إسلام

كيف تشكلت النواة الأولى من البعثة الشريفة في مكة؟


قليلة هي المصادر التي تتناول المرحلة الأولى من البعثة النبوية، وعن السنوات الثلاث الأولى في مكة.

وتتلخص بشكل رئيسي، بأن عدد من المسلمين الأوائل، قد بدأوا يلتحقوا بمجموعة النبي صلى الله عليه وسلم.

خديجة زوجة الرسول الكريم، علي بن أبي طالب، أسامة بن زيد، أبو بكر الصديق، عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، هذه المجموعة الأساسية من المسلمين.

ثم توسعت لتشمل شخصيات مقربة من البني الكريم، ونلاحظ أن معظم هذه الشخصيات، التي أسلمت مبكراً، كانت في الحقيقة، هي من القريبة نسباً.

مثل علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، ومن القريبين من النبي الكريم، مثل أبي بكر، فكان صاحبه، وعثمان بن عفان، زوج رقية ابنة النبي الكريم، وعبد الرحمن بن عوف.

فهذه المجموعة كلها، كانت في الحقيقة من المقربين، والثقات، لأن هناك مسألتان رئيسيتان في هذه المرحلة في مكة.

حاجة النبي الكريم إلى أشخاص ثقات في مكة

الأولى أن يكون هناك نبي بذاته، فهو بشر ويحتاج إلى تأهيل كبير، وإعداد، حتى يتحمل ثقل الرسالة.

ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم، مرحلة يحتاج فيها أن يستوعب كافة أبعاد هذه الرسالة الجديدة، التي تنزلت عليه.

وأن يعد نفسه من خلال بعض الإرشادات، التي جاءت في القرآن الكريم (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر).

ومن خلال قيام الليل، ومن خلال عصبة من الناس حوله من الثقات، الذين يرتاح إليهم، ويتحدث معهم، ويسندونه.

وبدأت تتشكل حول النبي الكريم، نواة أساسية رئيسية، من الناس المؤمنين به، المقتنعين به، والمقدرين للعبء الكبير، الذي يحمله.

بدء انتشار الدعوة بين المقربين وأصحاب النبي

بدأت الدعوة تنتشر بين أشخاص مقربين، فكان أبو بكر، يأتي ببعض المقربين منه، وعثمان كذلك الأمر.

وهذه المجموعة الصغيرة، كانت تشكل ما يشبه الاجتماع الدائم، مع النبي الكريم، ويناقش فيها الأسماء المطروحة.

وهذه المرحلة لم تكن مرحلة معلنة، لأن قريش حينها، كانت في أجواء ثقافتها وأديانها وتجارتها، فكان من الصعب التحدث بشكل عام، أمام أناس، بشيء جديد.

مع ملاحظة أن دار الندوة، كان يسيطر عليها المتشددون والمتعصبون، من صقور قريش، والمنتمين إلى حلف الأحلاف، المعارض لبني هاشم ولحلف المطيبين أساساً.

السور الأولى التي تنزلت على النبي الكريم

النقطة الأساسية أن أصل الدعوة، تشكلت في السور الأولى، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.

الآيات الخمس الأولى، من سورة العلق، والآيات السبع الأولى في المدثر، ومن بعد ذلك السور التي تنزلت، مثل الضحى والشمس والليل وقريش.

هذه السور على وجه العموم، كانت تتناول موضوعاً مهماً، فإن قرأتها تصل إلى نتيجة، أننا أمام شيء يختلف عن الجدل الدائر في قريش.

ليس هناك حديث عن أنساب الناس، وفضل قبائلهم على بعض، ولا حديث عن التجار، ولا عن المشكلات التي تعيشها قريش وغيرها.

ليس هناك حديث عن صغائر الأمور، من ثارات وديات وخلافات، وأصنام تعبد، ومواسم تعقد، فلم تكن حاضرة في القرآن الكريم.

بل القرآن أتى ليهيء تلك الفئة من الناس، لكي يتقبلوا ذهنية جديدة، وعقلية مختلفة، ويغادر القيم التي تناقش في ذلك الواقع الذي جاءوا إليه.

بقيم جديدة تبتعد بهم عن تفاصيل الخلافات حينها، وتلفت نظرهم إلى أشياء كثيرة، فكانت أول آية لفتت النظر هي (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

إعجاز الآيات وربطها بمنظومة الكون والإنسان

وهنا تأمل النبي الكريم في عبارة، ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، فهي نقلة عجيبة في الحديث، إلى النبي الكريم.

أن يتأمل في منظومة كونية، خارجة عن سياق الواقع في مكة، وهي منظومة تربط النبي الكريم، بعالم بعيد وفسيح وواسع، يختلف عن الجدليات والحوارات المنتشرة من حوله.

الخلق، الله، القراءة، هنا يتحد المنهج الإيماني، بالمنهج الكوني، في عبارة واحدة، وينقل العقل البشري، إلى تسامي غير مسبوق.

ولا معهود لا في الشعر ولا في النثر ولا في الخطابات، وكل السور العشر الأولى التي نزلت في هذه المرحلة في مكة تحدثت عن هذه الأمور

(الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها)

(والليل إذا يغشى)

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)

فهي قيم كونية، ترتبط في القيم بالإنسانية، في نفس الآيات، فكأن الله يقول لهم النفس والطبيعة والكون، كلها شيء واحد.

وهنا يلغي هذا الخطاب، ما قبله من خطابات، كانت تعتقد بها القبائل، من أن الشمس إله، أو القمر إله والنار لها قيمة خاصة.

فكل ذلك التغى، لأن الشمس والقمر والليل والنهار والنفس الإنسانية، كلها مجتمعة، تعود في أصل خلقتها لله سبحانه وتعالى، ومن هنا يتأسس مبدأ التوحيد.

ويذكرنا هذا بابراهيم عليه السلام، الذي بدأ أيضاً حجته على قومه، بالقمر والنجم والشمس، التي أفلت.

وكانت حجة أيضاً عقلياً وذهنياً، في مواجهة قومه، لذلك عقب الله سبحانه وتعالى، بعد قصة ابراهيم (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض)

ربطه بملكوت السماوات والأرض، وأن هذا الملكوت ليس جزءً قائماً بذاته، فهو مخلوق.

تكليف الرسول الكريم بنشر الدعوة بين أهله

والنقطة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ بعد تكليف إلهي، أنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك، لمن تبعك من المؤمنين.

بأن تحدث مع المجموعة القريبة منه قبلياً، بني هاشم وبني المطلب، وعددهم كما ذكر، خمس وأربعين شخصاً، جمعهم النبي الكريم على مائدة الطعام، وقال لهم:

إن رائد القوم لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تفعلون، فهي إما نار أبداً، وإما جنة أبداً.

أحداث مكة أثناء مرحلة الدعوة السرية

كان الناس يسمعون حديثاً متناقلاً عن النبي الكريم، فتتلى بعض الآيات هنا وهناك، ولكن قريش لم تنتبه كثيراً لهذا.

ظنت أن هذا الحديث مثل حديث ورقة بن نوفل، أو بن عمير، الذين كانوا يتحدثون عن بعض الأمور الدينية، الموروثة، وفضائل الأعمال فلا شيء يقلق.

فلم يكن وقتها تصادم بين الوضع الاجتماعي والسياسي والديني، الذي استحدثته قريش بين قبائل العرب حينها.

فحتى السنة الثالثة من البعثة، لا نعرف صدامات حقيقة، جرت بين المسلمين الأوائل، وبين أبناء قريش.

ربما كما تقول بعض الأخبار، في مرحلة السنة الثالثة، أصبح هناك كتلة من 60 شخص مسلم، يتوزعون على الطبقة الوسطى في المجتمع.

وكانوا كمنزلة، هم الطبقة الثانية في المجتمع، فهم من أتراب النبي سناً، أكبر أو أصغر بقليل، وكان منهم بعمر الشباب، الذين أسلموا من خلال أحاديث النبي وأصحابه معهم بشكل مباشر.

الدعوة كانت تنتشر بين كل طبقات المجتمع

والشيء المهم في هذه المرحلة، أن المجموعة الأولى، جمعت إليها بعض من الناس، الذين لم يكونوا مصنفين ضمن الشخصيات الكبرى، مثل عمار بن ياسر وغيره، فكانوا من الموالي.

وأشخاص كانوا ليسوا من الشخصيات التي كان لديها النسب المتصل، بالنسب القرشي، فكانت هذه المجموعة بتركيبتها، مثلت كل شرائح المجتمع القرشي.

وبرأي قد تكون مصدر القلق الرئيسي لقريش، فعندما كان يجتمع الرسول الكريم، مع أصحابه بين الناس، كانوا يتعاملون كأخوة، فكان هذا شعور غير مريح للطبقية القبلية القرشية.

ولكن مازال أن محمد لم يتحدث بشيء يغير من طبائع الأشياء، فكان لا بأس من وجوده، وبعد دعوته لأبناء عمه للدعوة.

انتهاء المرحلة السرية والبدء بنشر الدعوة

ولكن انتهت المرحلة الأولى، بالآية التي كان مفادها أنه، يا محمد قد جاء الوقت، أن تتحدث مع عشيرتك، لنشر الدعوة.

(وأنذر عشيرتك الأقربين)

وهذه العشيرة التي أمر الله سبحانه وتعالى، النبي أن يتحدث إليها، هي ليست عشيرة نسب فحسب، بل إن بني هاشم وعبد المطلب.

هم من زعماء الأحلاف والمطيبين، والقائمين على نصرة المظلوم في قريش، فهم في الأساس، الأدعى أن تخاطب.

لارتفاع منزلتها أمام البطون الأخرى المعادية، لقيم العدالة والمساواة، التي كانت تطرحها، الأفخاذ من حلف الأحلاف.

وبالتالي المسألة ليست فقط انتماء النبي الكريم لنسب بني هاشم وبني المطلب وحلفائهم، وإنما لأن هذه الكتلة، هي كانت الكتلة المؤهلة، أن تستمع برحابة صدر وتفهم، لخطاب جديد، يتفق في قيمه العليا، مع القيم التي تأسس من أجلها حلف الفضول، في مرحلة سابقة من البعثة النبوية الشريفة.

 وضاح خنفر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى