قصة الثورة الفرنسية كانت فريدة، فقد علمت البشرية، منهجية التغيير، علمتنا بفكرها وأفعالها، في صوابها وفي خطأها، في نجاحها وفشلها.
سنتحدث عن ثورة الشعب الفرنسية، على ملكهم الطاغية لويس السادس عشر، وكيف قامت الثورة، وكيف تطورت حتى غيرت العالم.
الملك لويس السادس عشر وقصته مع الثورة الفرنسية
في عام 1774 تولى لويس السادس عشر حكم فرنسا، وحدث بعد حكمه، سلسلة كاملة من الإضطرابات، التي سميت ثورات الجوع.
وكان السبب أن لويس السادس عشر، ملك فاسد، ومتزوج من ماري أنطوانيت، التي لم تكن محبوبة، من الشعب الفرنسي، لأنها كانت متعودة على الحياة المترفة.
كانا يعيشان في قصر فرساي، والذي كان على بعد 15 كيلو من باريس، أي كانا منعزلين عن الناس ومعاناتهم.
المجتمع الفرنسي كان منقسماً آنذاك، إلى ثلاث طبقات، على شكل هرم طبقي، في أعلى الهرم الملك والنبلاء، أي الإقطاعيين والمستغلين للشعب.
وفي الطبقة التالية، طبقة رجال الدين والكنيسة، وهم متحالفين مع الطاغية لويس، ويأمرون الناس بطاعته، باسم الدين، ويعينوه على الفساد.
أما في أسفل الهرم، فكان عامة الشعب، وأكثرهم يعيش تحت خط الفقر، في حياة مزرية، تشابه حياة الحيوانات، إن لم تكن أقل منها.
سلطة الملك المطلقة
والحكم الملكي، يستند إلى نظرية مسيحية، اسمها نظرية الحق الإلهي، وتقول النظرية، أن الملك يحكم بتفويض من الله، فهو يستمد شرعيته من الله، وليس من الشعب.
وبالتالي هو يرفض أي مشاركة شعبية، مهما كان نوعها، لأنه هو المصدر لكل الطاقات، والقوى الكبرى في فرنسا.
وكان البابا هو أعلى شخصيات الكنسية في روما، ويمثله في فرنسا الملك، ومنحت له تلك السلطة في الحق الإلهي، مقابل تعهد الملك بالدفاع عن الكنيسة.
وكانت الكنيسة تمتلك ما يقارب 10% من مجموع كل أراضي فرنسا، وهي تملك الحق، بفرض ضرائب كنسية، غير ضريبة الملك، فكانوا يسمونها ضريبة العشر.
والكنيسة أقرب إلى دولة داخل الدولة، فلها ضرائب ومصادر خاصة مالية، حيث يعيش رجال الدين، في حياة مترفة وفاسدة، مستغلين تدين الناس.
وبهذه الحالة، تمتعت طبقتي النبلاء ورجال الدين، بامتيازات وإعفاءات ضريبية، وانحصر دفع الضرائب على عامة الناس فقط.
الحركة التنويرية
أدى هذا إلى احتقان في المجتمع الفرنسي، فظهرت الحركة التنويرية، التي يقودها المفكرون والمصلحون، والعلماء والفلاسفة، حيث انتقدت الملكية المطلقة.
وهاجمت الكنيسة ورجال الدين، باعتبارهم جزء من التسلط، ونشر الخرافات، ومحاربة العلم، ويستولون على الأموال، ويشوهون الصورة النبيلة لرسالة المسيح.
وطالبوا بإلغاء الاستبداد، وإلغاء الحكم الجائر، واستبداله بالحرية والمساواة والديمقراطية، والتعددية السياسية، والفصل بين السلطات التنفيذية، والتشريعية والقضائية.
بل وصلوا إلى أكثر من هذا، فطالبوا بتجريد رجال الدين من صلاحياتهم، التي شوهت الدين، وجعلت الدين سبباً في تعاسة الإنسان، بدلاً من سعادته.
الإفلاس سبب الثورة الفرنسية
كل هذا ساهم في إحداث الثورة، ولكن لم يكن هذا هو السبب المباشر، بل كان يتمثل، بأن دولة فرنسا، كانت على وشك الإفلاس.
فقد خرجت فرنسا من مجموعة حروب متتالية، وحاولت لعدة عقود، أن تتجنب إعلان إفلاسها، مع فشل محاولات الإصلاحات.
وما هي إلا أشهر، حتى ارتفع سعر الخبز، إلى أضعاف وأضعاف سعره، وبدأ الطحين يختفي من الأسواق، وشبت في باريس، والعديد من المناطق، مظاهرات عنيفة، سميت بحرب الطحين.
المظاهرات النسائية
وفي عام 1775 شارك في المظاهرات عدد كبير من الرجال، من بينهم رجال الشرطة، وكان أكثر من حرك المظاهرات تلك هم النساء.
لأنها الطحين مهم بالنسبة لهن، ولم تكن مظاهرات مختلطة مع الرجال، وازدادت المظاهرات، في التنظيم والاتساع، حتى وصفها المؤرخون، بأنها تجربة للثورة الفرنسية.
وخاصة عندما استطاع المتظاهرين، أن يستولون على سفن مليئة بالدقيق، كانت لصالح الملك والنبلاء، فأخذوا الشحنات، وقدروا ثمنها بسعر عادل، وباعوها وأعطوا أموالها للفقراء.
وأطلقوا على هذا النظام، نظام الضرائب الشعبية، ولكن زادت المشكلة في عام 1776، حيث قامت الثورة الأمريكية، ضد الإنجليز للاستقلال.
المشاركة مع الثورة الأمريكية
قررت الدولة الفرنسية، المشاركة في حرب الاستقلال الأمريكية، كراهية في إنجلترا، ولأن فرنسا كانت مشتركة مع انجلترا في التجارة الخارجية.
وانتقاماً من هزيمة فرنسا، في حرب السنوات السبع، ضد بريطانيا، وكل هذا زاد الضغط الاقتصادي، وزاد أكثر، مع هذه الأزمة الاقتصادية الكبيرة.
إلا أن فرنسا لم تكون تريد خسارة مستعمراتها في العالم، فأصرت على توطيد مكانتها العالمية، ببناء أسطول بحري، ينازع الأسطول البريطاني.
أصرت على زيادة عدد القوات، إلى مئة وخمسين ألف جندي، لحماية الحدود مع بريطانيا، وقامت بالتدخل، في حروب دول الجوار.
فدخلت فرنسا في الحرب الهولندية ضد بروسيا، وكل هذه القرارات، اتخذها لويس لوحده، دون أخذ الرأي من المجلس التشريعي.
الانهيار الاقتصادي والعجز المالي
أخذ الاقتصاد الفرنسي في الإنهيار، بصورة غير مسبوقة، وخلف عجز مالي، يقدر ب 2 بليون آنذاك، وفي عام 1783 انتصرت أمريكا، في معركتها ضد انجلترا.
وحصلت على استقلالها، وحققت فرنسا انتقامها، ولكن ذلك كلفها كثيراً، فاضطرت للاستدانة لتغطية نفقات الحرب، ولهذا أصدر لويس السادس عشر في عام 1786 قانون الضرائب.
وفي العام التالي، عرض التعديلات على مجلس الشيوخ، فوافق مجلس الشيوخ، على كل القرارات، ما عدا الضرائب، وصدق المجلس التشريعي على ذلك.
وكلا المجلسين أعرضا على عدم قدرتهما، على حل الأزمة المالية، وأن الضرائب وحل الأزمة، ليس من اختصاص المجالس، بل قالوا أن هناك مجلس الأمة، الذي يمثل الشعب.
لجنة الأمة ولجنة الثلاثين
وافق لويس السادس عشر، على إجراء انتخابات، ودعوة مجلس الأمة للاجتماع، الذي لم يعقد منذ عام 1614، ليبدأ الصراع، على الانفراد بسلطة المجلس.
وهذا المجلس القديم، كان مكوناً من ثلاثة طبقات، الكنيسة والنبلاء والعموم، ومع بدء الترشح للانتخابات، في عام 1788 ظهرت لجنة مفاجأة.
كانت لجنة الثلاثين، وهي مكونة من كبار أثرياء الليبراليين، والمفكرين في باريس، ومن أكثر الشخصيات نفوذاً، في الحياة السياسية.
وقامت اللجنة، بدور قيادة وتمويل الحملة الدعائية، وكان الهدف، هو الاعتراض على تشكيل المجلس، بالطريقة القديمة، وعبأت ستة ملايين من الناخبين.
علاوة على طباعة آلاف النسخ، من كتب عن شكاوى الناس، ورفضت الترتيبات القديمة، التي تقسم مجلس الأمة، إلى ثلاث مجالس.
حيث أن هذه المجالس، كانت مساوية فيما بينها، من حيث عدد الأعضاء، وعددهم 300 وكلهم له صوت واحد، عند اتخاذ القرار.
وتحت شعار الشعب أساس الدولة، بل إن الشعب هو الدولة، طالبت لجنة الثلاثين، بمضاعفة أعضاء المجلس الثالث، والذي يمثل الشعب، بأن يصبح العدد 600
تشكيل البرلمان الوطني الجديد للثورة الفرنسية
في شهر كانون الثاني لعام 1789، تشكل البرلمان، تحت هذه الضغوط، من ثلاثمائة نائب عن الطبقة العليا، وثلاثمائة نائب عن طبقة النبلاء.
وستمائة نائب، انتخبوا انتخاباً عاماً، واجتمع المجلس، ومنذ البداية، استنكر البرلمان، نظام الضرائب المجحف، الذي أقره لويس السادس عشر.
وطالب بضبط صلاحيات الملك، وقام ممثلوا الشعب، برفض التغييرات على نظام الانتخابات، الذي اقترحه الملك سابقاً.
خرج الممثلون في أثناء استراحة المجلس، وعندها، أغلق الملك البرلمان، وأقفل الأبواب، فظلوا في الخارج، غاضبين غضباً شديداً.
وذهبوا إلى ملعب للتنس قريب من البرلمان، وأعلنوا فيه، عن تشكيل برلمان وطني، ثم أقسموا، بأنهم لن يهدأوا، حتى يصبح لهم دستور جديد.
ومع كل هذه التغيرات، كان أعلى طموحاتهم، أن تصبح الملكية دستورية، مع وجود الملك، بصلاحيات محدودة، ولم تكن بإلغاء الملكية بالكامل.
فرق ودوريات من الثورة داخل فرنسا
شعر الملك بتهديد لسلطته، فقام بجمع ثلاثين ألف جندي، على أطراف باريس، وصلت الأخبار للناس، أن الجيش يتجهز للخارج.
ضج الشعب، بأن هذا نذير لمذبحة، سيكون ضحاياها من الشعب نفسه، فزاد الغضب الشعبي، وتشكلت فرق وطنية شعبية، من مختلف أنحاء باريس.
ونظمت الفرق، ووضع على كل فرقة ضابطاً، وبدأت دوريات المتطوعين، تطوف المدينة، ثم هجم الثوار على مخزن أسلحة للدولة الفرنسية.
واستولوا على ثمانية وعشرين ألف بندقية، وأخذوا كل الموجود في المخازن، وبذلك تم تسليح الثوار، وأصبحوا قوة مسيطرة، على شوارع باريس.
توجيه المدافع على المتظاهرين من الباستيل
راجت اشاعة آنذاك، بأن الحكومة الملكية، بقيادة لويس السادس عشر، قد صوبت مدافعها من سجن الباستيل، على شارع سانت انطوان، استعداداً لمواجهة الجماهير المحتشدة من تلك الناحية.
وبمجرد ذكر سجن الباستيل، كان ذلك كافياً، لإشعال غضب الثوار، فقد كان عنواناً للاستبداد، وركناً للاستعباد، وحصناً مخيفاً، أعدت فيه الجحور والسلاسل والأغلال.
توجه الثوار الغاضبون إلى سجن الباستيل، والكل يصرخ، إلى الباستيل، وشكلوا عند اقترابهم، وفداً لمقابلة رئيس حامية السجن، للمطالبة بسحب المدافع.
فرفض رئيس حامية السجن، أن يسمعهم، مع أنه لم تكن هناك مدافع فعلياً، فكانت الأمور تزيد، ووفود تحيط بسجن الباستيل، وتحفزت الحامية في الداخل.
قتل الثوار أمام أسوار الباستيل
هجم الثوار على الجسور الرابطة بين بوابات السجن، فوق الخندق، حيث أنه لم يكن هناك طريق آخر، وأثناء ذلك، وإذا بأمطار من الرصاص، من حامية الباستيل.
تهطل على الثوار، وتم قتل العديد من الثوار، ولكن منظر الدماء المتدفقة، أشعل حماسة بقية الثوار، فأكسبتهم شجاعة غير عادية، واندفعوا يرمون بأنفسهم في الخندق.
وبقي رمي الرصاص، لمدة أربع ساعات على الثوار، ولم يتغير الموقف، فهناك جسور وأبواب مغلقة، وخندق عميق عليهم.
ولكن تغيرت المعادلة، عندما قام مجموعة من الحرس الوطني للثوار، استطاعوا أن يحصلوا على مدافع، من احدى المخازن، وجروها وضربوا أول قنبلة منها على الحصن.
تسليم سجن الباستيل للثوار
دخول ثوار فرنسا إلى سجن الباستيل
عندها طلبت الحامية التسليم، ورفعوا الراية البيضاء، وأدارت فوهات المدافع إلى داخل القلعة، وأعلنوا عن وقف إطلاق النار.
واستعدوا أن يسلموا السجن، بشرط أن يسمح لهم بالانسحاب الآمن، على أرواحهم، فقال أحد الثوار، أنزلوا الجسور، ولن نمسكم بأذى.
ونزلت الجسور، وفتحت الأبواب، وتدفق الثوار إلى الباستيل، وتحررت القلعة، وسقط رمز الطغيان آنذاك، وكانت الحصيلة 98 من الثوار، وواحد من قوات الحامية.
وألقي القبض على رئيس الحامية، المسبب في المشكلة، وقتلوه في دار البلدية، وكان سقوط الباستيل، حدث فاصل في فرنسا.
ولم يكن في داخل السجن، سوى سبع سجناء، ولم يكونوا سياسيين، ولكن رمزية السجن، كانت مثل البرلمان، وقصر فيرساي، أو مكان رئيسي آخر.
وتمثل سقوط سجن الباستيل، بأن السلطة المطلقة للملك لويس السادس عشر، قد انتهت، والخبر بث الحماس في نفوس الثوار، وأعلنت الثورة بشكل رسمي.
والكل كان ينتظر الانتقام من قبل الملك، ورجال البلاط النبلاء، وكل الأمور جاهزة للمواجهة، ولم يعد يشغل بال الثوار، بعد انتصارهم هذا، إلا الدفاع عن أنفسهم، أمام الهجوم المحتمل.
الثورة الفرنسية ثورة إصلاح وحريات
لم تعد مبادئ الثورة الفرنسية شأن داخلي في فرنسا، بل أصبحت شأن عالمي، ينادي بها الثوار في كل مكان، وشعاراتها الحرية والمساواة والعدالة، وأصبحت موضع إجلال.
ولذلك هي تحتاج أن نمحصها في ضوء الإسلام، والمتأمل للثورة الفرنسية، في مرحلتها الأولى، قبل سقوط الباستيل، يرى أنها كانت ثورة إصلاح، راعت التدرج، وتجنبت استخدام العنف، وسعت لتصحيح الظلم في المجتمع.
يقول الأديب الفرنسي فيكتور هوغو: إذا أعقت مجرى الماء في النهر، فالنتيجة هي الفيضان، وإذا أعقت الطريق أمام المستقبل، فالنتيجة هي الثورة.