لاذ المرتدون الفارون بحمى جزيرة دارين، وتحصنوا بأمواج البحر التي تحيط بهم احاطة السوار بالمعصم.
ثم أرخوا لأنفسهم أعمتها وأخلدوا إلى مهاده الراحة والطمأنينة، وأغفلوا الحيطة والحذر.
ذلك لأنهم كانوا على يقين بأن جند المسلمين النابتين في بطن الصحراء لم يعرفوا ركوب البحار، ولم يألفوا متون السفن.
زد على ذلك أنهم لا يملكون شيئاً منها.
تخطيط العلاء بن الحضرمي لغزو دارين
لكن العلاء بن الحضرمي كان قد أضمر في نفسه أمراً عظيماً خطيراً لم يفكر فيه قائد إسلامي من قبل، ولا خطر لأحد من المسلمين على بال.
لقد عقد العزم على غزو دارين والظفر بالمرتدين المعتصمين بأسوار الماء.
لم يكن العلاء يجهل أن جنوده أبناء الصحراء يهابون البحر أعظم الهيبة، ويخشون مخاطرة أشد الخشية.
ولم يكن في حاجة إلى من يذكره بأنه لا يملك سفينة واحدة ينقل عليها جندياً واحداً من جنوده.
فكيف إذا كان يحتاج إلى أسطول ضخم ليحمل عليه هذا الجيش الكبير كله، كما يحتاج إلى جسور متحركة ليعبر فوقها هو ومن معه إلى اليابسة.
إن هذا كله كان يعرفه العلاء بن الحضرمي ويعرف معه أيضاً أن جزيرة دارينا تبعد عن شواطئ البحرين مسافةً تقطعها السفن الشراعية في يوم وليلة.
وعلى الرغم من ذلك كله إنه لم يتردد لحظةً واحدةً فيما عقد العزم عليه.
ولما أشبع العلاء الخطة بينه وبين نفسه بحثاً ودرساً وأوسعها تدبيراً وتقديراً، جمع عسكره ووقف فيهم خطيباً.
فحمد الله تعالى حق الحمد وأثنى عليه أجل الثناء، وصلى على نبيه محمد أكمل الصلاة وسلم عليه أزكى السلام.
ثم أخبر الجيش بما عزم عليه من عبور البحر وغزوي المرتدين اللائذين بدارين المتحصنين وراء أسوار الماء.
ثم أدار عينيه في وجوه الجند فوجد مئة سؤال تلوح على شفاههم وتكاد تنطلق من أفواههم.
فأوصد في وجوههم أبواب القول، خشية أن تبدر من أحدهم كلمة توهن العزائم وتثير الشكوك.
فأتبع يقول: لا تقولوا كيف لنا ذلك، وقد أراكم الله من آياته في البر ما لو تدبرتموه لأيقنتم بما ينتظرنكم من آياته في البحر، لا تقولوا كيف والله معكم.
ألم يملأ لكم الغدير بالماء العذب النمير في قلب صحراء الدهناء، فرواكم من عطش وأنقذكم من هلكة.
ألم يرد إليكم الإبل الشاردة في القفار الهائمة في الفيافي، فرأيتموها بأعينكم كأن ملائكة الرحمن.
تحفها بأجنحتها وتسوقها إلى مواطئ أقدامكم دون أن تفقدوا صاعاً من الزاد الذي فوق ظهورها أو جرعة من الماء الذي على متونها فأطعمكم من جوع وأمنكم من خوف وأنقذكم من هلاك.
إن الذي أجاب دعوتكم حين دعوتموه في جوف الصحراء مخبتين راجين واثقين فيجيب دعوتكم حين تدعونه، فتعبرون اليه للقاء عدوه صادقين مخلصين.
ثم أنهى كلامه قائلاً، أعدوا أنفسكم وأمضوا إلى لقاء عدو الله وعدوكم، وانتاطوا إليه ظهور خيولكم واعبروا على متونها ماء الخليج على بركة الله وتوفيقه.
فما كان منهم إلا أن قالوا بصوت واحد، نعم نفعل ما أمرتنا به أيها القائد الملهم، والله لا نهاب بعد الدهناء شيئاً إلا الله.
غزوة دارين
ركب الكماة الأشاوس صهوات الجياد الصافنات ومتون النوق الكريمات وتوجهوا نحو شاطئ البحر.
فلما غمسوا أقدام رواحلهم في الماء رفع القائد التقي النقي المؤمن كفيه إلى السماء وقال لجنده: رددوا معي.
ثم قال: يا أرحم الراحمين يا صمد يا قوي يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك عليك توكلنا وبقدرتك استعنا وبقولك اعتصمنا.
ثم عبر البحر أمامهم وأمرهم بالعبور وراءه فتبعوه، فكان الخليج يومئذ في أوان هدوءه وجزره، فجعلت الخيل والأبل تسبح فوق مائه الساجية، كأنها تمشي على رملة دميثه يغطيها قليل من الماء.
فلما بلغ الجيش شواطئ دارين، وثب الجند على البر وثوب الأسود على فرائسها، وجردوا سيوفهم البتارة من أغمادها، ومضوا يحصدون رؤوس أعداء الله حصدا.
وذهل المرتدون عن أنفسهم، وعما حولهم ودهشوا لهول المفاجأة المرعبة، و حاروا في أمر هؤلاء القوم.
فما يدرون اهبطوا عليهم من السماء، أم نبعوا لهم من الأرض، إذ لم يكن في وسعهم أن يتصوروا مجرد تصور أنهم جاؤوهم من البحر.
النصر والغنائم في غزوة دارين
وفي يوم وليلة طهر العلاء وجنده الجزيرة من المرتدين شبر شبر وذراع ذراع، ومسحوها من الشاطئ إلى الشاطئ جيئة وذهاب.
وذلك بعد أن قتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء وأحرزوا الأموال والأنعام.
ثم قسم القائد المظفر الغنائم بين جنوده فأصاب كل فارس ألفين، ولم يفقد المسلمون في عبورهم البحر رجلاً ولا حصاناً ولا جملاً.
سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين، فرجع العلاء إليها بنفسه وأعادها لصاحبها هذا.
إسلام الراهب بعد صحبة العلاء
ولقد مرّ الجيش المؤمن ببعض طريقة براهب من نصارى هجر، فاستئذان الراهب العلاء بن الحضرمي، في أن يصحبهم ويحتمي بهم، فأذن له.
فلما انتهت رحلت الجيش الظافر إلى ما انتهت إليه من جهد وجهاد ونصر مؤزر، وما وقع له في وقتها من أهوال وأحداث، وما أسبغه الله عليه من عون وفضل.
اهتزت مشاعر الراهب الخاملة واستيقظ إيمانه الغافي فأعلن إسلامه أمام الجيش وقائدة.
ولما عاد إلى قومة قالوا له: ويحك ما الذي حملك على أن تترك دينك وتعتنق الإسلام؟
فقال ثلاثة أمور: ولقد خشيت أن يمسخني الله بعدها إذا أنا لم أسلم، فقالوا وما هي؟
فقال ما سمعته من دعائهم في السحر، فيضان الماء لهم في رمال الصحراء التي لا ماء فيها ولا شجرة، وتذليل أمواج البحر تحت أقدامهم، فأيقنت أنهم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق وأنهم على الحق.
نضر الله وجه العلاء بن الحضرمي، فقد عاش مجاهد بلسانه وسنانه، وسيظل على الأيام أول قائد مسلم ركب متون البحار إعلاء لكلمة الله في الأرض.