الولد فنتزوج حتى يأتي، وقد يأذن الله مراراً كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق بمقدماته.

لكن ميعاد ميلاد السر قد جاء، ولم ينشغل العلماء بمقدماته، فيخرجه الله لأي مخترع كنتيجة لخطأ في تجربة ما. وعندما ننظر في كل الاكتشافات نجدها أغلبها لقد جاءت بالصدفة.

فكان يبحث في مجال ما، فتخرج له حاجة أخرى كانت مخفية جاء ميلادها على غير بحث من الخلق، فجاء الله بها في طريق آخر لغيرها. ومرة يوافق أنه يبحث المقدمات ويوافق السر الذي يبحث عنه.

إذن، ( لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) فمرة يصادف السر بالبحث، ومرة يأتي شيء آخر في البحث عن غيره، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن صدفة.

وإنما كل شيء بمقدار، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجوداً وله مقدمات في كون الله تستطيع أن تصل إليه بها، وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات.

إنما إن شاء أعطاه من عنده تفضلاً، فضل الجود لا بذل المجهود. يفيضه في المصادفة هنا ويفيضه فيما لا مقدمات له على بعض أصفيائه من خلقه.

ليعلم الناس جميعاً أن لله فيوضات على بعض عبيده، الذين والاهم الله بمحبته وإشراقاته وتجليه.

ما هو الغيب

فهل بإمكان أحد أن يعرف كل الغيب؟ لا، فالغيب قسمان: غيب جعل الله له في كونه مقدمات، إن استعملناها نصل إليه، ككثير من الاكتشافات.

وإذا شاء الله أن يولد سر ما ولم نبحث عنه، فهو يعطيه لنا صدفة من باب فيض الجود لا بذل المجهود.

ونوع آخر ليست له مقدمات، وهذا ما استأثر الله بعلمه إلا أنه يفيض به على بعض خلقه ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ) ليس يتعلمها أحد.

فلا تجد أحدهم لديه دكان للغيب فتطلب منه شيئاً فلانياً فيفتح لك بشيء. لا، بل يقول ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) لا يعطي المفتاح لأحد من خلقه.

المفتاح عند الله، افرض أن الله أراد أن يعطي لواحد كرامة، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها، فيقول فلان قال لي: كذا وكذا، يا سلام.

وهذا فيض من الله يفيضه في ومضة وقد لا يشعر بها، ليثبت أن من يواليهم الله يعطيهم بعض الأشياء.

الكرسي ليس كمثله شيء

( ولا يحيطون بشيء ) نجد أن كلمة بشيء تعني أقل القليل من علمه ( إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ) قلنا فيم يتكلم به الحق عن نفسه ولخلقه فيه نظائر، كالوجود وأنت موجود.

كالغنى وأنت تكون غني، كالعلم وأنت تكون عالماً، فهل نقول إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالله إضافة أو وصفاً.

لا تأخذها بالمناسب عندك، بل خذها في إطار ليس كمثله شيء.  فإذا قيل لله يد، قل هو له يد، كما أن له وجوداً، وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي.

ليس كمثله شيء، فإذا قال ( وسع كرسيه ) نقول هو قال هكذا، وما دام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار ليس كمثله شيء. فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا، لا.

فمثلاً يقول أين يوجد الله؟ متى وجد؟ وقلنا متى وأين لا تأتي بالنسبة لله، إنها تأتي بالنسبة لك أنت، متى ولدت وأين عشت ونشأت. لماذا؟ لأن متى زمان وأين مكان، والزمان والمكان ظرفان للحدث.

فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان، مثال أنا شربت ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان، لكن هب أنني لم أشرب، أيكون هناك زمان أو مكان؟

لا، فما دام الله ليس حدثاً فليس متعلقاً به زمان أو مكان، لأن الزمان والمكان نشأ عندما أحدث الله الكون، فلا تقل متى لأن متى خلقت به، ولا تقل أين لأن أين خلقت به ولأن متى وأين ظرفان.

هذه للزمان، وهذه للمكان، والزمان والمكان فرعا الحدث، وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان.

إذن، فمادام الله ليس حدثاً، فإياك أن تقول فيه متى، وإياك أن تقول فيه أين، لأن متى وأين وليدة الحدث. فهي بالنسبة لما أحدث الله توجد متى وأين.

الكرسي في اللغة

( وسع كرسيه ) وكرسيه من هذا النوع. الكرسي: في اللغة من الكرْس. والكرس هو التجميع، ومنه الكراسة وهي أوراق مجمعة.

وكلمة كرسي استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يبنى عليه الشيء. وتطلق على القوم القائمون بالشيء: كراسي في الأحداث حين تنوب، أي يعتمد عليهم.

وحين ينسب شيء من ذلك إلى الحق سبحانه وتعالى، فإن السلف لهم فيه كلام والخلف لهم فيه كلام، والسلف يقولون كما قال الله نأخذها، ولكن نضع كيفيتها وتصورها على نطاق ليس كمثله شيء.

تأويل السلف والخلف للكرسي

وبعضهم قال نؤولها بما يثبت له صفة من الصفات، كما يثبتون قدرة بقوله ( يد الله فوق أيديهم ) أي أن قدرة الله فوق قدرتهم.

لأنه لا يريد أن يتصور المخلوق كلمة يد بالنسبة لله. لكن نقول الله قال ذلك، نأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه، ونحيلها إلى ألا يكون له شبيه أو نظير.

كما أثبتنا لله كثيراً من الصفات، خلقه فيه مثلها ومع ذلك نقول علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟ فتكون في إطار ليس كمثله شيء.

والعلماء قالوا عن الكرسي إنه ما يعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟ وهل المقصود سلطانه وقدرته؟ لأن كلمة كرسي توحي بالجلوس فوقه.

والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه كرسي الملك، لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي.

فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب. إذن فهو السلطان، والقهر، والغلبة، والقدرة.

أو نقول مادام قال ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) فوسع الشيء أي دخل في وسعه واحتماله.

حجم السماوات والأرض بالنسبة للكرسي

والسماوات والأرض نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا، ولما يقول ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) فيقول إن الكرسي وسع السماوات والأرض.

إذن، فهو أعظم من السماوات والأرض أي دخل في وسعه السماوات والأرض.

ولذلك يقول في الحديث ما السماوات والأرض بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة. وما الكرسي بالنسبة للعرش إلا كحلقة في فلاة.

ونحن ندور حتى نصل إلى القمر الذي هو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض، والذي بيننا وبينه بضع ثواني ضوئية، والشمس بيننا وبينها كم، والشعرى بيننا وبينها كم. والمرأة المسلسلة بيننا وبينها كم، ملايين السنين الضوئية.

ولم نصل للسماء الدنيا، فكل هذا ماذا، ولذلك ربنا عندما يشرح لنا ضخامة الجنة قال عرضها السماوات والأرض .

فإذا كان عرض الجنة هو السماوات والأرض، فما طولها؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض هو أقل البعدين. إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والأرض. إنما قال السماء والأرض لأننا نراها.

ولا يؤوده حفظهما

( وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما ) ومعنى أده الشيء أي أثقله. هب أن إنسانا ً يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدناها إلى عشرين يثقل عليه.

وكلما يثقل يأتي الحمل على الحامل فإن زاد الثقل عليه، يكون معوجاً يؤد. فلا يحتمل..

( ولا يؤوده حفظهما ) أي أنه لا يثقل على الكرسي الذي يحفظ السماوات والأرض. إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض، فإذن لا يؤد بصاحب الكرسي.

( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده )

( وهو العلي العظيم ) بهذا إذا كانت هذه الأشياء الضخمة هو فوقها، أفلا يكون عليّ الشأن؟ وعظيم أم لا؟ إذن عليّ عظيم، يعطينا تذييلاً منطقياً للآية يقتضيه ما تقدمت به الآية ، لا يكون ذلك إلا لعليّ عظيم.

إسم الله العلي العظيم

كلمة عليّ صيغة مبالغة من العلو، والعليّ هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه، ويسبق ما دونه، كل شيء دونه.

( وهو العلي العظيم ) هذه الآية نعرفها بآية الكرسي، لأن كلمة الكرسي هي الظاهرة فيها. وكلمة الكرسي فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية، وكلها مأخوذة من صفات الحق.

من أنه الله ومن إنه لا إله إلا هو. إنه الحي. إنه القيوم. إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. مجموعة فيها الصفات فتسمى آية الكرسي، فمعنى أنها جمعت أصول التصور في العقيدة الإيمانية.

فوائد قراءة آية الكرسي

ولذلك وردت فيها أحاديث كثيرة، بعضها قيل فيه كلام وبعضها سلّم، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله.

إن النبي قال نزلت عليه آية لم تنزل على أحد من قبل. وهذه الآية لو قرئت في بيت لم يدخله الشيطان مثلاً ثلاثون يوماً، ولا يدخله ساحر ولا دجال أربعين ليلة.

وأنا إذا قرأها قارئ حفظ الله نفسه وجاره وجار وجاره ومن حوله جميعاً، ومن قرأها دبر كل صلاة لا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد. كل هذه تدل على العبادة.

وجلسوا يبحثون سر هذه الآية، فكل واحد يبحث في ناحية، ولكن لينظروا لأسماء الله الموجودة فيها، فعملوا لها إحصاءً.

أسماء الله سبحانه وتعالى الموجودة في الآية

والأسماء الموجودة فيها بعضهم قال ستة عشر، والمدققين والمدبرين قالوا بل هي سبعة عشر اسماً، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله.

هذا يدل على أنهم شغلوا بها ليستنبطوا منها أشياء: علم واجب الوجود الله. وفي لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني. والحي هو الاسم الثالث، والقيوم هو الاسم الرابع.

لا تأخذه سنة ولا نوم، نجد أن الضمير في لا تأخذه ، وله ما في السماوات وما في الأرض فيها ضمير عائد إليه سبحانه وكذلك الضمائر في قوله:

عنده وبإذنه ويعلم ومن علمه وبما شاء وكرسيه كلها تعود إلى ذاته جل شأنه. ولا يؤوده حفظهما فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك.

وهو في قوله سبحانه وهو العلي العظيم اسم من أسمائه تعالى. والعلي اسم من أسمائه جل وعلا. والعظيم كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. فهذه ستة عشر.

لكن آخر قال إنها سبعة عشر اسماً، لأنك لم تحسب الضمير في حفظهما في هما يعود إلى السماوات والأرض. والحفظ مصدر. والمصدر كما الفعل له فاعل.

فمن الذي يحفظهما؟ أي حفظه لهما، وهنا ضميرمستتر، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً في آية الكرسي.

وعالم ثالث قال لا، بل فاتهم أن فيه من الأسماء ما هو مشتق، الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو. فتكون هناك ضمائر أخرى.

ولكن العلماء قالوا صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاماً. فيبقون سبعة عشر. أي أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في حفظهما نجد أنها سبعة عشر اسماً.

وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل الحي هو والقيوم هو والعلي هو والعظيم هو. صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً.

فتكون آية الكرسي أكثر آية قد جمعت قدراً كبيراً من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها.

وإلى لقاء آخر إن شاء الله.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى